في معركة مبكرة، في أعقاب سقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، وتوليه السلطة، سارع المجلس العسكري الانتقالي المحلول، بإصدار قرار بتجميد جميع النقابات والإتحادات المهنية في البلاد بتاريخ 28 أبريل 2019م، لقطع الطريق أمام قيام نقابات جديدة، تسهم في تثبيت الثورة وطريق التحول الديمقراطي.
بعد حوالي أسبوعين من استيلائه على السلطة عقب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير عبر ثورة شعبية، سارع رئيس المجلس العسكري الانتقالي المحلول، عبدالفتاح البرهان، إلى إصدار قرار بتجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية في 28 أبريل 2019م
خطوة المجلس العسكري المحلول، لاقت انتقاداً كبيراً من القوى السياسية المعارضة وقتها وأجسام نقابية، بسبب أن القرار تحدث عن تجميد النقابات المحسوبة على النظام البائد وليس حلها. لكن تحت ضغط الثورة، تراجع المجلس العسكري، بعد أقل من شهر عن قرار التجميد.
استمرار محاولات تأسيس نقابات واتحادات جديدة خلال الفترة الانتقالية، أثنى القائد العام للجيش عبد الفتاح البرهان لفترة، لكن بعد يوم واحد من انقلاب 25 أكتوبر 2021م، أصدر قراراً بحل الاتحادات المهنية واللجان التسيرية التي كانت شكلتها لجنة إزالة التمكين، ليقطع بذلك الطريق على محاولات القوى الثورية أثناء الفترة الانتقالية بتشكيل نقابات منتخبة من قواعدها، بدلا عن لجان التسيير المعينة من الحكومة الانتقالية. البرهان لم يكتف بذلك، بل حاول إعادة نقابات النظام البائد للواجهة مرة أخرى.
ومع ذلك، لم تتوقف محاولات البرهان، في محاولة إعادة تشكيل المشهد النقابي لصالح النظام المخلوع، فأصدر قراراً في الثامن والعشرين من نوفمبر الماضي، بتجميد نشاط النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل.
في خطوة سبقها إصدار قرارات قضائية بإعادة رموز من النظام المخلوع كان قد تم فصلهم في عهد الحكومة الانتقالية. كما أعلن عن تشكيل لجنة برئاسة مسجل عام تنظيمات العمل بوزارة العدل لتكوين لجان تسيير للنقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل وتحديد وحصر أرصدة وحسابات هذه النقابات المجمدة داخل وخارج السودان ووضعها تحت السيطرة. قبل أن يصدر قرار قضائي من المحكمة العليا في الثالث والعشرين من يناير الماضي، بتوقيف قرار البرهان.
احتجاجات وإضرابات مستمرة
رغم العراقيل التي ظلت توضع لمنع العمال والمهنيين من ترتيب أنفسهم وإكمال تشكيل أجسامهم النقابية، بدلاً عن لجان تسيرية تعمل في ظل ظروف سياسية معقدة تفتقر لأبسط مظاهر الديمقراطية. استمر المهنيون والعمال في الاحتجاج بشكل متواصل أمام المقار الحكومية مثل وزارتي: المالية والتعليم العالي ومجلس الوزراء، احتجاجاً على سياسات الدولة الاقتصادية.
بالإضافة للإضرابات والوقفات الاحتجاجية التي شهدتها عشرات المؤسسات في قطاعات التعليم والصحة والنقل والصناعة والتجارة والموانئ العام الماضي. وحسب إحصاءات غير رسمية، فإن الإضرابات المتكررة في القطاعات المختلفة تسببت في ضياع أكثر من 80 يوماً من العمل خلال عام 2022م.
وأسباب استمرار هذه الموجة من الإضرابات، هو عدم إيفاء موازنة العامين الماضيين باستحقاقات العاملين، في ظل ظروف اقتصادية طاحنة تشهدها البلاد، علاوة على حالة عدم الاستقرار السياسي.
وفي خضم هذه الاحتجاجات والإضرابات، حاول وزير المالية بحكومة الأمر الواقع، جبريل إبراهيم شرح تفاصيل موازنة العام 2023م.
وقال في تصريحات صحفية إن “الموازنة الجديدة للعام 2023م تعتمد على الموارد الذاتية للدولة من رسوم جمركية وضرائب ورسوم مصلحية وغيرها من الإيرادات الذاتية “، قبل أن يشير إلى أن تدفق المنح والقروض يعتمد على تكوين حكومة بقيادة مدنية لاستكمال ما وصفه بالإصلاح الاقتصادي الذي بدأ تنفيذه في العام قبل الماضي بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما أثار تساؤلات عن مصير الموازنة، حال لم تلق هذه الدعومات، وتأثير موازنة هذا العام على حجم الإضرابات التي ستنفذ وتأثيرها على الدولة.
لكن تصريحات إبراهيم التي بدأ إطلاقها منذ ديسمبر الماضي غلب عليها طابع التناقض. فتارة يشير إلى تفاؤله بالعام الحالي ويعد بحل مشاكل البلاد والعاملين بالخدمة المدنية، واصفاً موازنة العام الحالي بالواقعية. وتارة أخرى، يعترف بوجود عجز يحتاج لدعم خارجي، هذا غير الاختلاف في أرقام مبلغ الموازنة.
وكانت الحكومة الانتقالية السابقة، قد بدأت في تنفيذ خطة إصلاح اقتصادية بمراقبة البنك الدولى لإعفاء ديون السودان الخارجية، والحصول على دعم ومساعدات طارئة، لكن هذه الجهات اشترطت وجود حكم مدني في السودان للحصول على هذه الدعومات مما أدى لتعليقها بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م.
توحيد الهيكل الراتبي هو الحل
“دائرة الإضرابات ستتسع أكثر فأكثر في ظل حالة الفراغ الحكومي الآني الذي أعقب انقلاب 25 أكتوبر 2021م، في ظل عدم وجود نقابات رسمية”، بحسب تصريح صحفي للخبير في مجال العمل النقابي محمد خوجلي، والذي أضاف موضحاً أنه : “حتى الحلول والعلاجات الطارئة لقضية الإضرابات، تفتقر إلى الخبرات الكافية وخصوصاً من قبل الحكومة التي تصرف الحوافز من دون أدنى ضوابط أو معايير، ما خلق الكثير من الظلم وسط الفئات المختلفة”.
وانتقد خوجلي دور وزارتي العمل والإصلاح الإداري والمالية اللتين فشلتا تماماً وفق ما قال في إدارة الملفات المنوطة بها، لا سيما الاختلال الكبير في الرواتب والمخصصات من وزارة إلى أخرى ومؤسسة إلى أخرى، مشيرا إلى أن المعالجة النهائية تكمن في التوحيد الكامل للهيكل الراتبي بما يخلق عدالة بين جميع القطاعات.
عام الإضرابات
في العام الماضي، انخرطت قطاعات التعليم والصحة والصناعة والتجارة في إضرابات متتابعة للمطالبة بتحسين الخدمات والأجور امتداداً للحراك الذي بدأ منذ العام 2021، وبعض هذه المطالبات رفعت شعارات إسقاط الانقلاب.
بدأ موظفو بنك الخرطوم العام الجديد 2023م بالإضراب عن العمل فى أكثر من 80 فرع بالخرطوم وعدد من الولايات، ضمن سلسلة إضرابات بدأت في ديسمبر الماضي، احتجاجًا على الفصل التعسفي الذي طال 210 موظفين و547 حالة إنذار بالفصل، لحقها فصل 10 أعضاء من مبادرة موظفي بنك الخرطوم. وتركزت مطالب الموظفين وقتها في تحسين الأجور وإعادة المفصولين.
وامتداداً، لما بدأته في 29 أغسطس من العام 2021م، بعد تقديمها مذكرة إلى رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، تطالب فيها بتحسين وضع الأستاذ الجامعي وتطبيق هيكل راتبي خاص بالأساتذة أُسوةً بالقُضاة والمُستشارين، أعلنت لجنة أساتذة الجامعات السودانية عودتها للإضراب الشامل في 2 يناير 2022م.
وفي الثاني من فبراير 2022م، قررت وزارة المالية، بعد اجتماع مشترك مع لجنة أساتذة الجامعات تكوين لجنة لمعالجة قضية الهيكل الراتبي لأساتذة الجامعات السودانيين. وفي أبريل 2022 استجابت سلطة الأمر الواقع لمطالب أساتذة الجامعات انتهت بإعلان اللجنة عبر بيان لها عن تعليقها الإضراب ابتداء من الثامن من مايو بشروط تحقيق مطالب صرف المتأخرات، وتكملة الهيكل الاستثنائي. حيث استجابت السلطات لأساتذة الجامعات و أجازت الهيكل الراتبي وأفرجت عن مرتبات معدلة لأساتذة الجامعات في مايو 2022 بعد نحو عام من الإضراب المستمر. لكن مع ذلك، عاود الأساتذة الإضراب أكثر من مرة بسبب عدم إيفاء وزارة المالية بمستحقات الراتب الجديد بعد أشهر وحتى بداية العام الحالي منذ 10 يناير الماضي.
أيضاً، شهد قطاع التعليم تنفيذ لجنة المعلمين السودانين إضراباً عاماً عن العمل بجميع مدارس البلاد، بتاريخ 10 مارس 2022م، احتجاجاً على تشوه الهيكل الراتبي بعد رفع اللجنة مذكرة إلى وزارة المالية تتضمن ثلاثة مطالب تمثلت في: (رفع الحد الأدنى للأجور إلى 24 ألف جنيه، إزالة الازدواجية في الرواتب وصرفها بهيكل واحد – هيكل 2022. المعدل، وصرف راتب فبراير معدلاً مع صرف فرق يناير في مارس).
وبعد استمرار المالية في تجاهل مطالبها، عاودت اللجنة إضرابها مرة ثانية في الثالث من أبريل العام الماضي حتى السابع من أبريل واستمر الإضراب حتى موعد امتحانات الشهادة الثانوية الأمر الذي دفع اللجنة لتقديم طلب بتأجيل موعدها.
تقديم مذكرة
بعد شهرين من الإضراب قدمت لجنة المعلمين مذكرة لوزير التربية والتعليم بحكومة الأمر الواقع، محمود سر الختم الحوري، بتاريخ 8 مايو 2022، تطالبه فيها بتمديد مواعيد امتحانات الشهادة الثانوية المزمع قيامها وقتها في 11 يونيو 2022م، استنادا إلى دراسة أجرتها، أثبتت أن بعض الولايات لن تستطيع إكمال المقررات الدراسية قبل الموعد.
وقالت اللجنة: “اتضح لنا من خلال الدراسة التي شملت الولايات الأكثر تأثراً بالإضراب، الحاجة الماسة لتأجيل امتحانات الشهادة السودانية لمدة ثلاثة أسابيع حتى تتاح عدالة الفرص في التحصيل لأبنائنا الطلاب، والتي تباينت من ولاية لولاية، ومن تعليم حكومي إلى تعليم خاص. وهذا بدوره أمر يقتضي النظر إليه وأخذه في الاعتبار”، لكن الوزارة رفضت الطلب وتمت إقامة الامتحانات في ظل ظروف صعبة.
ومع بداية العام الحالي، أعلنت اللجنة عودتها للإضراب بالتزامن مع الإعلان عن الموزانة الجديدة. ففي 12 مايو 2022م، أضرب العاملون في ولاية شمال كردفان احتجاحاً على عدم تنفيذ الهيكل الراتبي لموظفي الخدمة المدنية عدا المعلمين واستمر لما يزيد عن الـ٣ أشهر.