مع صعود المغنية مروة الدولية، يوم الثلاثاء الماضي، على خشبة مسرح منتزه المقرن العائلي بالعاصمة الخرطوم، وسط تصفيق وصافرات الجمهور، لإحياء حفل تخريج طلاب وطالبات من جامعة القرآن الكريم، بدا كما لو أن المشروع الحضاري القائم على إعادة تشكيل السودانيين وتحديد أنماط معينة من الفنون، سقط من مخيلة الخريجين، بعد نحو ثلاثة عقود من تأسيس الجامعة.
وقف الطلاب والطالبات على أرضية المسرح، وكانوا يتزيون بالقمصان البيضاء التي تحمل عبارات تعبر عن عنهم وعن رحلتهم في الجامعة، ورددوا الأغاني ورفعوا “البلاغات”؛ أي كتابة أسمائهم في الهواتف، ومن ثم توجيهها للفنانة حتى ترددها خلال غنائها.
نظمت الحفل شركة مختصة في تنظيم الفعاليات وحفلات التخرج، وحسب إفادة الشركة المنظمة لـ(بيم ريبورتس)، فإن عدد الخريجين/ات تراوح ما بين 80 إلى 90 طالب وطالبة من كليات الجامعة المختلفة، وعند استفسار منظمي الحفل عن الأمر، قال مندوبها، إن الطلبة والطالبات هم من يقررون بشأن فنان الحفل.
وكان بوستر الإعلان عن الحفل قد انتشر قبل أيام من قيامه، وأثار جدلاً واسعاً بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي. تراوحت الآراء ما بين رافض لإقامة طلبة الجامعة لحفلات في الأساس، وآخر مؤيد لحق الطلبة في الاحتفال بالطريقة التي يرونها مناسبة وأن طلبة الجامعة مثلهم والجامعات الأخرى التي تنظم فعاليات مشابهة.
والجدير بالذكر أنه في العام 2012م منع وزير التعليم العالي والبحث العلمي حينها خميس كجو كندة إقامة حفلات تخرج الجامعات في الأندية والصالات، وأن تقام داخل الحرم الجامعي تحت إشراف إدارة الجامعة والأساتذة. وللمفارقة، أن نفس هذا الوزير قد أعلن بعد عام أنه سيكون على قيادة خمسة آلاف من الطلبة الذين وصفهم بـ حملة لواء الجهاد، للقتال في حرب سياسية ضد الجبهة الثورية في أب كرشولا.
الحركة الإسلامية والقطاع الطلابي
اهتمت الحركة الإسلامية منذ بداياتها المبكرة بالقطاع الطلابي في الجامعات والمدارس العليا، بل كانت هذه المؤسسات هي الحاضنة الأولى للحركة، والتي انحدر منها معظم قادتها التاريخيين وعلى رأسهم زعيم الحركة حسن عبد الله الترابي. تكونت الحركة في نهاية أربعينات القرن الماضي وكان قوامها فصيلين، الفصيل الأول انتشر في الأوساط الاجتماعية وعٌرف بـ “الإخوان المسلمين” وهو امتداد لحركة الإخوان في مصر، أما الفصيل الآخر فهو القطاع الذي عمل في الأوساط الطلابية وعرف بـ “حركة التحرير الإسلامي”.
بعد ذلك عرفت الحركة باسم جبهة الميثاق الإسلامي في الفترة 1965/ 1969م، كما عرفت في الجامعات باسم ” الاتجاه الإسلامي، وفي العام 1985م سُميت بالجبهة الإسلامية القومية، وبعد استيلائها على الحكم عبر انقلاب 30 يونيو 1989م عملت الحركة على تمكين نفسها في المؤسسات الجامعية الموجودة عبر تكوين أجسام مختلفة مثل “كتائب المجاهدين” و”الأمن الطلابي”، بالإضافة إلى تأسيس جامعات جديدة تكون حاضنة أيدلوجية لفكرها وخط الإسلام السياسي الذي تتبناه من بينها جامعة القرآن الكريم، وجامعة أفريقيا العالمية، التي تم ترفيعها إلى جامعة في العام 1991م، حيث كانت فيما قبل “المعهد الإسلامي الأفريقي” (1966م) ثم تغير الاسم إلى “المركز الإسلامي الأفريقي” عام 1977م.
المشروع الحضاري
مشروع الحركة الإسلامية أو ما يعرف في أدبياتها بالـ “المشروع الحضاري” هو رؤية أيدلوجية وخطة كاملة الهدف منها “إعادة صياغة الإنسان السوداني والحياة الاجتماعية”– حسبما كانت تدعي الحركة. بدأ الإعداد لهذا المشروع من قبل صعود الحركة على سُدة الحكم، وذلك من خلال تكوين واجهات لعملها على شكل منظمات دعوة، ووكالات اغاثة، وجمعيات ومنظمات طوعية خيرية، ومصارف، وشركات تأمين وتجارة بداية من العام 1978م.
استمر هذا الأمر وتشكلت ملامحه بعد استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة، حيث عملت طوال سنينها على إحداث تغييرات هيكلية واستخدام جهاز ومؤسسات الدولة المختلفة، والتبشير بدعوات الجهاد بين الشباب لكي يشكل منها مجموعات قتالية في معاركه، بالإضافة لتغيير القوانين و أسلمتها.
بلغ هذا الأمر ذروته بصدور دستور 1998م والذي نص على أن “الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول”. إذن، فالمشروع الحضاري في الأساس يقوم على هندسة المجتمع، والتحكم في حياته السياسية والاجتماعية والثقافية، ومراقبة السلوك والذوق العام عبر أجهزة الدولة وممارساتها، والمثال الأكثر وضوحاً لذلك منظومة “النظام العام” المتكونة من قوانين ولوائح وأوامر محلية وشرطة مختصة ونيابة و محاكم إيجازية.
تاريخ وتَوجه جامعة القرآن الكريم
أنشئت جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية في يونيو 1990م، أي بعد عام واحد فقط من استيلاء الجبهة الإسلامية على السلطة عبر انقلاب عسكري، وجاء ذلك نتيجة لقرار بتوحيد كلية القرآن الكريم التي أنشئت عام (1981م) ومعهد أم درمان العلمي الذي أنشئ (1983م)، وكان يضم كلية الشريعة وكلية اللغة العربية وكلية البنات.
ثم أقامت الجامعة كليات في تخصصات الدعوة والإعلام والاقتصاد والإدارة والتربية وكلية للدراسات العليا، ونجد أن إضافة كليات أخرى قد جاء ليخدم هدف التحكم في إدارة الدولة عبر خريجي الجامعة الحاملين لفكر ذو توجه إسلاموي، بالإضافة لدعم الحركة بالشباب للقتال ضد خصومها السياسيين، وذلك عبر تصوير تلك الحروب على أساس ديني يتطلب “الجهاد” واستنفار الطلاب والطالبات.
ونجد في موقع الجامعة تصريحاً بتاريخ 5/6/2012 من نائب مدير الجامعة حينها، أحمد سعيد سلمان، على خلفية القتال الذي دار في منطقة هجليج (2012م) بين الحكومة والحركة الشعبية، حيث يستنفر فيه الأساتذة والطلبة للجهاد ويقول “ عُرفت الجامعة بتفردها في كثير من المجالات وبالتحديد في هذا المجال ، فقد سبق للجامعة أن أغلقت أبواب قاعاتها ومعاملها ومكاتبها وذهبت بقضها وقضيضها ( أساتذةً، وطلابًا ، وعاملين) إلى ميادين التدريب والإعداد حتى أتقن منسوبوها حمل السلاح واستخدامه بكل مستوياته من خفيف وثقيل، وقد كانت لها مشاركات في سوح الجهاد توجت بعدد كبير من الشهداء من الطلاب والعاملين تجاوز مائة وخمسين شهيدًا وقد أقامت احتفالية كبيرة عندما بلغ عدد شهدائها مائة وأربعة عشر شهيدًا متطابقًا مع عدد سور القرآن الكريم الذي هو منهجها وهادي فكرها”.
وفي هذا السياق يمكن فهم الجدل الذي أثاره هذا الحفل في أن جامعة القرآن الكريم هي أحد الأذرع التي اعتمدت عليها الحركة الإسلامية ممثلة في نظام الإنقاذ لتنفيذ مشروعها الحضاري في السودان. كما نجد أن من الشروط العامة للقبول في الجامعة هو حفظ عدد من أجزاء القرآن، وهذا الشئ مفهوم فيما يتعلق بكلية القرآن الكريم: حيث يجب على الطالب أو الطالبة حفظ عشرة أجزاء من القرآن، لكنه يثير التساؤل في الكليات الأخرى كالآداب، والحاسوب، واللغات مثلاً حيث يجب على الطالب حفظ ثلاثة أجزاء كشرط لقبوله.
لكن كيف سقط مشروع الحركة الإسلامية والتي وظفت كل مؤسسات الدولة في تنفيذه، وكونت أجساماً موالية لها في الجامعات المختلفة من وحدات جهادية وأمن طلابي، ونشر أفراد جهاز أمنها. وممارسات العنف وقتل الطلاب المعارضين لها؟
جيل ما بعد الإسلام السياسي
حرصت الحركة الإسلامية الممثلة لاحقاً في نظام الإنقاذ في احتكار كل مصادر المعلومات والمعرفة، أو توجيهها بما يتوافق مع سياساتها، لذلك كانت تحكم سيطرتها ورقابتها على كل البرامج التي تبث عبر الوسائط المختلفة؛ التلفاز والراديو والصحف والمجلات محكوماً من خلال جهاز أمنها. بالإضافة للتضييق على المختلفين عنها من صحفيين وكتاب وسياسيين و مطاردتهم وملاحقتهم بالاعتقالات والقتل. وكل ذلك كان أداة للسيطرة وتوجيه المجتمع.
لكن مع ظهور الانترنت، انفتح الباب على مصراعيه أمام التيارات الفكرية والثقافية التي تم حجبها عن قصد، وظهرت مساحات أخرى على شكل المدونات المنتديات التي شهدت سجالات طويلة ومساحات خارج سيطرة النظام وسلطته. ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي حيث أصبح بمثابة إعلام بديل لإعلام السلطة. ليصبح الجيل الذي ولد “زمنياً” في عهد الإنقاذ هو جيل “كوني” متعدد المصادر التي يستقي منها قيمه، وله مفاهيم أخرى للدين والثقافة والسياسة.
منهج موجه وتعامل إجرائي
الشروط التي تفرضها الجامعات على طلابها ليست مقصورة على جامعة القرآن الكريم فقط، فكل الجامعات السودانية بها ما يعرف بـ “متطلبات الجامعة”، ومن ضمن هذه المواد الدراسات الإسلامية وهي المادة المصممة كتوجيه من قبل النظام الشئ الذي يتضح في مواضيعها؛ حيث تشمل الولاء والبراء وتصنيف وتجريم الحركات الفكرية الأخرى. ونجد أن طلاب الجامعات الذين لا يتفقون مع ما تحمله هذه المواد يتعاملون معها بصورة اجرائية، حيث يدرسونها بصورة اجرائية وخلال الامتحانات يكتبون ما يتوقع منهم أن يكتبوه سعياً للنجاح دون أن يكونوا مقتنعين به بالضرورة، وفقاً لآراء كثير من الطلاب.
ينسحب هذا الأمر أيضاً على جامعة القرآن الكريم، خاصة بعد إنشائها لكليات أخرى في مجالات الاقتصاد والحاسوب واللغات، وحيث أن النسب المطلوبة لدخول هذه الكليات أقل مقارنة مع جامعات أخرى فقد جذبت طلاباً لا يتفقون بالضرورة مع توجه الجامعة والممارسات التي تتم فيها والسلوك والحياة التي تحاول بثها. وأتاح وجود طلاب بفكر مغاير كسر حلقة تمدد مشروع الحركة الإسلامية، حيث أصبحت هناك تنظيمات سياسية أخرى وتوجهات فكرية متعددة.
فسقوط الحركة الإسلامية ومشروعها في الجامعات هو في الأساس كسر تمكينها في مؤسسات التعليم وأجسامها الأمنية والجهادية التي تمارس العنف ضد نشاط الحركة الطلابية السودانية الذي لا يتوافق مع ايديولوجيتها.