وسط صراع نفوذ ومحاور إقليمية ودولية محتدم، تشهده الساحة السياسية السودانية، تصاعد بعد إطاحة ثورة ديسمبر بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019 م، وفي خضم حالة انقسام في تركيبة القوى العسكرية والمدنية.
لم تكف القاهرة صاحبة الخبرة والنفوذ التاريخي في الخرطوم، عن محاولاتها المستمرة، التي تتخذ أشكالاً عديدة، في البحث عن أجندتها في أزمنة الخرطوم الأكثر اضطرابًا، من خلال توجيه العملية السياسية، في بلدٍ يعيش تحت زعازع التدخل الأجنبي ومخاطر التشظي الداخلي، تعمقت في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021م، الذي يُعتقد بأن لها فيه ضلع كبير، حسبما أشارت لذلك تقارير صحفية عديدة.
ومع ذلك، ظلت القاهرة تنفي مثل هذه الاتهامات، بما في ذلك محاولة التدخل في الشأن السوداني، ودائماً ما تشير إلى أنها تحترم سيادة البلاد وتقف على مسافة واحدة من الأطراف كافة، وأن ما تريده فقط؛ هو استقرار الخرطوم، لا أكثر.
ويعتقد بعض المراقبين المراقبين، بأن مخاوف القاهرة الرئيسية، تتركز على تنامي دور الدعم السريع كقوات مستقلة، مقابل الجيش، ورغم ذلك، ليس من الواضح، ما إذا كان موقف القاهرة المبدئي من الدعم السريع يأتي من كونها مليشيا تُثير مخاوفها، أم كونه صراع نفوذ، خاصة وأن اجتماعات عديدة ضمت مسؤولين مصريين، بينهم الرئيس عبد الفتاح السيسي ومدير المخابرات عباس كامل، مع قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي).
أيضاً، يمثل امتلاك أبوظبي نفوذاً كبيراً على الدعم السريع، علاوةً على تحركات الأخيرة الاستثمارية، خاصةً في شرق السودان الذي يشهد قلاقل غير مسبوقة، مخاوف إضافية بالنسبة للقاهرة.
وتبدو الدلائل على ذلك واضحة، بعدما عاد من القاهرة في أكتوبر الماضي، القيادي في حزب المؤتمر الوطني المحلول، محمد طاهر إيلا، آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع، عمر البشير، إلى البلاد، في محاولة للعب دور سياسي في مسرح الشرق الملتهب، تحت لافتة الجهة والعرق.
أيضاً، عاد من القاهرة، إلى الخرطوم، في نوفمبر الماضي، رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي وزعيم الطائفة الختمية، محمد عثمان الميرغني، عبر طائرة مصرية خاصة، أتى وهو يعارض العملية السياسية التي تمخضت عن الدستور الانتقالي الذي اقترحته اللجنة التسيرية لنقابة المحامين، وأدت لاحقاً لتوقيع اتفاق إطاري مع الجيش، ينتظر أن يسفر عن اتفاق نهائي، يقود إلى تشكيل حكومة بقيادة مدنية.
طائرة مصرية أخرى، أقلت إيلا من مدينة بورتسودان إلى القاهرة على وجه السرعة، الشهر الماضي، بعد تعرضه لانتكاسة صحية، حسبما أشارت لذلك تقارير صحفية، والذي كان قد بدأ حراكاً سياسياً واسعاً وظهر مع بعض الجماعات المسلحة هناك.
وفي خضم تسارع العملية السياسية التي تيسرها الآلية الثلاثية المكونة من الاتحاد الأفريقي، إيغاد والأمم المتحدة، بجانب (الرباعية) وعودة إيلا إلى القاهرة، ألقى الزعيم الأهلي بشرق السودان، سيد محمد الأمين ترك والذي يتقلد منصباً رفيعاً في تحالف الكتلة الديمقراطية الذي يضم حركات مسلحة والحزب الاتحادي الأصل، بالونة اختبار سياسي، بتقديم دعوة غير مسبوقة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بالتدخل في الشأن السوداني.
قال ترك مخاطباً السيسي: “أنا من هنا داير أقول كلام للرئيس المصري السيسي، أنه المبادرة المصرية دي يا السيسي أسعى في هذه المبادرة، يا أفتح لينا الحدود البرية.. نحن وانت كلنا نكون عايشين سوا عشان نثبت تقرير مصيرنا”.
حديث ترك، جاء في أعقاب زيارة مدير المخابرات العامة المصرية، عباس كامل للبلاد، بحثاً عن منظور القاهرة لكيفية حل قضايا الخرطوم، من خلال مبادرة قدمها للفرقاء السودانيين، تطورت لاحقاً إلى ورشة عمل، رفضتها قوى الحرية والتغيير فيما أيدتها حركات مسلحة ومجموعات وأحزاب، محسوبة على نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، والقائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان.
ورغم تأرجح العلاقات السياسية بين الخرطوم والقاهرة، في كل الحقب ما بعد الاستقلال، إلا أن العلاقة بين جيشي البلدين ظلت وطيدة إلى حد كبير، فيما يتعلق بالتدريبات المشتركة، والتنسيق المشترك، بما في ذلك دراسة قادة الجيش السوداني في المعاهد العسكرية المصرية.
كذلك يحتفظ الجيش المصري بعلاقات اقتصادية مستقلة مع نظيره السوداني، بالإضافة إلى وجود شبح تدخل للجيش المصري في الانقلابات العسكرية الفاشلة والناجحة في البلاد، بما في ذلك الإرهاصات التي سبقت أول انقلاب عسكري في السودان في نوفمبر 1958م، وآخرها حتى الآن في أكتوبر 2021م.
الدور المصري في السودان بعد الثورة
مع أن الدور السياسي المصري في السودان قديم، لكنه بدأ يأخذ منحنى متصاعداً في الأيام الأخيرة لسقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019م، قبل أن يصل ذروته في سنوات الثورة السودانية اللاحقة تباعاً.
بعد يوم واحد فقط من اعتصام مئات آلاف المتظاهرين بالمقر الرئيسي للقيادة العامة للجيش السوداني بالعاصمة الخرطوم في 6 أبريل 2019م، تتويجاً لاحتجاجات شعبية واسعة بدأت في ديسمبر 2018م، وصل في السابع من الشهر نفسه نائب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني وقتها، جلال الشيخ، إلى العاصمة المصرية القاهرة، حيث اجتمع مع مسؤولين في جهاز المخابرات المصري حول مدى قبول القاهرة للإطاحة بالبشير، حسب (وكالة أسوشيتد برس).
وقالت الوكالة الأمريكية، إن الشيخ، استفسر المسؤولين المصريين في جهاز المخابرات العامة، عن رد فعل القاهرة إذا قاموا بالإطاحة بالبشير، وما إذا كانت الرياض وأبوظبي ستدعمهم مالياً.
لم تمر سوى خمسة أيام على زيارة الوفد الأمني السوداني إلى القاهرة، حتى أعلن الجيش عزل البشير من منصبه وتولي نائبه ووزير الدفاع عوض ابن عوف رئاسة مجلس عسكري انتقالي، في 11 أبريل 2019م، لكنه سرعان ما تنحى عن رئاسته، ليخلفه القائد العام الحالي للجيش، عبد الفتاح البرهان، في اليوم التالي.
البرهان الذي تولى رئاسة المجلس العسكري، في 12 أبريل 2019م، كانت أولى زياراته الخارجية إلى العاصمة المصرية القاهرة، في الخامس والعشرين من شهر مايو 2019م، حيث أدى التحية العسكرية للرئيس، عبد الفتاح السيسي، خلال مراسم استقباله في القصر الرئاسي.
وقال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، بسام راضي، في تصريحات صحفية، إن مباحثات البرهان والسيسي أسفرت عن “التوافق على أولوية دعم الإرادة الحرة للشعب السوداني واختياراته”.
فيما أكد البرهان، ما وصفه بالتقارب الشعبي والحكومي المتأصل بين مصر والسودان، ومشيداً بـ”الدعم المصري غير المحدود لصالح الشعب السوداني وخياراته للحفاظ على سلامة واستقرار السودان في ظل المنعطف التاريخي ال