يذخر السودان، على امتداد جغرافيته الشاسعة، بتنوع ثر، عرقي وثقافي وديني ولغوي، وحتى التنوع المناخي والبيئي، وكثيراً ما دارت السجالات، في الماضي، لنفي هذا التنوع، وتحولت بعضها إلى حروب واقتتال. لكن برز جيل سوداني جديد يؤمن بأهمية الاعتراف بالتنوع، واستلهامه لرتق جراحات الحروب وتضميدها وبث اصوات السلام والموسيقى.
يُسافر الموسيقار والمغني محمد آدم أبوه، غرباً إلى منطقة سويلقنا (شرقي ولاية شمال دارفور)، حاملاً معه مشروعه في خلق مساحات جديدة للمجموعات التي لم تلق حظها من التمثيل الإعلامي، فيدخلنا إلى عوالم مجموعة (الكِينين) الإثنية أو طوارق السودان كما يعرفون، نلتقي بنسائها وشيوخها ويعرفنا على تاريخ هذه المجموعة، عاداتها وتقاليدها ومن ثم يستلهم لغتهم من خلال إنتاج موسيقى تستصحب هذا التراث الغني والمتنوع.
ومن جهة ثانية يمزج الفنان إيبو كردوم، الألحان الأفريقية مع بعضها مستلهماً تجارب البلوز الأفريقي ويواصل خلق مساره الموسيقي الخاص مستخدماً اللغات المحلية في السودان وأفريقيا، ويغني من أجل السلام والحرية والثورة، وهو مشروع موسيقي بدأه منذ نعومة أظافره.
ننتقل من موسيقى البلوز والجيتار إلى الفنان وباحث الفلكلور عاصم الطيب قرشي يتوسط تلميذات في مرحلة الأساس بجنوب كردفان ويعلمهنْ قواعد اللغة العربية من خلال تلحينها وغنائها، وفي مرة ثانية تلمحه رفقة بعض بائعات الشاي يغني لهن ومعهن بلغاتهنْ المحلية وأغاني من الحقيبة، وفي ثالثة يكون في إقليم النيل الأزرق تحديداً في منطقة الأنقسنا يغني مع فرقها الشعبية.
مشروع نقارة… جسر بين الثقافات
يوضح مؤسس مشروع نقارة محمد آدم لـ (بيم ريبورتس): “نقوم بجمع وتوثيق وعرض التنوع الثقافي عبر الموسيقى الشعبية لكل إثنية في السودان بصورة عامة”. ونقارة هو مشروع موسيقي ثقافي يقوم على البحث الاجتماعي وتعزيز الثقافات السودانية وربط الثقافات مع بعضها البعض.
ويضيف آدم “يركز المشروع على دارفور باعتبارها منطقة شهدت نزاعات لفترة طويلة ولا يعرف الناس عنها الكثير، في حين أنها منطقة غنية بالتنوع الثقافي الكبير بالإضافة للتنوع اللغوي والتاريخي ولكل مجموعة طريقتها في الغناء والكلام”.
فمن خلال الجهد الذاتي بدأ مشروع نقارة في 2021م، وشكلت نواته مجموعة من الشباب؛ فنانين وباحثين اجتماعيين، وعمل المشروع في بدايته مع مجموعة (الكينين) في دارفور، ومجموعة (الداجو) بالإضافة إلى (البجا) في شرق السودان.
ويقول آدم: هدف المحتوى الذي ننتجه أن يربط المجتمع المعين مع تاريخه وموسيقته وثقافته المهددة بالضياع، لأن معظم الناس تركوا مناطقهم بسبب النزاعات وذهبوا إلى أماكن جديدة، فهي محاولة لربط الناس بأصولهم، بالاضافة لأن يكون هذا المحتوى وسيلة للتواصل مع الجماعات المختلفة.
عاصم الطيب.. الموسيقى كطريقة للمقاومة
يرى عاصم الطيب قرشي أن للموسيقى جانب اجتماعي كبير، في تعزيز السلام والمحبة، لذلك نجد أن عاصم مهموم بالمحافظة على التراث الموسيقي للمناطق المتأثرة بالنزاعات في إقليم النيل الأزرق (جبال الأنقسنا). إلا أن مشروع عاصم لا يقف هناك فقط، بل يمتد من الروصيرص إلى منطقة البطانة والجموعية وكل المجموعات الإثنية في السودان جنوباً وغرباً، شمالاً وشرقاً. وفي أسفاره هذه يقوم قرشي بالبحث عن القواسم المشتركة في الموسيقى وآلات العزف بين المجموعات المختلفة، ليمزج كل هذه الثقافات المتعددة والمختلفة مع بعضها البعض ويعيد انتاج الموسيقى السودانية بآلات جديدة وتوزيع موسيقي جديد.
إيبو كردوم.. موسيقى من أجل السودان وأفريقيا
“سلام سلام، سودانا وطن الجميع… دارفورنا وطن الجميع… أفريقيا أرض الجميع” على إيقاع موسيقى البلوز يصدح إيبو بهذه الكلمات في أغنيته وطن للجميع من ألبوم سلام، ويغني إيبو من أجل العدالة والسلام والحرية والمساواة والتنوع والثورة من أجل السودان وعموم أفريقيا. لذلك نجده يستخدم لغات مختلفة ومتنوعة.
ففي ألبومه (Diversity) يوجد ما لا يقل عن 8 لغات، تشمل الفولاني، الفور، الدارجية السودانية، المساليت، البجا، الداجو بالإضافة للغة الأنجليزية ويمثل هذا التنوع انعكاساً لمشروع إيبو المتمثل في تمكين الموسيقى الأفريقية في السودان، حيث لم تجد حظها من الاعتراف أو تتاح لها المساحات للتواجد في الفضاء الغنائي السوداني. ويقول إيبو أنه فنان ملتزم تجاه الناس وأوطانهم، وأنه ملتزم بقول الحقيقة وتمثيل كل من يحتاج لإيصال صوته ومعاناته وألمه، وأنه يحارب بكلماته.
كان صوت إيبو مهماً مع بداية الحرب في دارفور 2003م حيث كان يغني لأجل الثورة السلمية ضد نظام الإنقاذ بالإضافة لنشاطه السياسي ضد النظام، لكن هذا النشاط كان هو السبب الذي أجبره على الهجرة. يقيم إيبو حالياً في دولة السويد، حيث انتقل إلى هناك وانشأ فرقته الموسيقية في نهاية العام 2017م والتي تتكون من 7 موسيقيين، وهو الآن يكرس وجهده في مشروعه الفني، وأصدر عدد من الأغاني منفردة أو ضمن ألبومات، حيث أصدر عدد 11 أغنية ضمن مشروعه ذاكرة الحرب ، كما أصدر أول ألبوم منفرد له (تنوع) في سبتمبر 2021.
اختار هؤلاء الفنانون الموسيقى كطريقة لمخاطبة العالم، كل منهم يعمل في مشروعه الخاص، بلغات مختلفة وآلات مختلفة، إلا أنهم يشتركون في مساحة العمل على تعزيز السلام والمحبة بين السودانيين، ومد جسور التواصل بينهم على إيقاع الموسيقى.