من صالون (فوز) إلى الجمعيات الأدبية.. كيف لعبت الثقافة دوراً طليعياً في استقلال السودان؟

من هناك، منزل “فوز” بأمدرمان مطلع العشرينيات، خرجت الأشعار والأغاني التي شكلت وجداناً مقاوماً للاستعمار البريطاني. حيث احتضن المنزل رهطاً من الشعراء والأدباء والسياسيين، وكان لهم ملاذاً آمناً من أعين المخابرات البريطانية، التي ضيّقت الخناق على الأنشطة التي نظمها مثقفو وسياسيو السودان في ذلك الزمان. وهو المكان الذي صدح فيه خليل فرح بأغنياته الوطنية لأول مرة، وخبئت فيه آلة طباعة استخدمت لنسخ المنشورات السياسية التي انتشرت في جميع أنحاء الخرطوم.

دار فوز

أسست جمعية الاتحاد السوداني في العام 1921م، وهي واحدة من أوائل التكوينات السياسية مطلع العشرينيات، والتي ضمت عدداً من المثقفين والمتعلمين بالعاصمة والأقاليم، وتكونت من خلايا سرية بعدد لا يتجاوز الخمسة أعضاء في الخلية الواحدة. ومع اتساع نشاط الجمعية وتمدده ومحاولة انفكاكه من قبضة الرقابة المفروضة على أنشطة وأجسام مشابهة من قبل الإدارة الاستعمارية، فإن أعضاء الجمعية كانوا في بحث مستمر عن مقر لتنظيم اجتماعاتهم، ليرسو بهم الأمر إلى استئجار صالون وحوش شاغرين بمنزل السيدة (حلوة) والتي كانت تسكن فيه مع ابنتها الوحيدة (الشُّول) والتي ستصير فيما بعد فوز، ويعرف ذلك المنزل باسمها، ويحتضن الكثير من الاجتماعات وجلسات الأنس والسمر.

منافذ عدة

لم تكن جمعية الاتحاد السوداني هي الجسم أو التجمع الوحيد الذي انتهج الثقافة في سبيل التحرر الوطني، بل كان للأدباء والمثقفين منافذ وأجسام عدة، والتي ساهمت إسهاماً مقدراً  في تحقيق استقلال السودان، في العام 1956م.

 العمل الذي بدأ منذ بواكير تشكل جمعيات القراءة في أمدرمان،  وولاية الجزيرة (جمعية ود مدني الأدبية) وهي التي كانت جنيناً لمؤتمر الخريجين؛ حين أطلق أحمد خير المحامي من منبرها فكرته، ثم نمت الفكرة وتبلورت عن طريق كتابة الصحافيين عن دور المؤتمر الطليعي في جريدة السودان، ومجلة الفجر، الأمر الذي تمكن من جذب مختلف المهتمين.

بدائل جديدة

نسبة للممارسات الاستعمارية والتضييق على السودانيين، فقد تولد حس وطني باحثاً عن هويته، ومناهضاً للوجود الأجنبي، وهي المدعاة الأساسية لظهور الجمعيات السياسية كالاتحاد السوداني، ولاحقاً جمعية اللواء الأبيض، التي ناهضت الاستعمار بأدوات ووسائل عدة. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأجسام شكلت روحها من داخل الفضاء الثقافي والأدبي، بعد تضييق الاستعمار الخناق على الممارسات السياسية.

وترأس الجمعية علي عبد اللطيف وعضوية  عدداً من الكتبة وصغار الموظفين، لتشهد بعد ذلك تحولاً في مناهضة الإنجليز عبر الفعل السياسي، جنباً إلى جنب مع سطوع عدد من مبدعي وشعراء الحركة الوطنية، مثل الموسيقار إسماعيل عبد المعين، وحسن خليفة العطبراوي، علاوة على الأشعار التي شكلت مزاج تلك الفترة؛ ومنها قصيدة خضر حمد للعلا، وصه يا كنار لمحمود أبي بكر.

جمعية اللواء الأبيض

ارتفع صوت الخلافات داخل جمعية الاتحاد السوداني حول الطريقة المثلى لمقاومة الاستعمار، ورأى البعض أنه ينبغي مواجهته بطريقة أكثر جذرية وحدة، الأمر الذي حدا بتكوين جمعية اللواء الأبيض. وعلى الرغم من توجهها السياسي، إلا أنها اتخذت من الثقافة والأدب رافداً أساسياً، يتمظهر ذلك في الهتافات التي شهدتها التظاهرات التي خرجت ضد السلطة البريطانية من شاكلة  “نحن الشرف الباذخ”، وهتاف طلاب الكلية الحربية “يا أم ضفاير قودي الرسن، اهتفي فليحيا الوطن”.

بعد القمع الذي تعرضت له انتفاضة اللواء الأبيض في 1924م، غير المثقفين تكتيكاتهم في  مقاومة الاستعمار، واتجهوا إلى توعية المجتمع عن طريق زيادة التعليم الأهلي وبث القيم الوطنية. 

وابتكر المثقفون وسائل وأدوات أدبية وفنية عديدة في سبيل نشر القيم التي نادوا بها، مثل المسرح والحفلات، والخطاب الشعري الذي ظهر في النشيد الوطني “في الفؤاد ترعاه العناية” والذي أحدث قطيعة مع مؤسسات الاستعمار؛ حيث ورد فيه “ما بخش مدرسة المبشِّر.. عندي معهد وطني العزيز”.

دور الصحف والمجلات

شكلت الصحف والمجلات فضاء جديداً للمقاومة، وجاءت كتطور طبيعي لمجموعات القراءة والنقاش التي نشطت في الأحياء، وأضحت منفذاً لحركة التنوير في السودان؛ مثل جمعية أبوروف الأدبية، والهاشماب والموردة.

كانت الظروف مواتية لجمعية الهاشماب في تكوين مجلة الفجر، والتي خلقت تأثيراً في الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي، عبر مناقشتها لقضايا الهوية والانتماء. وانتظمت البلاد عدداً من الندوات والمحاضرات؛ التي نظمها مؤتمر الخريجين بعد توقيع المعاهدة المصرية – البريطانية في عام 1936م، والتي لم يجيء فيها ذكر مصير السودان. لتنشر محاضرة “واجبنا السياسي بعد المعاهدة” في مجلة الفجر.

بعدها نُظم أول مهرجان أدبي، في العام 1939م، بمدينة ود مدني، والذي تطرق – إلى جانب الأدب – لقضايا الاقتصاد والهوية والتخلف. وأقيمت النسخة الثانية من المهرجان بمدينة أمدرمان، في العام التالي. وكان مقرراً إقامة النسخة الثالثة بنادي الخريجين بالخرطوم، إلا أن الإدارة البريطانية منعت قيامه، لكن النسخة الرابعة اتخذت مكانها بمدينة الأبيض (شمال كردفان). 

منذ العشرينيات، ومع دخول التيارات الفكرية الحديثة إلى السودان بشكل كبير، كانت الأسئلة الوطنية الكبرى المتعلقة بالتحرر والهوية قد برزت إلى السطح. وعولجت هذه الأسئلة في البدء من خلال الندوات والأشعار والأغاني التي شكلها الجيل المبكر من الحركة الوطنية السودانية التي انتظمت النوادي والصوالين الأدبية، قبل أن تتبلور في أجندة سياسية واضحة. الأمر الذي جعل هذه الأجسام ومطالبها ذات طابع ثقافي في الأصل، ولكن تنبغي الإشارة إلى عدم القدرة على الفصل القاطع والحاد بين ما هو ثقافي وما هو سياسي.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع