الكنائس تعاود قرع أجراسها احتفالاً بـ(الكريسماس).. كيف واجه المسيحيون السودانيون عقوداً من التضييق؟

يعاود المواطنون المسيحيون في السودان، اليوم الأحد، الاحتفال بأعياد الميلاد بالعاصمة الخرطوم بشكل اعتيادي للمرة الأولى منذ عدة سنوات، وذلك بعد إعلان تنسيقيات لجان مقاومة الولاية، تأجيل موكب 25 ديسمبر. وتقع غالبية الكنائس الرئيسية التي ستقرع أجراسها احتفالاً بأعياد الميلاد بقلب العاصمة الخرطوم.

 

وأتت خطوة لجان المقاومة على إثر ما شهدته البلاد العام الماضي خلال موكب 25 ديسمبر ضد انقلاب الجيش، حيث أغلقت الجسور الرابطة بين مدن العاصمة، وقطعت شبكتا الإنترنت والاتصالات، الأمر الذي حرم المواطنين المسيحيين من إمكانية الوصول إلى الكنائس التي يتركز أغلبها في قلب العاصمة، لأداء الصلوات والشعائر وإقامة الاحتفالات.

 

أيضاً، خطوة لجان المقاومة بتأجيل موكب يوم 25 ديسمبر، جاءت نتيجة لنقاشات ظلت تدور منذ العام الماضي، حول أهمية تأجيل التظاهرات بالتزامن مع أعياد الميلاد لتمكين المسيحيين من الاحتفال بالمناسبة بسلام.

 

و25 ديسمبر، مثل أول موكب وتظاهرة مركزية كان قد دعا لها تجمع المهنيين السودانيين قبل أربع سنوات، في ديسمبر 2018م. حيث قرر التجمع يومها تغيير فعله السياسي المتمثل في رفع عدد من المطالب التي تخص المهنيين والعمال إلى البرلمان، إلى الانخراط في التظاهرات التي انطلقت شرارتها في عدد من المدن السودانية المختلفة، ليتصدى التجمع لقيادة التظاهرات ويعلن عن تسيير موكب جماهيري إلى القصر الرئاسي بالخرطوم، من أجل المطالبة بتسليم السلطة.

تضييق مستمر ومعاناة قديمة

بدأت معاناة المسيحيين السودانيين، في عهد نظام الفريق إبراهيم عبود، الذي انتهج سياسة الأسلمة والتعريب القسريين والتي ألقت بظلالها على المسيحيين وانتهكت حقوقهم الدستورية. لكن مع فرض نظام الرئيس المخلوع، جعفر نميري (قوانين سبتمبر) في عام 1983م دخلت معاناتهم مع التمييز من قبل الدولة مرحلة فاصلة. وهو الأمر الذي عمقه نظام الإنقاذ وهي تضع نصب أعينها مشروعها الحضاري الذي سعى إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني، ليتخذ اضطهاد المسيحيين والتضييق عليهم شكلاً ممنهجاً رعته الدولة ومؤسساتها، خاصة مع تصاعد الحرب في جنوب السودان، الأمر الذي أدخل مسألة الدين ضمن إطار سياسي وعرّف الحرب على كونها جهاد ديني.

انفراجة ولكن

لم تشهد القبضة المفروضة على المسيحيين انفراجاً إلا بعد التوقيع على اتفاق السلام الشامل وإقرار الدستور الانتقالي لسنة 2005م. لكن تلك الانفراجة والبراح الذي أتاحته الاتفاقية لم يدم لأكثر من ست سنوات، إلى لحظة انقسام السودان إلى دولتين في العام 2011م، بعدها عادت الهجمات بصورة أكثر شراسة، حيث أسقط الرئيس المخلوع، عمر البشير، كل المواد الدستورية والقوانين التي كفلت حقوق المسيحيين، وكان البشير قد صرح بأن “السودان صار دولة إسلامية-عربية خالصة عقب انفصال جنوب السودان”.

الانتهاكات

مثّلت تصريحات البشير وقتها ضوءاً أخضر أطلق أجهزة الدولة والتحريض الديني وعنفه تجاه المسيحيين؛ وبدأ تاريخ طويل من هدم الكنائس وإزالتها. 

وبعد تصريحات البشير مباشرة، أقدمت مجموعة متشددة على حرق مبنى تابع للكنيسة الإنجيلية اللوثرية بمدينة أمدرمان في يونيو 2011م. وفي مطلع العام 2012م، حرق مجموعة من الأهالي بمنطقة الجريف مجمع كنسي في المنطقة بعد تحريض علني من قبل أحد الشيوخ السلفيين، ولم تحقق الشرطة في الحادثتين.

 

لتقدم السلطات المحلية بالخرطوم بإزالة مباني الكنيسة الأسقفية بالحاج يوسف، بزعم أنها شيدت بصورة عشوائية ودون ترخيص من السلطات، وتجدر الإشارة إلى أن تلك الكنيسة أنشئت في العام 1978م وكانت تمارس فيها الشعائر الدينية منذ ذلك الحين.

وفي إفادته لـ(بيم ريبورتس) يقول أحد المنتمين للكنيسة الإنجيلية في بحري، رأفت سمير، “شهدت أعياد الميلاد ما قبل الثورة تضيقياً على المسيحيين، حيث يعتقل القساوسة ويهجم على الكنائس، علاوة على عدم منح المسيحيين عطلة العيد”.

تأثير الثورة

بعد الإطاحة برأس النظام السابق في 11 أبريل 2019م، علق مسيحيو السودان آمالاً في أن تسترجع لهم الحكومة الانتقالية حقوقهم التي تعرضت للانتهاك والسلب على مدى عقود. عملت الحكومة الانتقالية، في فترة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، على إجراء عدداً من التعديلات المتعلقة بالتشريع، بالإضافة إلى قانون الأحوال الشخصية، وقامت بإلغاء حد الردة، ووضع عقوبة جنائية على التكفير. إضافة إلى إعادة الحكومة عطلة عيد الكريسماس التي كانت لغتها حكومة الإنقاذ بعد انقسام السودان في 2011م.

جهد غير كاف

لكن الحقوقي والمحامي، ديماس مرجان، يرى في إفادته لـ(بيم ريبورتس) أن الحكومة الانتقالية شهدت تغيراً في شكل الخطاب، وكان متوازناً إلى حد كبير في التعامل مع ملفات الحريات الدينية. لكنه يعود ويقول برغم الخطاب المتزن إلا أنه لم ينعكس بصورة واضحة على مستوى التطبيق.

 

يذهب رأفت سمير في ذات اتجاه مرجان، ويقول”لم تكن للحكومة الانتقالية الرغبة الحقيقية للتعامل مع الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون المسيحيون، وكان تركيزها ينصب على إرضاء المجتمع الدولي ورفع العقوبات. لكنها لم تشرع في رد المظالم التاريخية والأصول التي صودرت في عهد الإنقاذ”.

 

توجت مساعي الحكومة الانتقالية بشطب السودان من قائمة المراقبة الخاصة بالحريات الدينية، وكانت الولايات المتحدة قد أدرجت السودان عام 1999م على القائمة السوداء حول الحريات الدينية ضمن مجموعة من الدول، قبل أن تنقلها في 20 كانون أول/ديسمبر 2019م، إلى قائمة المراقبة. ثم إزالتها بشكل نهائي.

 

لكن ما بعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م فإن الأوضاع قد شهدت تراجعاً كبيراً بالنسبة للمسيحيين في السودان، عادت الانتهاكات مرة أخرى، وليس ما شهدته ولاية القضارف (شرق السودان) من إقدام نظامي يتبع للجيش بحرق كنيسة المسيح السودانية بمنطقة الدوكة، إلا أكبر دليل على ذلك.

المسيحية في السودان القديم

للمسيحية في السودان تاريخ ضارب في القدم، وهو يعود إلى قرونٍ مبكرة من العهد المسيحي، بصورة أكثر تحديداً إلى نهاية النصف الأول من القرن السادس الميلادي، حيث شهد السودان تشكل ممالك في شمال وأواسط البلاد اتخذت من المسيحية ديانة رسمية لها. حيث قامت ثلاث ممالك مسيحية، وهي مملكة نوباتيا (543م) وعاصمتها فرس، ومملكة المقرة (569م) وعاصمتها دنقلا العجوز، ومملكة علوة(580م) وعاصمتها سوبا. ولاحقاً اندمجت مملكتي المقرة ونوباتيا في مملكة واحدة، ومع دخول المسلمين بلاد النوبة بقيادة عبد الله بن أبي السرح انتهى الأمر بعقد الصلح بين الطرفين فيما عرف باتفاقية البقط.

دولة المواطنة

مع عدم وجود تعداد دقيق في السودان، إلا أن أحدث التقديرات تشير إلى أن سكان البلاد يبلغ 45.6 مليون نسمة، يدين 91% منهم بالإسلام، بينما تتوزع على 5.4% مسيحيون، و 2.8% ديانات شعبية، والباقي يتبع ديانات أخرى أو غير منتمين لأية ديانة. علاوة على  وجود ما يزيد عن المليون لاجئ وطالب لجوء في البلاد.

وفي ظل هذه الإحصاءات، فإن سؤال المواطنة المتساوية دون تمييز على أساس الدين يظل قائماً في سبيل كفل الحقوق والواجبات الدستورية، في بلدٍ عرف بالتنوع الثقافي والديني والإثني.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع