قبل أكثر من 15 عاماً، بدأت تتشكل ملامح حركة مقاومة سلمية مدنية ضد النظام البائد، في مناطق شمال السودان. برزت أولاً خلال مناهضة فرض نموذج “التنمية بالقوة” الذي تبناه النظام آنذاك، فإنشاء سد مروي الذي بدأ العمل به في العام 2003م واكتمل في العام 2009م، لم يكن محل ترحيب السكان المحليين، الذين تخوفوا أن يفقدهم السد أراضيهم الزراعية والسكنية، ويدمر حيواتهم وقراهم ويهجر سكانها إلى المجهول. فذاكرة الشمال مثخنة بجراح تهجير أهالي وادي حلفا منذ القِدم.
وقد كان أن تحققت تلك المخاوف، إذ تسبب إنشاء سد مروي في تهجير نحو 75 ألف من سكان المناطق المحيطة بمنطقة السد أو المتأثرة بإنشائه.
أهملت الحكومة مطالب السكان المحليين ولم تهتم بقضايا التعويض العادل لهم، وأثار ذلك حفيظة المواطنين الذين بدأوا في تشكيل حراك احتجاج سلمي رافض لإنشاء السد، واجهته السلطة بالقوة والعنف المفرطين. فـفي العام 2006م نظم مناهضو سد مروي تظاهرات سلمية في منطقة وادي العرقوب، بأمري، إحدى المناطق المتأثرة بإنشاء سد مروي، واجهتها الشرطة بالرصاص الحي وقتلت ثلاثة من المحتجين، وجرحت نحو 40 آخرين، واعتقلت القوات الأمنية العشرات من أهالي المنطقة.
وفي العام 2007م، أعادت الحكومة ذات السيناريو في منطقة “كدنتكار” بكجبار شمالي مدينة دنقلا، إذ أعلنت الحكومة عن خطتها لإنشاء سد بمنطقة كجبار، وأيضاً رفض الأهالي قيام السد، ونظموا تظاهرات سلمية للتعبير عن رفضهم، وواجهتها الشرطة بالقمع واستخدمت لتفريقها الرصاص الحي، وقتلت أربعة مواطنين، وأصيب نحو 15 آخرين، واعتقل العشرات من المواطنين.
كان الحراك الرافض لإنشاء السدود بالولاية الشمالية -في منطقتي كجبار ودال- تقوده اللجنة الشعبية لمناهضة سد كجبار، التي توسعت لاحقاً لتستوعب الحراك الرافض لإنشاء السدود في الولاية الشمالية، خاصة عندما أعلنت الحكومة البائدة عن تخطيطها لإنشاء نحو عشرة سدود بشمال السودان، حددت منها كجبار ، ودال، والشريك.
تحولت حركة مناهضة السدود إلى حركة مطلبية متماسكة ذات نهج واضح في عمل المقاومة السلمية، فلم تقتصر المطالب فقط في توفير الخدمات الأساسية والسكن الملائم لمتضرري السدود، بل إلى لفت النظر إلى تجاهل الحكومات لحقوق الأهالي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى رفض “فرض التنمية بالقوة”، وإلى رفض نهب الأراضي والثروات.
شكلت حركة مناهضة السدود بذرة المقاومة السلمية الأولى في شمال السودان، التي توسعت لاحقاً لتلفت النظر إلى نهب ثروات البلاد بأكملها، وليس نهب ثروات الشمال فقط.
حركة المقاومة السلمية عقب ثورة ديسمبر
أتاحت مساحة الحريات التي انتزعها الشعب السوداني عبر ثورة ديسمبر المجيدة، ظهور أشكال جديدة من تنظيمات المقاومة. فبجانب ميلاد لجان المقاومة في القرى والأحياء والقرى، تشكلت العديد من الأجسام المطلبية، والحقوقية وكيانات الطلاب والمهنيين، وتجمعات عائلات شهداء ثورة ديسمبر، ولجان التغيير والخدمات، ولجان متأثري سد مروي، والاتحادات المناطقية، وخلافها من الكيانات المدنية.
لم تنفصل حركة المقاومة السلمية بمدن وقرى الولاية الشمالية عن الحراك الثوري الذي انتظم جميع أرجاء السودان المناهض لانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م، وكانت لجان المقاومة بالولاية الشمالية تنظم مسيراتها السلمية ووقفاتها الاحتجاجية بالتزامن مع جداول الحراك الثوري الذي تقوده لجان المقاومة بكافة مدن السودان.
الحراك المناهض للسياسات الاقتصادية
أخذت أشكال المقاومة السلمية التي انتظمت الولاية تنحى باتجاه المطالب والحقوق الاقتصادية والسياسية بشكل متزايد، نتاج ما أفرزته ثورة ديسمبر من عمل مشترك وتفاكر متواصل بين لجان المقاومة والكيانات المدنية الأخرى بالولاية المترامية الأطراف، فانتظمت في أرجاء كثيرة من الولاية اعتصامات سلمية خلال العامين الماضيين، رفعت العديد من المطالب للمسؤولين، وحركت راكد الواقع بمختلف أشكال المقاومة السلمية.
في مطلع العام 2022م، فوجيء سكان الولاية بتطبيق زيادات كبيرة على أسعار الكهرباء، وطُبقت التسعيرة الجديدة للكهرباء فوراً على استهلاك القطاع الزراعي، كما شملت التسعيرة الجديدة زيادات كبيرة للاستهلاك المنزلي أيضاً.
كان قرار تطبيق الزيادات الكبيرة على أسعار الكهرباء بمثابة الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات السلمية الواسعة، في الولاية، الرافضة للسياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة، والمتمثلة في زيادات أسعار الكهرباء، وخلافه من إجراءات رفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات الأساسية، فقد مست هذه الزيادات عصب حياة الناس هناك، إذ أن اقتصادهم وسبل كسب عيشهم تعتمد بالأساس على الزراعة، ونظراً لارتفاع أسعار الجازولين وانعدامه في كثير من الأحيان، أصبحت الزراعة تعتمد كلياً على الكهرباء، وبالتالي فإن زيادة أسعار الكهرباء للقطاع الزراعي تعني عملياً تعطيل الموسم الزراعي الحالي، خاصة وأن الزيادات الجديدة طُبقت أثناء الموسم، وبدون أي تحوطات مسبقة من قِبل المزارعين.
مسألة الكهرباء نفسها في الولاية، تعتبر أحد مسببات الغبن، فالولاية التي خسرت الكثير من الأرواح والممتلكات وسبل العيش خلال مرحلة إنشاء سد مروي، لم تستفد من كهرباء السد بالصورة المثلى والمتوقعة، فقد وعدت الحكومة السابقة سكان الولاية بإعفائهم من رسوم الكهرباء لمدة عامين، ووعدت بتوفير الكهرباء للمشاريع الزراعية، لكنها لم تف بوعدها.
بعد أن أصبحت التسعيرة الجديدة للكهرباء واقعاً مفروضاً على المزارعين وأصحاب المشاريع الزراعية وكافة السكان المحليين، وبعدما بات الموسم الزراعي مهدداً بالفشل والخسائر، تحرك بعض المزارعين وملاك المشاريع الزراعية ورؤساء إدارات المشاريع والفاعلين لمجابهة المشكلة التي تهدد موسم زراعتهم، وحياتهم وسبل عيشهم.
انتظم الحراك في مناطق متفرقة من الولاية شاسعة الحدود، ففي أقاصي شمال الولاية (مناطق: دنقلا، والقولد، والحفير، والبرقيق) انتظم المزارعون ولجان المقاومة في حراك مناهض لزيادات الكهرباء تخللته مطالب أخرى.