“من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ، من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسيرْ، من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْ، جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمةْ، المستميتِ على المبادئ مؤمنا، المشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبنا، جيلي أنا”.
بهذه الأبيات وغيرها، وثّق الشاعر والدبلوماسي محمد المكي إبراهيم لثورة أكتوبر 1964م، والتي انطلقت شرارتها الأولى في يوم 21، لتطيح بحكم الجنرال إبراهيم عبود (1958-1964م)، أول نظام عسكري في السودان بعد الاستقلال، قبل أن تفتح الباب واسعاً أمام السودانيين في مسيرتهم لمقاومة الحكم العسكري وتأكيد رغبتهم في الحكم المدني الديمقراطي. حيث تعتبر ثورة أكتوبر 1964م، حدثاً فريداً من نوعه في العالمين العربي والأفريقي ومعلماً للشعوب التي تنشد التحرير من قيود القهر والاستبداد.
تأتي الذكرى الـ 58 لأكتوبر والبلاد ما تزال تحت قبضة الحكم العسكري التي تراخت على وقع ضربات ثورة ديسمبر 2018م، لكن سرعان ما أعاد الجيش سيطرته على مقاليد السلطة مرةً أخرى في أكتوبر الماضي، وذلك بعد أقل من ثلاث سنوات على إسقاط أطول الأنظمة العسكرية بقاءً في السلطة، نظام الرئيس المخلوع عمر البشير (1989-2019م).
يوضح المكي، الذي كان مشاركاً في الثورة وأحد أصواتها البارزة، في كتابه (أكتوبر، نار الأمل ورماد الخيبة) دور ثورة أكتوبر بالقول : “إن الافتتان بأكتوبر ليس مصدره حكومتها قصيرة الأجل، ومنجزاتها الحقيقية والمتوهمة، إنما روحها العام ومبادئها المعلنة كحركة مناهضة للديكتاتورية ونجاحها الفريد في اجتثاث نظام عسكري مستعد للبطش وإراقة الدماء، ذلك على أيدي متظاهرين عزل من السلاح”.
شرارة البداية
“بدأت شرارة ثورة أكتوبر 1964م، يوم الأربعاء 21 أكتوبر، عندما هاجمت الشرطة ندوة طلابية بداخلية جامعة الخرطوم، حيث انطلقت مكبرات الصوت من الشرطة داعية الطلاب إلى التفرق، رغم أن الندوة عُقدت بمنطقة سكنهم، لكن مدير الندوة رد طالباً من الحضور التشبث بأماكنهم والاستمرار في الندوة. عندها انقطع التيار الكهربائي بفعل القوات الأمنية وانهمر الغاز المسيل للدموع على الطلاب. وفي ذلك الظلام الدامس، اِلتحم الطلاب مع الشرطة منهالين عليها بالحجارة، فيما استخدمت الشرطة الرصاص الحي الذي كان بمثابة صيحة يأسهم الأخيرة، لكن الطلاب اختاروا الاستبسال في المقاومة مواجهين رصاص الشرطة لما يقارب الساعتين، أسفر ذلك عن جرحى وسط الطلاب ومقتل أول شهيد لحركة الطلاب السودانيين، الشهيد أحمد طه القرشي الطالب بكلية العلوم والذي أردته رصاصة غادرة وهو يقف مع رفاقه في الصفوف الأمامية بمواجهة الشرطة، لقد مات معه وبعده كثير من الشهداء ذلك المساء وما بعد ذلك المساء.
انطلاق الثورة
بعد مقتل القرشي، حُول جثمانه إلى مشرحة مستشفى الخرطوم الملكي، وفي صباح اليوم التالي الخميس 22 أكتوبر، شُيّع جثمانه بميدان عبد المنعم محمد بوسط الخرطوم بمشاركة عشرات الآلاف، وردد المتظاهرون شعارات مناهضة للحكومة، كما قدم أعضاء هيئة التدريس في جامعة الخرطوم استقالاتهم، حيث قالوا إنهم لن يقوموا بسحبها إلا في حال انتهى النظام العسكري وتشكيل حكومة دستورية من شأنها حماية استقلال الجامعة.
لم يتردد المشيعون وانطلقوا للتظاهر في غضب واحتقان عارم، امتد الحراك ليشمل معهد المعلمين والمعهد التقني وطلاب المدارس الثانوية مجتمعين في مواكب حاشدة بوسط الخرطوم تعلم وجهتها جيدا وتردد بإصرار “نحو القصر حتى النصر”.
تواصلت الاحتجاجات وبدأ انفجار ولايات السودان ثائرة واحدة تلو الأخرى بالرغم من قمع الاجهزة الأمنية وارتفاع أعداد المصابين والشهداء الذين تجاوز عددهم الثلاثين شهيداً.
في الأثناء، بدأت المعارضة في تنظيم صفوفها حيث انضمت النقابات المهنية والعمالية واستخدمت آليات مبتكرة كإجراءات الإضراب السياسي العام والتظاهر اليومي وغيرها، لم يضطر النظام أن يتعامل مع آليات مشابهة من قبل ما سبب شللا في الوضع العام بالبلاد، فصار نظاما مترنحا يقمع بقوة تارة و يرخي الحبل تارة أخرى.
تسارع الأحداث
مع استمرار التظاهرات، تسارعت الأحداث، حيث أصدر حزب الأمة في يوم الجمعة 23 أكتوبر، بيانا شجب فيه السياسة الاقتصادية للنظام وارتفاع تكاليف المعيشة في البلاد، وطالب بدستور ديمقراطي. في يوم السبت 24 أكتوبر استمرت التظاهرات الطلابية وامتدت إلى مدن أخرى، بما في ذلك أمدرمان وجوبا وبورتسودان، وفي هذا اليوم حاولت مجموعة من المهنيين بقيادة المحامين تقديم التماس ضد الأعمال الوحشية التي ارتكبتها حكومة عبود، لكن لم يُسمح للمهنيين بالمضي قدماً، ولكن قبل أن يتفرق الناس أعلنوا إضرابا عاما.
تحت ضغط الثورة، أعلن الجنرال إبراهيم عبود، في يوم الاثنين 26 أكتوبر، حل المجلس العسكري الأعلى ومجلس الوزراء فيما وصفها “خطوة أولى على طريق إعادة تنظيم شؤون الدولة وإعداد دستور”. لكن في يوم الأربعاء 28 أكتوبر، صدر بيان عن مجموعة من ضباط الجيش أطلقوا على أنفسهم “الضباط الأحرار” أعلنوا فيه انضمامهم للشعب من أجل استعادة الديمقراطية والدستور.
وفي 30 أكتوبر دعا عبود إلى إجراء حوار وطني دون شروط وتشكيل حكومة جديدة يكون هو جزء منها، حيث تم تشكيل حكومة جديدة في نفس اليوم برئاسة مساعد وزير التربية والتعليم سر الختم الخليفة، لكن المؤسسة العسكرية السودانية قامت باعتقال الضباط الذين كتبوا بيان الضباط الأحرار، فتظاهر الناس تضامنا معهم، وسرعان ما انتشرت الاضطرابات ولم يستطع الفريق عبود مواجهتها، ليتقدم باستقالته في الخامس عشر من نوفمبر التالي ويسلم السلطة إلى المدنيين.
مع مرور الذكرى الثامنة والخمسون لثورة أكتوبر 1964م اليوم الجمعة، يكاد السودانيون يلمسون “نار الأمل”، غير أن “رماد الخيبة” يتجلى لهم واضحاً، فبعد كل هذه السنوات على اندلاع ثورة أكتوبر 1964م، ما تزال البلاد تحت قبضة الحكم العسكري، عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021م. ليتجاوز عمر الحكم العسكري في البلاد الـ 53 عاماً، من مجمل 66 عاماً منذ الاستقلال، والتي انطلقت خلالها ثورة أكتوبر 1964م كميلاد جديد للسودانيين في مسيرتهم لمقاومة الحكم العسكري وتأكيد رغبتهم في الحكم المدني الديمقراطي.