أصبح التعايش مع النفايات في العاصمة السودانية الخرطوم، أمراً لا مفر منه، في المدينة التي تحتضن شوارعها المتهالكة وأسواقها وأحيائها السكنية، آلاف الأطنان من مخلفاتها.
لا يقتصر غرق الخرطوم في كومة من الأوساخ والبيئة الملوثة على المخلفات العادية، بل يمتد إلى النفايات الطبية، التي تبقى لأيام في المكبات بالقرب من المستشفيات، انضم إلى هذا الجو الخانق، الغاز المسيل للدموع، كمخلفات وتلوث إضافي.
وأصبحت الروائح الكريهة، المنبعثة من هذه النفايات، بالإضافة إلى انفجار الصرف الصحي المستمر، خاصة في وسط الخرطوم، جزءاً من مدينة يطلق عليها اسم العاصمة جزافاً.
في خضم هذا الوضع المزري، ومع غياب دور الدولة في التعامل مع مخلفات النفايات، فقد أصبح كل شارعٍ وفسحة مكباً للنفايات، وأضحت الخرطوم عاصمة تحفها مخلفات القمامة من كل جانب، وبات أمراً معتاداً، أن تقف سيارة وينزل سائقها ويضع أكياساً من القمامة، على قارعة الطريق، وهو أمر يمكن أن تشاهده أكثر من مرةٍ في اليوم، في أماكن عديدة.
أزمة قديمة متجددة
رغم تنامي أزمة النفايات أخيراً في مدينة الخرطوم بمحلياتها السبع، إلا أنها ليست جديدة كلياً، فالعاصمة ظلت تحت وطأة هذه الأزمة منذ حوالي 23 عاماً، ولكنها خلال السنوات الأخيرة تفاقمت بشكل كبير.
ويأتي على رأس الأسباب التي أدت إلى استمرار الأزمة؛ زيادة نسبة النفايات التي تخلفها مدينة الخرطوم يومياً، لتصبح 7 آلاف طن يومياً خلال العام 2022م، مقارنة بـ 3 آلاف طن خلال العام 2016م، أي بنسبة زيادة تفوق الضعف خلال 6 سنوات.
كانت مسؤولية التخلص ومعالجة النفايات في الخرطوم تقع على عاتق المحليات، حيث تمول هذه العملية من عوائد إيراداتها، في وقت لم تكن هناك رسوم مفروضة على المواطنين. وخلال حقبتي الثمانينات والتسعينات، ومع زيادة عدد سكان الخرطوم، علاوة على تغّير نمط الحياة ونوعية الاستهلاك، شهدت نسبة مخلفات النفايات زيادة كبيرة، وهو ما قابلته المحليات بفرض رسوم على المواطنين مقابل نقل النفايات.
وظّفت المحليات تلك الرسوم، والتي كان يتم تحصيلها بصورة منفصلة عن إيرادات المحلية الأخرى، في توفير الآليات ودفع استحقاقات العمال. وهو جزء من سياسات الخصخصة التي طبقها النظام المخلوع في بداية التسعينات، والتي شملت خفض الصرف على المؤسسات الخدمية من صحة وتعليم.
خصخصة وفساد
لم يكن قطاع النفايات استثناء من الخصخصة التي طالت القطاعات الخدمية في عهد النظام المخلوع، حيث خصخصت الحكومة شركة الخرطوم للنظافة، وهي شركة تمتلكتها ولاية الخرطوم، وكانت تمتلك أكثر من 500 عربة نقل نفايات، وحرقة بمدينة أمدرمان، بالإضافة إلى ثلاثة مدافن.
ومع انتظام عمل الشركة وتحقيقها لإيرادات مالية كبيرة من عملها، فإن الأمر لفت النظر إليها بغرض الاستيلاء عليها. حيث وضعت العراقيل أمام الشركة، الأمر الذي أدى إلى تدهورها وتراجع أدائها بنسبة 25%. ليتم خصخصتها في العام 2012م، واستبدالها بـ12 شركة خاصة، امتلكها أفراد موالون للنظام المخلوع.
وفي ظل غياب أي رؤية استراتيجية لإدارة تلك الشركات، والتي مثلت جيوباً للفساد، كانت النتيجة فشلها الكامل في إدارة ملف النفايات، بسبب ضعف إمكانياتها وعدم خبرتها في عمل النفايات، بالإضافة إلى الصراع الذي اندلع بين النافذين الذين كانوا يمتلكون تلك الشركات، حول رسوم تجميع و نقل النفايات بالولاية.
وفي وقت لاحق، نقلت الحكومة، مسؤولية إدارة ملف النفايات من المحليات إلى رئاسة الولاية، عبر تكوين هيئات من حكومة الولاية تعمل رفقة المحليات. فكان ميلاد مشروع نظافة ولاية الخرطوم الإسعافي، في العام 2001م. لكنه لم يحقق المرجو منه، في ظل فشل إداري وفساد مالي صاحب المشروع، علاوة على توقف الدعم المالي من حكومة الولاية. وعقب فشل المشروع، أقدمت الحكومة على تشكيل هيئة نظافة ولاية الخرطوم للاضطلاع بنفس المهام، وتبعت إداراتها إلى المجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية.
مبادرات آنية
مع استمرار الفشل الحكومي وتردي الأوضاع البيئية خلال السنوات الماضية، أطلق عدد من المبادرات الشعبية والمنظمة في الخرطوم، بهدف العمل على الإصلاح البيئي، والتي شملت على حملات نظافة للأحياء السكنية والأسواق، بالإضافة إلى معالجة مخلفات النفايات المختلفة. لكن، افتقدت تلك الجهود بعد النظر، وكانت جهوداً آنية ولم تنجح في التعاطي مع المشكلة في بعدها الكلي، والذي يتعلق بضرورة وجود سياسات واضحة تعالج جذر المشكلة.
حراك عمال النظافة
لسنوات، ظل عمال النظافة يعملون تحت أوضاع غاية في الصعوبة، بدءاً من ظروف عملهم القاسية، وليس انتهاءً بضعف الرواتب وعدم إدراجهم ضمن التراتبية الوظيفة في الدولة. ومع حراك العمال في القطاعات المختلفة إثر ثورة ديسمبر، انتظم عمال النظافة في حراك مطلبي، بدأ في ديسمبر 2020م واستمر لثلاث أيام، وكانت أبرز مطالبه زيادة الرواتب والتي كانت 3 ألف جنيه حينها.
وفي ظل استمرار تجاهل مطالبهم، عاود عمال النظافة في محلية الخرطوم الإضراب عن العمل مجدداً في سبتمبر 2022م، وذلك احتجاجاً على ضعف الرواتب، حيث يتقاضى العامل فقط 20 ألف جنيه في الشهر، في وقت يشهد في السودان ضائقة اقتصادية ومعيشية تزاد يوماً إثر يوم. لكن الروتب لم تكن هي السبب الأبرز في إضراب العمال، بل هناك مطالب بتوفير ظروف عمل تراعي لسلامتهم، علاوة إلى إدخالهم في مظلة التأمين الصحي والضمان الاجتماعي.
وعود قديمة
وفي أكتوبر من العام الماضي، صرّح مدير عام هيئة نظافة ولاية الخرطوم، عماد الدين خضر، أن التردي في خدمات النظافة هو نتيجة لخروج عدد من آليات النظافة من الخدمة، وأن ولاية الخرطوم تحتاج الى 534 عربة نفايات، في حين أنها تتوفر على 267 عربة فقط، أي بنسبة عجز 50%.
مع النمو السكاني في العاصمة الخرطوم، بعد الهجرات الكبيرة من الأقاليم والولايات الأخرى، بسبب الحروب الأهلية والتنمية غير المتوازنة وانعدام الخدمات في الريف والجفاف والتصحر في عام 1984، علاوة على التغيّر في نمط الحياة الحديثة، فإن كل هذه الظروف أدت إلى تزايد سكان الخرطوم، والذي بدوره أدى إلى تزايد وتنوع كبير في طبيعة المخلفات والافرازات .
وفي الجانب المقابل، فإن غياب دور الدولة وسياساتها في التعامل مع ملف النفايات، فاقم حجم المشكلة، وذلك لعدم وجود سياسات وخطط تستند على إحصاءات علمية بمقدورها التصدي للتحديات الماثلة.
أصبحت الخرطوم اليوم، مدينة لا تُطاق، والتي كانت قد عرفت النظافة والتجميل في حقب محدودة، بعد ذلك تراوحت درجة اتساخها ونظافتها على حسب الظروف السياسية، وفاعلية أجهزة الدولة المعنية، واستناداً على عدد سكانها.
ما يزيد تعقيد أزمة النفايات بمدينة الخرطوم، حالة الفراغ السياسي والإداري المتنامية، وزيادة عدد السكان بشكل مهول، وانعدام الرؤية لمعالجة آثارها التي تمتد إلى صحة المواطنين، بالإضافة إلى التشوه البصري، والتعايش مع القبح جنباً إلى جنب.