كيف يدمر التنقيب عن الذهب حياة الإنسان والبيئة بجنوب كردفان؟

أٌقيم في العاشر من أبريل الماضي بمدينة “كادقلي” مؤتمر التعدين الأول بولاية جنوب كردفان، والذي نظمته الشركة السودانية للموارد المعدنية (الحكومية) بمشاركة بعض مكونات الإدارات الأهلية. لكن أجسامَ مهنية ونقابية متعددة، بينها اللجنة العليا لمناصرة البيئة، بالإضافة للجان المقاومة في محليات الولاية المختلفة قاطعت المؤتمر.

وارتفع صدى الأصوات المعارضة بعد نهاية المؤتمر وتقديم توصياته، والتي كان من ضمنها قرار والي جنوب كردفان، موسى جبر محمود، القاضي باستئناف عمل شركات التعدين بالولاية بعد نحو عامين على توقيفها بقرار من رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في أكتوبر 2019م.

وجاء قرار حمدوك بإيقاف عمل تلك الشركات في أعقاب الحراك الشعبي والنقابي الذي طالب بإبعادها بسبب استخدامها مواد الزئبق والسيانيد -وهي مواد ضارة بالبيئة- في عمليات التعدين، دون الالتزام والتقيد بضوابط وإجراءات السلامة والاشتراطات البيئية والصحية.

آثار بيئية متفاقمة وغياب المحاسبة

في منتصف مايو الماضي، وبعد أقل من شهرين على مؤتمر التعدين، ضُبطت مصانع تعمل في معالجة مخلفات التعدين عن الذهب (الكرتة) داخل مدينة أبو جبيهة بولاية جنوب كردفان. وحسب اللجنة الوطنية لمناصرة البيئة، فإن فحوصات معملية أجريت بمعمل استاك بالخرطوم أثبتت وجود مواد السيانيد والزئبق وحمض الكبريتيك، وهي مواد عالية السمية وتشكل ضرراً على صحة الإنسان والبيئة، وهو الأمر الذي  أثار المخاوف بحدوث تلوث بيئي في مدينة أبو جبيهة، خاصة مع بداية موسم هطول الأمطار.

وتعيد مخالفة اشتراطات التعدين الشكاوى المستمرة لناشطين بيئيين ولجان مستقلة من الآثار البيئية والصحية المدمرة لتنقيب الذهب على حياة المواطنين المحليين في جنوب كردفان، حيث تشير العديد من التقارير لظهور أمراض جلدية ونفوق أعداد من الماشية جراء استخدام مادتي الزئبق والسيانيد في مناطق التعدين، وحالات إجهاض متعددة لنساء حوامل وتشوهات وسط الأطفال حديثي الولادة، علاوة على تلوث مصادر مياه الشرب والمياه الجوفية وتجريف التربة مما تسبب في تدمير الأراضي الزراعية.

وتنسحب الآثار القاتلة والمدمرة لعمليات تعدين الذهب بولاية جنوب كردفان على مناطق التعدين بأنحاء البلاد المختلفة، دون أن تقابلها إجراءات جدية من السلطات المختصة تضمن سلامة الإنسان والبيئة المحيطة به. وفي ظل عدم تلبية الحكومة لاشتراطات التعدين المعروفة، لم يبق أمام المواطنين المتضررين ونشطاء البيئة سوى مناهضة هذه العمليات سلمياً.

توترات مستمرة ومواجهات

والتوتر بين المجتمعات المحلية وشركات ومصانع التعدين في ولاية جنوب كردفان مستمر منذ سنوات، ويتمحور بصورة أساسية حول؛ وجود الشركات والمصانع ومعالجتها للـ(الكرتة).

والكرتة هي الحجارة المتبقية بعد استخراج الذهب عن طريق المعدنين التقليديين واستخدام الشركات لمواد ضارة بالبيئة. 

وأثناء مؤتمر التعدين الأول الذي أقيم في كادقلي شهدت قرية كابوس (شرق محلية رشاد) اشتباكات بين المواطنين وإحدى شركات التعدين التي قدمت للعمل في المنطقة، ووقعت الاشتباكات إثر رفض المجتمعات المحلية عمل الشركة ومطالبتهم بوجود إجراءات سلامة حتى لا تؤثر عملية التعدين على البيئة.

بدء عمليات تعدين الذهب في ولاية جنوب كردفان ليست قديمة حيث كان يمارس التعدين الأهلي بمستويات قليلة في مناطق: تلودي ورشاد والليري وأبو جبيهة. لكن هذا النشاط شهد تفجراً كبيراً في العام 2012م، عقب انقسام السودان في العام 2011م وخروج النفط من قائمة الموارد الأساسية التي تعتمد عليها الحكومة في ميزانيتها، ليتجه التركيز على مورد الذهب كتعويض عن خروج النفط.

عقب تلك الفترة أُدخِلت الآلات الثقيلة والمواد الكيميائية في استخدامات التعدين، وانتشرت شركات ومصانع التعدين عن الذهب في محليات الولاية المختلفة. ومع غياب الاشتراطات البيئية وإجراءات السلامة التي تحدد مناطق استخدام هذه المواد ومقدار استخدامها، فإن قضية آثار التعدين على البيئية في ولاية جنوب كردفان قد شهدت تطوراً كبيراً خلال السنوات الماضية، في كل من مناطق (الترتر) و(بلولة) ومحلية التضامن، وأبو جبيهة، ورشاد، وتلودي وكالوقي، وهي مناطق تقع في الجزء الشرقي من ولاية جنوب كردفان (الجبال الشرقية).

مقاومة ومواجهات مستمرة

صاحب انتشار مساحات التعدين في جنوب كردفان، وزيادة نشاط التعدين الأهلي والمنظم من قبل الشركات والمصانع، دخول الآليات الثقيلة والمواد الكيميائية في عمليات التعدين، والتي شكلت خطراً كبيراً على العاملين في قطاع التعدين والمجتمعات المحلية المتاخمة لآبار ومناجم التعدين. ليثير ذلك الأمر الرعب وسط المجتمعات المحلية، ويجعلها تخوض حراكاً شعبياً للمطالبة بمنع استخدام المواد الكيميائية (الزئبق والسيانيد) في عمليات التعدين، خاصة أن استخدامها لا يخضع لضوابط تراعي البيئة. 

وشهد الحراك ضد عمليات التعدين التي لا تلبي اشتراطات البيئة والسلامة تصاعداً مستمراً بلغ ذروته في العام 2017م، حيث أحرق مواطنو مدينة كالقوي في مارس 2017م مصنع (التقولا) والآليات التابعة للمصنع، وجاء الحريق بعد المهلة التي منحها المواطنون لإدارة المصنع لإغلاقه وترحيله من المنطقة.

لم يكن هذا التصعيد هو الأخير المناهض لشركات ومصانع التعدين عن الذهب بولاية جنوب كردفان، بل امتد إلى محليات أخرى، فبعد سقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019م، انفتح الأفق أمام مواطني جنوب كردفان للضغط على الحكومة الانتقالية بضرورة اتخاذ تدابير جديدة فيما يتعلق بالشركات والمصانع، وانتظم مواطنو تلودي في اعتصام استمر لأكثر من شهر، احتجاجاً على عمل شركات التعدين.

ومن تلودي انتقل الحراك الشعبي إلى محلية أبو جبيهة هذه المرة، لتنضم لقائمة الاعتصامات التي شهدتها ولاية جنوب كردفان، وكان مطلب إنهاء عمل شركات التعدين من المطالب الأساسية للاعتصام الذي انتظم المنطقة في يوليو 2020م.

ولا تتعلق قضية التعدين عن الذهب في جنوب كردفان والآثار البيئية المترتبة عليها بإخراج الشركات والمصانع فقط، بل في إعادة النظر لكل هذه العملية والسياسات الحاكمة لها ودخول المواد الكيميائية المستخدمة في التعدين من زئبق وسيانيد ومراقبة طرق استخدام هذه المواد في التعدين الأهلي كذلك.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع