أشبه بالخصخصة.. كيف تهدد سياسات القبول الجديدة بالجامعات الحكومية السودانية مستقبل آلاف الطلاب؟

بين أسوار ثانوية (حجر الطير) الماثلة جنوب مدينة شندي شمالي البلاد، جلست رونق نصر الدين لامتحانات الشهادة السودانية، وثابرت في سبيل حجز مقعدٍ لها بكلية الطب في إحدى الجامعات الحكومية، الأمر الذي توجته بإحرازها نسبة 92% في نتيجة هذا العام. لكن، وكما تقول والدة رونق، وصال العوض “قبل أن تكتمل فرحة ابنتي بقبولها في مجال الطب البشري بجامعة بحري، لم يكن للجامعات إلا أن تعلن عن رسومها الدراسية الجديدة، وتقطع الطريق أمام ذلك الحلم، وتكشف الستار عن واقع منافسة غير عادلٍ البتة”.

قيود وأعباء إضافية

في ظل أزمة اقتصادية تشتدُ وطأتها يوماً إثر يوم، وتطال تبعاتها غالبية المواطنين السودانيين، ومؤسسات الدولة كافة، خاصة تلك التي تعتمد في تمويلها وتسيير عملها على وزارة المالية. فإن هذه المؤسسات عادةً ما تلجأ إلى فرض مزيد من الرسوم أو مضاعفة رسوم الخدمات التي تقدمها سلفاً، لتضرب بذلك قيوداً جديدة على المواطن، وهو ما تجلى في الرسوم الدراسية للعام الجديد في مؤسسات التعليم العالي الحكومية.

تضاعفت نسبة الرسوم الدراسية بصورة مهولة مقارنة بالعام الماضي، والتي كانت هي أيضاً محل رفض من قبل الطلاب. لكن ذلك لم يدفع الجامعات إلى التراجع عنها، بل استمرت في فرض زيادات جديدة هذا العام، الأمر الذي  قوبل برفض واستنكار شديدين من قبل الطلاب وأسر الطلاب المقبولين.

تعليم للمقتدرين حصراً

“ذهبت إلى الجامعة، وعلمت بشأن المقاطعة التي نظمها طلاب كلية الطب، ولم يكن هناك خيار سوى المقاطعة” تقول والدة رونق، وصال العوض، في إفادتها لـ(بيم ريبورتس).

وتضيف العوض “بالرغم من خشيتي أن تفقد ابنتي مقعدها بالجامعة، إلا أنني لن أستطيع تسديد المبلغ، خاصة وأننا فوجئنا به الآن ولم يعلن عنه قبل فترة لنتمكن من جمعه”.

لوقتٍ طويل، كانت الجامعات الحكومية ملاذاً مضموناً لجميع الطلاب السودانيين، من  مختلف الجغرافيات والأوضاع المادية، حيث تكون المنافسة سنوياً بين الطلاب على حسب نسب نجاح مرتفعة، حيث أن المستوى الأكاديمي المتميز هو الفيصل الوحيد في المنافسة للقبول بها. 

وها هي اليوم تغير سياساتها للقبول في مفاجأة لجميع الطلاب المقبولين حديثاً بفرض رسوم تعجيزية، غير آخذة في الاعتبار الأوضاع المادية لأسر الطلاب، متجاهلة كذلك الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد.

نسب زيادة مرتفعة

شملت زيادة الرسوم الدراسية معظم الجامعات الحكومية بالبلاد، والتي يعول عليها معظم خريجي الشهادة السودانية. وعلى سبيل المثال، فإن الرسوم الدراسية في جامعة الخرطوم  تراوحت ما بين 300-500 ألف جنيه للسنة، علاوة على الزيادة في رسوم التسجيل والإجراءات المصاحبة له، مثل الكشف الطبي للطالب، بالإضافة لارتفاع تكاليف سكن الطلاب، الذي وصل إلى 60 ألف جنيه للطالب، في حين أنه لم يتجاوز الـ 5 آلاف في الأعوام السابقة.

أما في جامعة السودان، فقد قاربت زيادات رسوم الطلاب المقبولين حديثاً من النصف مليون جنيه سوداني، وأردفت بزيادة في رسوم التسجيل لدفعات مقبولة مسبقاً، حيث ارتفعت رسوم التسجيل بالنسبة لدفعة العام 2019م بنسبة 300%، كما كانت الزيادة بالنسبة لطلاب الدفعة 2020م بنسبة 1000% متجاوزة بذلك لائحة التعليم العالي بأن لا تزيد رسوم التسجيل للدفع السابقة بأكثر من 10%.

شملت الزيادة في الرسوم الدراسية معظم الجامعات الحكومية وأكثرها قبولاً للطلاب، كجامعة الجزيرة، بحري والنيلين.

دواعي زيادة الرسوم

بينما يعيش السودانيون بالأساس، في ظل ظروف اقتصادية طاحنة، فرضت الجامعات الحكومية رسوم باهظة على الطلاب بحجج مختلفة، والتي من ضمنها العجز في ميزانية الجامعات. حيث فاقمت هذه السياسات التي لم تضع الطلاب وأسرهم ضمن أولوياتها، من سوء الوضع، الأمر الذي فجر الغضب وسط طلاب الجامعات، وانخرطوا على الفور في حراك مقاوم لهذا القرارات.

في جامعة الخرطوم، نظم الطلاب حراكاً مناهضاً لهذه القرارات، ضم روابط وجمعيات الكليات المختلفة، وشرعوا في الدعوة لاجتماعات مع إدارة الجامعة بشأن قضية الرسوم الدراسية.

"قدمنا طلباً لمقابلة مدير الجامعة، لكنه رفض الجلوس معنا ثم صعدنا بمواكب حتى تقدم بدعوتنا لاجتماع، وضح فيه موقفه من قضية الرسوم، وقال إنه لن يتم تخفيض الرسوم نهائياً". يوضح رئيس رابطة كلية الآداب بجامعة الخرطوم، عمر السر، لـ(بيم ريبورتس).

بعد مقابلة الطلاب مدير الجامعة أخرجت الروابط بياناً مشتركاً وصفت فيه تصرفات إدارة الجامعة بـ”التعنت” قبل أن تدعو لمواكب طلابية متوجهة لمكتب مدير الجامعة، وأخيراً اتجه تصعيد الطلاب نحو دعوة المقبولين حديثاً بمقاطعة التسجيل حتى تخفيض الرسوم، ودعا الطلاب بالجامعة لمقاطعة المناشط المقامة من قبل عمادة شؤون الطلاب مثل الأسبوع الثقافي و بطولة الشطرنج المفتوحة إلى حين تحقيق المطالب.

لم تقتصر الاحتجاجات على ذلك القرار من قبل الطلاب فحسب، بل شاركهم ذوو الطلاب الجدد، باعتبارهم طرف أصيل متأثر بهذه الأزمة وقد تم تجاهل وضعه في الاعتبار بهذا القرار.

في هذا السياق يواصل عمر السر قائلاً: "عندما أقمنا ركناً للنقاش بالجامعة حول قضية الرسوم، قام أحد أولياء أمور الطلبة المقبولين حديثا بطلب مداخلة، قال والد الطالب إنه لا يملك حتى رسوم الكشف الطبي 20 ألف جنيه، وإن استطاع جمعها لن يكون قادراً بالتأكيد على جمع الرسوم بهذا المبلغ".

سرعان ما انضم للحراك طلاب كلية الطب بجامعة بحري، حيث أعلنت رابطة طلاب الطب رفضها القاطع لهذا القرار ووصفت الزيادة في الرسوم بـ”غير المبررة” وبعد اجتماعات مع إدارة الجامعة دعت الطلاب المقبولين حديثاً وذويهم لمقاطعة التسجيل حتى تخفيض الرسوم.

"ليس لهذا القرار شرعية، وهو متاجرة بالتعليم فقط لا غير، في حال رضينا بهذه الزيادة فسوف تصبح زيادة ثابتة سنويا في الأعوام المقبلة" يقول رئيس رابطة كلية الطب بجامعة بحري، مهدي البشير، لـ(بيم ريبورتس).

في الوقت نفسه، نظم طلاب جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا إضراباً شاملاً بالجامعة رافضين القرار الجديد بزيادة الرسوم للدفعات القديمة والرسوم الباهظة التي فرضت على الدفع المقبولة لهذا العام.

رد الجامعات

لم تختلف ردود الفعل من قبل إدارات الجامعات عن بعضها البعض كثيراً، فقد أجمعت على رفض تخفيض الرسوم الدراسية المعلن عنها. فجامعة الخرطوم، كانت قد عقدت اجتماعاً يوم الثلاثاء 20 ديسمبر برئاسة مدير الجامعة، عماد الدين عرديب، ضم الاجتماع أعضاء بإدارة الجامعة وعمداء الكليات بحضور روابط الطلاب بكل الكليات وأقرت خلال الاجتماع عدة بنود أهمها الإبقاء على الرسوم التي أقرتها الجامعة، مع النظر في حالة الطلاب غير المقتدرين.

أما جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، فقد صرحت في بيان لها، أن الزيادات المفروضة هي “نتاج طبيعي للتضخم” وأن العملية التعلمية ستتوقف “اضطرارا” إذا لم يلتزم الطلاب بدفع الرسوم الدراسية المقررة، لكن الإضراب ظل مستمراً بكليات الجامعة وكان الرد من إدارة الجامعة أن أصدرت بيانا أعلنت فيه تعليق الدراسة إلى أجل غير مسمى.

بيان تعليق الدراسة بجامعة السودان المجمع الجنوبي

نُذر الخصخصة

يرى مختصون أن هذه المرحلة هي نتيجة حتمية لارتباطها الوثيق بتردي الوضع الاقتصادي والذي من شأنه ان يضر بقطاع التعليم و ان هذه القرارات ليست إلا امتدادا للسياسة الاقتصادية الجديدة بالبلاد.

في هذا السياق يقول الخبير الاقتصادي د.معتصم أقرع لـ(بيم ريبورتس) "مثل هذه القرارات هي نتيجة لسياسات الحكومة الاقتصادية التي بدأت من موازنة العام 2020 حيث كان لهذا التوجه الاقتصادي سمات أهمها رفع الدعم و زيادة الجبايات و تعويم الجنيه، بدعوى أن أموال الدعم ستتوجه نحو التنمية وتمويل الخدمات الأساسية كالتعليم و الصحة و من الواضح أن ذلك لم يحدث، حيث أن الوضع الاقتصادي يتدهور و النمو الاقتصادي في انكماش مستمر"

ويرى أقرع أن هناك اتجاه واضح لخصخصة التعليم ورفع الدولة يدها عن مسؤوليتها الاجتماعية، باعتبار أن ذلك يقلل من فرص الترقي الاجتماعي للفرد في السودان.

ويواصل أقرع “الفقير سيظل فقيرا لأنه لن يتمكن من الحصول على تعليم مناسب لانتشال نفسه وأسرته من الفقر”.

لابد أن لكل هذه الظروف مجتمعة أثراً كبيراً على مستقبل التعليم في السودان، وفي ظل ضائقة معيشية طاحنة وأوضاع اقتصادية متردية، فإن مثل هذه القرارات تشكل عبئاً إضافيا على الفئات التي اختارت التعليم كمخرج آمن لها، ليجد المتقدم أن الجامعات الحكومية التي كانت على مسافة واحدة من جميع الطلاب في كافة أرجاء السودان، أضحت اليوم على هيئة سلعة يحصل عليها أبناء المقتدرين حصراً.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع