أقدم بنايات الخرطوم.. كيف اختزن القصر الجمهوري حكايات السودان لنحو مائتي عام؟

يمكنك تمييز حتى ألوانه، وسرعة وبطء أرجحة الهواء له في ساريته الشامخة إلى أعلى. هكذا يبدو للناظر إلى القصر الجمهوري، عَلَم السودان، وهو يرفرف في أزمنة الخرطوم، ما قبل وبعد الاستقلال، قبل أن تتغير ألوان العلم نفسه، وتطمس المباني المتناثرة بلا هدف، هوية المدينة المعمارية القديمة، التي أعاد تخطيطها البريطانيون على شكل علم بلادهم.

 

زحف المباني الفوضوي في مدينة الخرطوم المعاصرة وصل إلى القصر الجمهوري نفسه، بعدما تم تشييد قصر جديد بجواره في عام 2015م، تضافر ذلك مع إغلاق واجهة القصر المطلة على شارع النيل بحاجز حديدي، والذي أنهى تقليداً تاريخياً، كان يتمثل في تلقي الشعب تحية شرفية من حراس القصر كلما مدّ أي مواطن عابر يده محيياً أو أطلق صافرة سيارته.

 

شيدت سرايا الحكمدار، وهو أول اسم أطلق على القصر الجمهوري، في عام 1832م. وتشكّلت في البداية، من قاعة استقبال ذات سقف مرفوع فوق عروق خشبية غير مهذبة. أما أرضها، فكانت من التراب المدكوك وكانت تُرش مرة كل ساعتين، ويحيط بثلاثة جوانب منها ديوان مقام من الطين ومُغطى بألواح الخشب، وبينما كان هذا الديوان مفروشاً بالسجاد الفاخر ومساند الحرير، كان الحصير من أوراق شجر الدوم يغطي أرض القاعة. 

 

مع استتباب الحكم التركي – المصري للبلاد، كانت عودته لتاريخ الخرطوم القديم حتمية، فاستخدم الآجر المنقول من بقايا مدينة سوبا الأثرية وبعض المباني القديمة التي ترجع للعهد المسيحي في السودان، في إعادة بناء السرايا بين عامي 1849-1851م، التي كان قد تم هدمها بالكامل.  

 

“كانت سرايا الحكمدار بعد اكتمال بنائها أعجوبة أهل الخرطوم ومشايخ العرب من زوارها، الذين كانوا لا يصدقون أنها من عمل الإنسان وحده”، يقول الباحث المصري، أحمد أحمد سيد أحمد، في كتابه “تاريخ مدينة الخرطوم”.

 

ويتكوّن مبنى القصر الجمهوري من طابقين، بالإضافة إلى جزء أرضي وهو من المعالم المعمارية الرئيسية في الخرطوم، وتطل واجهته الرئيسية على النيل الأزرق شمالاً. للقصر ملحق به مسجد وكانت فيه كنيسة، لكن الحكم الوطني، حوّل مبنى الكنيسة إلى متحف، بعدما أزيل جزءاً منها وهو برجها. 

ويطل من الناحية الجنوبية على ساحة صغيرة كانت تحمل اسمه (ساحة القصر)، قبل أن يطلق عليها اسم حدائق الشهداء أخيراً.

حتى وقت قريب كان المتحف يفتح أبوابه أمام الزوار، أيام: الجمعة والأحد والأربعاء.

 

 وتم افتتاح المتحف الواقع في حديقة القصر رسمياً فى 31 ديسمبر 1999، وهو يضم المشاهد التاريخية التي كان مسرحها القصر الجمهوري خلال الحقب التاريخية المتعاقبة من تاريخ السودان الحديث، ويضم كذلك عدة مقتنيات أثرية وتراثية مختلفة ومتعددة ومكتبة. 

 

 وجرى تصميم القصر على نمط المباني الأوربية الكبيرة التي كانت سائدة في أوروبا في القرن السابع عشر، مع لمسة شرق أوسطية تتمثل في الأبواب والنوافذ المقوسة إلى جانب النوافذ الرومانية والإغريقية والشرفات والفرندات على الطراز البحر متوسطي.

 

ومع ذلك، في عهد الحكم الثنائي “الإنجليزي – المصري” للسودان، (1898-1955م)، أجريت بعض التعديلات عليها سنة 1900م، بعدما أهملت في عهد الدولة المهدية (1885-1898م)، وهدم جزء كبير منها، وفي 1912 بنيت فيها كاتدرائية.  وأطلق عليها سرايا الحاكم العام، وعرفت أيضاً باسم القلعة، نادراً.

تاريخ مدينة الخرطوم:

ومدينة الخرطوم لا تحتضن القصر الجمهوري وحسب، وإنما ينطوي تاريخها الحديث على التغيرات السياسية والاجتماعية التي عرفها السودان وشكلت وجوده الحالي.

 

وهي عرفت الحياة ودب فيها الإنسان قبل مئات السنين من ميلاد المسيح، بينما تم تأسيسها كعاصمة من قبل الحكم التركي المصري للسودان في 1830م. في ضاحيتها الجنوبية نحو عشرين ميلا،  كانت توجد مدينة سوبا عاصمة دولة علوة المسيحية التي سقطت بيد تحالف العرب والفونج 1504. و“تعرف المنطقة بالاسم ذاته حالياً. وتعد من أعظم مدن السودان المسيحي قاطبة، وكان فيها أبنية حسان ودور واسعة وكنائس كثيرة الذهب وبساتين”، يقول صاحب كتاب تاريخ الخرطوم. 

 

ومع أن مدينة الخرطوم في نسختها الحديثة خلق استعماري، إلا أن التاجر الخرطومي، الأوروبي، برون روليت، يقول إنها قديمة، وأنها كانت حتى  قبل الحكم التركي – المصري بنصف قرن مدينة عظيمة عندما هاجمها “الشلك” إحدى قبائل أعالي النيل الأبيض، جنوب السودان، ذات ليلة من ليالي سنة 1772 وقتلوا أهلها ودمروها، فانتهى وجودها في ذلك التاريخ حتى جاء الحكم التركي المصري فأعاد تأسيسها. 

 

وتجمع غالبية المصادر، على أن الخرطوم أخذت اسمها من شكل لسان الأرض المحصور بين النيلين الأبيض والأزرق، الشبيه بخرطوم الفيل، إلا أن آخرين يربطون اسم الخرطوم وقبيلة الشلك التي تعيش في جنوب السودان، على أساس أنه يتكون عندهم من مقطعين معناهما معاً “نقطة التقاء مجريين مائيين”.

 

ويقول الباحث المصري: “إن منطقة مقرن النيلين تقع طوال العصور القديمة في وطن النيليين، وهو الأمر الذي أثبتته القرائن المادية القاطعة. يضيف: “فقد كشفت الحفائر سنة 1954م، عن موطن للنيليين في الطرف الجنوبي لمدينة الخرطوم الحالية ترجع حضارته إلى عصر ما قبل الأسرات، كما ثبت أنه كان مأهولاً في العصر النوباتي والمروي (٧٥٠ – ٣٥٠) قبل الميلاد.  نسبة لمملكتي نبتة ومروي في السودان، وقد عُثر أيضاً على أكثر من إثني عشر موضعا حول مقرن النيلين لسكنى هؤلاء النيليين.

 

بالقرب من محيط القصر الجمهوري، توجد أهم المباني الأثرية في الخرطوم، على رأس تلك المباني مبنى جامعة الخرطوم، الذي شيده أول حاكم عام للسودان في عهد الحكم الثنائي اللورد كتشنر، تخليداً لذكرى غوردون، وتم افتتاحها 1902 باسم كلية غوردون التذكارية.

وكذلك مبنى البريد والبرق، ومبنى وزارة المالية والداخلية ويقعان بشارع النيل، بالإضافة إلى مقبرة ترجع إلى الحكم التركي – المصري، وهي قباب يرقد فيها بعض حكمداري الحكم التركي – المصري، بالإضافة إلى كاتدرائية القديس متى، المشيدة على الطراز الفيكتوري. 

 

ومحيط الخرطوم الرئيسي، تم تخطيطه على شكل العلم البريطاني، وذلك يشمل شارع القصر الجمهوري، وسابقا كان يُسمى شارع فيكتوريا، ويشمل ذلك كل المدينة جنوب شارع القصر إلى جامعة الخرطوم،  وأكبر تجسيد للعلم البريطاني يظهر في تقاطع سانت جيمس الواقع بقلب الخرطوم، وكان قبل تطبيق القوانين الإسلامية في السودان، توجد بالقرب منه أشهر بارات المدينة.

أحداث شهدها القصر:

في فجر السادس والعشرين من يناير 1885م، اقتحم أنصار الثورة المهدية مبنى سرايا الحكمدار في العاصمة الخرطوم قبالة النيل الأزرق وقتلوا حاكم عام السودان وقتها، الجنرال الإنجليزي تشارلز غوردون، في درج الطابق الأول.

عندما وصلت ما عُرفت بحملة إنقاذ غوردون القادمة من بريطانيا قريباً من الخرطوم، كان أنصار المهدي قد قضوا على غوردون وسلموا رأسه للمهدي في عاصمته الجديدة بمدينة أمدرمان، على الضفة الغربية للنيل الأبيض، ونهر النيل. 

 

وتقع مدينة الخرطوم شرقي النيل الأبيض وجنوبي النيل الأزرق ويلتقي فيها النيلان الأزرق والأبيض في “مقرن النيلين” مكونان من بعد، نهر النيل، أحد أطول الأنهار في العالم.

 

 

قبيل الاستقلال بعامين، شهد القصر الجمهوري أحداثاً دموية، وذلك عشية مقدم الرئيس المصري الراحل، محمد نجيب إلى الخرطوم، في مارس 1954م إذ سقط العشرات من أنصار حزب الأمة الذي كان يرفض الوحدة مع مصر، قتلى قبالة البوابة الغربية للقصر الجمهوري، عندما حاول أنصار حزب الأمة اقتحام القصر، بوجود الرئيس المصري فيه. وسُميت تلك الأحداث في التاريخ السياسي السوداني، بأحداث الأول من مارس.

 

لم تمر أكثر من عشر سنوات على أحداث الأول من مارس 1954م، حتى عرف قصر الجمهوري أحداثاً دموية جديدة، عندما أطاحت ثورة  أكتوبر 1964، بحكم الجنرال إبراهيم عبود، ولكن قبل أن يحل عبود مجلسه العسكري أواخر الشهر نفسه، أردت قوات الحرس الجمهوري أكثر من ٢٢ قتيلاً أمام القصر الجمهوري، عندما حاولت الجماهير اقتحام المبنى.

 

في الحقبة التي تلت ذلك، وبينما كان الرئيس المخلوع جعفر النميري في إقامة جبرية بداخل القصر بُعيد انقلاب عسكري أطاح بحكمه لمدة ثلاثة أيام، في 19 يوليو 1971م، شهد المبنى الأثري حوادث إطلاق نار، ولكن بعد أن فرّ منه نميري في اليوم الثالث وآلت إليه الأوضاع في النهاية، زعم بأن الشعب حماه داخل القصر، لذا أطلق على المبنى اسم قصر الشعب. لكن، بعد انتفاضة مارس/أبريل 1985م، التي أطاحت بحكمه أعادت تسميته لما كانت عليه منذ حلول الحكم الوطني في 1956م (القصر الجمهوري) وهو الاسم الرسمي للمبنى حتى الآن.

حكام القصر:

في خضم أحداث دموية عديدة، بالمقابل يشهد القصر على أهم انتصارات السودان عندما تم إنزال علمي الحكم الثنائي ورفع العلم السوداني في أعلى سارية القصر، معلنا استقلال السودان في الأول من  يناير 1956م. 

ومنذ الاستقلال، استقبل القصر الجمهوري 9 رؤساء، بينهم 6 جنرالات جيش، وصلوا إليه عبر انقلابات عسكرية وفترات انتقالية، بالإضافة إلى أربعاء رؤساء مدنيين منتخبين وانتقاليين.

القصر الجمهوري: بين الماضي والحاضر

لكل تلك الأحداث أثرها على السودانيين، بما في ذلك منظورهم الخاص لرمزية القصر، وارتباطه بأحداث تاريخية تحتضنها الذاكرة الشعبية والتي لطالما كانت حاضرة في خطابات الثورة و أدبياتها، يستدلون بها الطريق نحو المقاومة حقبة تلو الأخرى. الآن، وبعد مرور أكثر من عام على انتفاضة شعبية اندلعت منذ فجر الخامس والعشرين من أكتوبر، إثر انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، يخرج الآلاف بشكل دوري قاصدين القصر الجمهوري للمطالبة بإسقاط الحكم العسكري في السودان .

 

تلك الوجهة التي تحمل في طياتها قصص الحكم الاستعماري، أثره الجلي على الخرطوم، طابع المدينة السياسي والاجتماعي والثقافي، عمارتها المتباينة شوارعها وطرقاتها، أحلام وآمال الملايين بإنهاء عصر الانقلابات العسكرية وميلاد الدولة المدنية الديمقراطية. يودون فقط الذهاب إلى القصر احتفالاً باستقلال بلادهم والتنزه في حديقته وأخذ العبرة من ذاكرته التي تعج بتاريخ الانقلابات العسكرية المتواترة التي عرفها السودان ولحظات الإطاحة بها، المشاهد الدموية ولحظات الانتصار.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع