“نَعْتّز بهذا الوليد، ليس لأنه وصل إلى المستوى الذي نصبو إليه، ولكن لأنه اللبِنة الأولى في بناء نهضة سينمائية حقيقية في سوداننا الحبيب” بهذه الكلمات علّق المخرج السوداني إبراهيم ملاسي، خلال بداية تصوير أول فيلم روائي سوداني في العام 1962م، موضحاً محاولتهم الرائدة في هذا الضرب الجديد للفن السينمائي في السودان، ومستشرفاً أفقاً تجريبياً لصناعة السينما.
بدايات مبكرة
تمتلك السينما في السودان تاريخاً ضارباً في القدم، وهو يتفرع إلى قسمين؛ الأول يتعلق ببداية فعل المشاهدة ودُور العرض، والآخر يعود إلى بداية صناعة أفلام سودانية. وتعود جذور السينما في السودان إلى بدايات القرن العشرين؛ بعد سنوات قليلة من اختراع السينما. حيث شهد السودان أول عرض سينمائي في مدينة الأبيض (شمال كردفان) أثناء زيارة اللورد كتشنر للسودان في 1911م واحتفالاً بمناسبة وصول خطوط السكة حديد إلى المدينة، وكان فيلماً قصيراً وصامتاً.
وبعد عامين، حوالي عام 1913م، شهدت مدينة أمدرمان عروضاً لأول مرة، كان يجلس المشاهدون خلف مقهي “الخواجة لويزو” للفرجة على السينماتوغراف (مشاهد ومناظر وصور للتسلية) وهي تعرض على قطعة قماش. لتتسع تلك المساحات لاحقاً، قبل دخول العشرينيات، وتتيح للمشاهدين الأفلام عن طريق السينما الجواله في المدارس والساحات العامة، وفي نهاية العشرينيات أسست دارين لعروض السينما في الخرطوم؛ سينما الجيش (والتي عرفت بالنيل الأزرق لاحقاً) وسينما اسكيتنج رنج (والتي صارت كلوزيوم). أما تاريخ صناعة الأفلام في السودان فهو متأخر عن تاريخ المشاهدة.
أين تسهر هذا المساء؟
شهدت فترة السبعينات توالي تجارب الأفلام الروائية، وتمكنت من إحداث نقلة من نمط الفيلم الوثائقي السائد حينها منذ بداية الأربعينيات، وحظيت أفلام تلك الفترة بتقدير وإشادة عاليين، فيلم (تاجوج 1977م) من إخراج جاد الله جبارة، والذي حاز على جوائز في تسعة مهرجانات دولية وإقليمية، فيما حصل فيلم “الضريح” للمخرج الطيب مهدي على ذهبية مهرجان القاهرة للأفلام القصيرة 1972م، لتنتهي حقبة السبعينيات بفيلم (ولكن الأرض تدور) للمخرج سليمان محمد إبراهيم، والذي حصل ذهبية مهرجان موسكو 1979م.
كما شهدت تلك الفترة نمواً في عدد دور العرض، حيث بلغت 60 داراً في عام 1970، وبنهاية السبعينات بلغت دور العرض 67 وكان عدد الأفلام التي عرضت في السودان 243 فيلماً حتى عام 1978م. وكانت إعلانات عروض الأفلام تحتل مساحات مقدرة من الصحف.
التسعينيات، نفق مظلم
كان استيلاء حكومة الإنقاذ على السلطة في انقلاب 1989م وما عُرف بـ(المشروع الحضاري) بمثابة نصلاً حاداً انغرس في جسد كل الفنون، وتضررت السينما تضرراً بالغاً، حيث تهدم كل أرثها الذي بدأ نموه منذ سنوات بعيدة. أغلقت كل دور السينما، وعرضت كعقارات للبيع، وما لم يبع صار ذكرى أليمة. لم تسلم دور العرض ولا الإنتاج السينمائي الذي كان مهمشاً بصورة ممنهجة، ومراقباً من قبل الدولة. بل أن أرشيف السينما تعرض للتلف والفقدان نتيجة سوء التخزين والحرارة، علاوة على الأفلام السودانية التي كانت محفوظة ضمن أرشيف شركات أوروبية، أعادتها للسودان لعدم التزامه بدفع مستحقات إيجار حفظها.
طرق ومؤسسات بديلة
بالرغم من العتمة التي شهدتها السينما في السودان خلال العقود الماضية، والتضييق على كل أفق ممكن لها من قبل حكومة الإنقاذ إلا أن الفاعلين فيها لم يرفعوا الراية البيضاء، بل قاتلوا في سبيل اجتراح طرق ومؤسسات ومبادرات بديلة، على أمل المساهمة في نفض الغبار عن أجنحة السينما حتى تحلق من جديد، وواحدة من هذه المؤسسات هي (سودان فيلم فاكتوري) والتي انطلقت في نسختها الأولى في العام 2010م وقدمت إضافات نوعية في مجال دعم السينما من تدريب وتعلم، حيث استضافت مدربين من دول مختلفة لإثراء الخبرة التراكمية عند الشباب في السودان. وفي إفادته لـ (بيم ريبورتس) يقول مؤسس ومدير سودان فيلم فاكتوري، طلال عفيفي، حول هذه التجربة: “أسست وأطلقت سودان فيلم فاكتوري أول مهرجان سينما في السودان، وهو فعالية سنوية مدتها أسبوع في يناير من كل عام، حيث تعرض عشرات الأفلام العالمية الجديدة في أماكن مختلفة، على خلفية من ورش العمل، وتقديم المشهد السينمائي برمته للجمهور السوداني من المهتمين والهواة والمحترفين”.
بالإضافة إلى كل ذلك فإن لسودان فيلم فاكتوري إسهامات مقدرة في مجال رفد السينما السودانية بعدد من الأفلام، التي شاركت في محافل عالمية من مهرجانات دولية وإقليمية حول العالم.
السينما بعد الثورة
مع بدايات ثورة ديسمبر 2018م كانت هناك ثورة أخرى تشهدها السينما في السودان، حيث وجهت أفلام (ستموت في العشرين)، و(الحديث عن الأشجار)، و(خرطوم أوفسايد) أنظار العالم إلى السينما السودانية والامكانيات الخصبة التي تنطوي عليها، وأيقظت السينما من سبات عميق. حصدت هذه الثلاثة أفلام جوائز مهرجانات عالمية عديدة. وكان الفيلم الوثائقي (الحديث عن الأشجار) للمخرج صهيب عبد الباري، يناقش الأحلام والآمال التي تشكّلت عند أبطال الفيلم، وعودتهم إلى السودان، بعد سنوات من الدراسة بالخارج، وحلمهم بتأسيس سينما سودانية، ليؤسسوا جماعة الفيلم السوداني في 1989م لكن هذا الحلم راح أدراج الرياح بسبب قرار الإنقاذ إغلاق جميع دور العرض في البلاد.
يتتبع هذا الفيلم الحياة الفنية لأربعة مخرجين من وسعيهم لإعادة إحياء دور العرض التي أغلقت منذ عقدين ونصف من الزمان، وهو لمحة فنية للمصاعب والتحديات التي تواجهها السينما السودانية ككل.
لكن مؤسس ومدير سودان فيلم فاكتوري، طلال عفيفي، يوضح في إفادته لـ (بيم ريبورتس) أن: “واقع ما بعد الثورة كان موسوماً بانعدام الرؤية والتخطيط تجاه الثقافة والآداب والفنون، كما أن هناك ظروف وعوامل مثل الإعتصام وفض الإعتصام و جائحة الكورونا والضعف الاقتصادي ساهمت في ألا تكون حركة الأشياء مثل المتوقع عند معظم الناس”.
ويرى عفيفي، أن واقع السينما السودانية اليوم: “يحتاج إلى الكثير حتى يكون مرضياً، لكن ثمة تفاؤل ما”.
تحديات مستمرة
كان عدد من السينمائيين يحلمون بضرورة وجود سياسات ثقافية جديدة، تولي هذا القطاع الاهتمام والدعم الذي يدفع مسيرة السينما التي توقفت لسنواتٍ طويلة، بعد أن كانت تتلمس خطواتها الأولى. فكل النجاح الذي يشهده قطاع السينما في السودان يأتي نتيجة جهود واجتهادات فردية، حيث يتجه الكثير من صناع الأفلام لتمويل أفلامهم من المنح وشركات الإنتاج الخارجية، في ظل صعوبات للنهوض بهذا القطاع داخلياً.
علاوة على كل ما سبق، فإن غياب قطاع السينما كتخصص في أغلب مؤسسات التعليم العالي يشكل عثرة في مسار تطور السينما كصناعة، وينعكس هذا الأمر في ضعف الحركة النقدية والتي هي أساساً لتطور أي فن من الفنون.
ويوضح عفيفي في إفادته لـ (بيم ريبورتس) أن السينما السودانية تحتاج إلى “إنشاء معاهد ومدارس سينما لأنها أمر حيوي، كما أن إصلاح التعليم وإدماج الفنون فيه منذ البداية بشكل فاعل أمور لا يمكن تجاوزها في التأسيس لصناعة السينما، علاوة على ضخ الأموال واقتطاع الممكن من الميزانيات لدعم التعليم وتمويل الإنتاج السينمائي والبنى التحتية، وإعادة كتابة القوانين بشكل صديق للإنتاج مسألة مهمة وتبني سياسات ثقافية تحتضن النمو نحو صناعات ثقافية”.
يبعث الازدهار الذي تشهده السينما السودانية، الأمل في نفوس روادها والمهتمين بها، ويؤكد الامكانيات الكبيرة للسينما، لكنه يظل نشاط من أجسام ومبادرات تعمل في ظروف اقتصادية وسياسية صعبة، يستحيل أن نقول معها أن لدى السودان “صناعة سينما”، بالمفهوم المتعارف عليه لصناعة السينما، لافتقاد هذا القطاع اهتمام الدولة.
لكن التاريخ العريق للسينما السودانية في عقودها السابقة، والظروف والتعقيدات التي صاحبتها، ينطوي على قدرة كبيرة لبعثها من جديد، في ظل المجهودات الكبيرة التي يطلع بها عدد كبير من المهتمين والفاعلين في سبيل خلق واقع جديد للسينما السودانية.