يلمع بعيداً عن أعين السودانيين.. هل تنجح (بورصة الذهب) في إنهاء العبث بالمورد الرئيس لاقتصاد البلاد؟

ما يزال قرار إنشاء (بورصة الذهب والمعادن)، يراوح مكانه حتى الآن، على الرغم من مرور ثلاث سنوات على تاريخ صدوره من قبل رئيس الوزراء السابق، عبدالله حمدوك. ومع ذلك، يؤكد مسؤولون حاليون لـ(بيم ريبورتس)، اقتراب موعد افتتاحها في الأشهر القليلة المقبلة.

 

وظل الحديث عن إنشاء بورصة للذهب والمعادن، مستمراً، منذ تشكيل الحكومة الانتقالية في عام 2019م، في ظل تنامي عمليات تهريبه إلى خارج البلاد من خلال المنافذ الرسمية وطرق أخرى، ومحاولة تنظيم عمل القطاع الذي يمثل أهم الموارد الاقتصادية للبلاد في الوقت الحالي، من ناحية أخرى.

رغم ذلك، ما تزال الترتيبات جارية، لتشغيل البورصة التي يقع مقرها بوسط العاصمة السودانية الخرطوم، والذي تبدو عليه آثار حداثة التشييد، ويتناثر بداخله الأثاث المكتبي الجديد والكمبيوترات والمخلفات، حسبما رصدت (بيم ريبورتس).

 

وفيما لا تزال الأحاديث والتصريحات تتجدد عن تشغيل البورصة، إلا أن إنشائها وتشغيلها، قد يصطدم بظروف اقتصادية ولوجستية عدة، بحسب خبراء، والتي ربما قد تقلل من جودة عملها، ما لم يتم ذلك وفق المواصفات العالمية وتشديد الرقابة عليها.

رغم ذلك، يرى مسؤولون أن تأخر إنشاء البورصة أمر طبيعي في ظل الإجراءات المطلوبة لتشغيلها.

 

“البورصة لم تتأخر، بل تعطلت بسبب إجراءات طبيعية، كون أنها  تحتاج للإشراف من كل الجوانب: التشريعية والقانونية والفنية والمالية والإدارية”. يقول مدير مشروع البورصة ومقرر اللجنة التسيرية لسوق مال المعادن الطيب الجعلي لـ( بيم ريبورتس).

ويضيف: “ليس بالضرورة أن يعني إصدار حمدوك لقرارات بشأن إنشاء البورصة قبل 3 أعوام، أن يتم تنفيذها سريعاً”، مشيراً إلى أن أسرع مشروع لتنفيذ بورصة في العالم، تم في اليابان، حيث استغرق إنشاؤها 9 أشهر للعمل، رغم أنها موجودة بالفعل، وفق ما قال.

وحسب الجعلي، فإن وزارة المالية دفعت مبلغ 3 تريليونات ونصف التريليون جنيه سوداني  للبورصة ضمن موازنة العام الحالي، بعد تقديم اللجنة التسيرية دراسات مالية عن احتياجات البورصة.

 

 وعزا أسباب تأخر البورصة حتى اليوم لعدم تخصيص ميزانية لها ضمن موازنة الأعوام الماضية، قبل أن يشدد على دخول بورصة الذهب في موازنة الربع الأول من العام الحالي.

ورأى الجعلي، أن فوائد البورصة بعد إنشائها، تتمثل في كونها سوق منظم ومرتب ويخضع لقوانين ولوائح تغني الدولة عن الوسطاء وتتم بإشراف الجهات الرقابية، وتقدم سعراً عادلاً للمنتج والمستهلك.

 

أيضاً أشار إلى أن البورصة تعزز من الشفافية والنزاهة التجارية وتنظم العائد، وتساهم في مراقبة عائد الصادرات المعدنية. كما أنها ستمكن بنك السودان المركزي من تنفيذ سياساته النقدية عبر تنويع احتياطه وتوفير أدوات مالية  وتجذب الاستثمارات من داخل وخارج السودان، مما يدعم استبقاء الذهب داخل البلد. بالإضافة إلى دورها في معالجة مشاكل التهريب والتوزيع والتخزين.

قرار إنشاء البورصة

في الرابع من مايو عام 2020م، أصدر رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، 6 قرارات اقتصادية، على رأسها إنشاء بورصة للذهب، والنظر في تمثيل الجهات المختصة فيها وتوحيد سعر الذهب مع السعر العالمي. 

 

قرار حمدوك، أكدته وزارة المالية والتي أشارت إلى أهمية البورصة، وقالت إن “الخطوة ستشجع على تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للسودان”، قبل أن تؤكد موافقتها على إنشاء بورصة للذهب والمعادن وبورصة للمحاصيل الزراعية في الرابع عشر من ديسمبر عام 2020م، كما جاء على لسان وزيرة المالية السابقة، هبة محمد علي، والتي قالت إنها ستساهم في تقليل الاستدانة من النظام المصرفي لمكافحة التضخم، كأحد أهداف موازنة العام 2020م.

 

ومع ذلك، يعد قرار افتتاح بورصة للذهب، خطوة قديمة تعود لأكثر من خمس سنوات، لكن عدم جاهزية حكومة النظام المخلوع للوفاء بمتطلباتها أدى لتجميدها. إذ حاولت، في آخر أيامها احتكار شراء الذهب لبنك السودان المركزي، لكنها تراجعت قبل أن تحرر سعره بعد أيام قليلة.

 

وطوال الأعوام الماضية، كان شراء الذهب وتصديره مسموحاً به للقطاع الخاص فقط. ورغم أن الحكومة الانتقالية كانت قد أكدت على اتخاذها خطوات جادة في تأسيس البورصة وشرعت فعلياً في ذلك، إلا أن الخطوة تأخرت بسبب عقبات عديدة، بحسب خبراء اقتصادين ومراقبين.

تشكيل لجنة تسييرية

 بتاريخ 12 أغسطس 2021م،  أصدر وزير المالية، جبريل إبراهيم، قراراً بتشكيل لجنة تسييرية للإعداد لقيام سوق مال المعادن تحت رئاسة وكيل أول وزارة المالية، وعضوية كل من: وكيل وزارة المعادن، مدير عام سلطة تنظيم أسواق المال، نائب محافظ بنك السودان المركزي، مدير عام مصفاة السودان للذهب ومدير سوق الخرطوم للأوراق المالية. بالإضافة إلى خبراء متخصصين في أسواق المال العالمية والمعادن الثمينة؛ مثل عمرو زكريا عبده وعبد العظيم الأموي.

 

المضي قدماً في قرار إنشاء البورصة وجد ترحيباً فورياً، لكونه يعطي دفعة قوية لقطاع الذهب.

 قال عضو اتحاد أصحاب العمل السوداني، أحمد محمد سيد، في تصريح صحفي إن “إنشاء بورصة الذهب يمثل دفعة حقيقية للإنتاج في قطاع التعدين، ويحد من تدني سعر الشراء الذي يعد سبباً رئيسياً لتهريب الذهب للخارج، ويحد من تحمل المنتج مخاطر التهريب، والاتجار في السوق السودان”.

 

وأضاف: “أن وجود بورصة معتمدة يعفي المنتجين من الذهاب ببضاعتهم للخارج؛ ويقلل المخاطر والفاقد بالنسبة للمنتج. كما يمكن من إنشاء عقود آجلة بضمان الإنتاج مما يوفر عائداً من العملات الصعبة للمنتجين والبنك المركزي، ويساهم في إنشاء سندات ذهبية بضمان الذهب نفسه للاستثمار في مدخرات المغتربين السودانيين؛ مما سيضخ تمويلاً لتطوير البورصة وتوسعها، ويوفر للبنك المركزي مورداً من العملات الصعبة بهامش ربح أفضل من الاقتراض”.

 

في الاتجاه نفسه يمضي خبراء، غير أنهم يتحدثون عن متطلبات أساسية لنجاح بورصة الذهب. 

يقول الخبير الاقتصادي، فتحي هيثم، لـ(بيم ريبورتس)، “إن إنشاء بورصة في صورة كيان مؤسسي حكومي شبه ذاتي التنظيم. أو بورصة خاصة أو شركة مساهمة سودانية مع بورصات أجنبية، أو كيان (شركة) تضم شركاء من بورصات إقليمية ودولية، يعد أولى الخطوات الجادة لجذب الاستثمارات في سوق الذهب”.

 

 ويضيف: “في تقديري ستنجح البورصة في تنظيم قطاع التعدين، لأنَّ قيامها سوف يعمل على التساوي بين السعرين العالمي والمحلي، وبالتالي لن يكون هناك سوق موازٍ للذهب في السودان مما سيحد من الأزمات الخدمية والمعيشية التي ظل يعاني منها المواطن سنوات طويلة، كما أنها ستنظم حركة التداول داخل السوق”.

 

ويشير هيثم، إلى أن أهم متطلبات نجاح بورصة الذهب تتمثل في إكمال محاور الاعتراف الدولي بمصفاة الذهب في الخرطوم، وهو أمر ما يزال يحتاج إلى عدة خطوات، حسبما قال. بالإضافة إلى ضرورة تحسين النظام المصرفي السوداني وجعله أكثر تواصلاً مع النظام المصرفي الدولي، مع أهمية تجهيز البورصة بكل أدوات التواصل الإلكتروني مع أسواق الذهب العالمية وتحقيق كل الضوابط الأمنية والتأمينية وفق المعايير الدولية.

 

بالإضافة إلى إنشاء مجلس إدارة يمتلك خبرات كافية لوضع صياغة فنية للذهب والعقود، والاستعانة بشركة إدارة لديها خبرات سابقة في بورصات الذهب حول العالم لإنشاء بورصة سودانية متخصصة بالذهب وإداراتها بكفاءة في فترتها الأولى”، يوضح الخبير الاقتصادي. 

 ويرى أنه من الضروري توفير تدريب خارجي للعاملين ورفع كفاءتهم، وشدد قائلاً: “هذا ما كان يعرقل قيام بورصة الذهب في السودان ونجاح التجربة”. 

الشركة السودانية للموارد المعدنية

في المقابل، أكد المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة (شركة حكومية)، مبارك أردول، في تصريح له خلال اجتماع مشترك بين الشركة واللجنة التسييرية لسوق مال المعادن في مايو الماضي، على ترحيب الشركة بخطوة إنشاء البورصة. 

 

وسرعان ما أعلن عن ابتعاث الشركة مجموعة من منسوبيها للتدريب المبكر في بورصة دبي لتلقي تدريبات وصفها بـ المكثفة والمتقدمة، حول كيفية متابعة أعمال البورصة وكيفية التداول فيها والضوابط التي تحكم أعمالها.

 

وبخصوص عائداته، أعلنت الشركة السودانية للموارد المعدنية في تقرير لها عن تحقيقها أعلى إنتاجية للذهب في تاريخ قطاع المعادن في السودان خلال العام الماضي، إذ قدر التقرير إنتاج الذهب بحوالي 15.28 طن.

وقال مدير الإدارة العامة للإشراف والرقابة على شركات الإنتاج، علاء الدين محمد علي، في تصريح نقلته منصات الشركة على وسائل التواصل الاجتماعي، “إن نسبة إنتاج البلاد من معدن الذهب للعام الماضي بلغت 18 طناً و 637 كيلوغراماً من إنتاج القطاع المنظم من شركات الامتياز وشركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي”.

 وأضاف: “الإنتاجية  تعد الأعلى في تاريخ الشركة السودانية للموارد المعدنية بزيادة بلغت طن واحد و611 كيلوغراماً عن أعلى إنتاج في الفترة الماضية، الذي تحقق في العام 2019م والبالغ 17 طنا و26 كيلوغراما”.

وحسب التقرير، فإن شركات الامتياز أنتجت  3.64 طن في وقت كان مخطط له 3.35 طن بنسبة إنجاز بلغت 105 %، فيما أنتجت شركات معالجة مخلفات التعدين التقليدي 6.09 طن من 5.69 طن بنسبة بلغت 107% ، أيضا بلغ إنتاج التعدين التقليدي 5.55 طن من المخطط 17.5 طن بنسبة 32%.

وأوضح التقرير، أن التعدين  يشغل 173.000 كلم تعادل 16% من مساحة السودان.

 

 كما ذكر التقرير، أن  شركات التعدين الوطنية تشغل 62% من المساحة، مقابل 38% تشغلها شركات امتياز أجنبية يبلغ عددها  “36” شركة امتياز أجنبية، من “18” دولة، تتصدرها الصين بعدد “11” شركة تعدين، ثم “3” شركات لدول الهند وتركيا والمغرب وقطر، وشركتان سعوديتان، وشركة واحدة لكل من الإمارات، أرمينيا، مصر، الأردن، كندا، جنوب أفريقيا، اليابان، اليمن، روسيا، عمان وبريطانيا، فيما توجد “21” شركة امتياز أجنبية أخرى لم يصنفها التقرير.

وطبقاً للشركة، فإن 12 ولاية في البلاد استفادت من مشروعات المسؤولية المجتمعية التي قدرتها بـ79 مشروعاً استضافته مناطقها بقيمة اجمالية تجاوزت 1.9 مليار جنيه. 

 

وذكر التقرير، أن آخر إحصاء لأسواق التعدين قدرها بـ”86″  تنتشر في 12 ولاية، تتصدرها ولاية جنوب كردفان بعدد “24” سوق تعدين.

ورغم حجم الإيرادات الكبير الذي ينتجه السودان واحتلاله المرتبة الثالثة من حيث الإنتاج في القارة الأفريقية بعد جنوب أفريقيا وغانا بحسب تقرير أصدرته هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، إلا أن مراقبين أكدوا على عدم وجود عوائد كبيرة للمعدن على اقتصاد البلاد التي تعاني في الأصل من توفير العملات الأجنبية، مما جعل اقتصاديين يعولون على  قرار تأسيس بورصة للذهب، بهدف المساعدة في الاحتفاظ بهذه الثروة داخل البلاد وتقلّيص عمليات تهريبها.

تهريب مستمر للذهب

في سبتمبر 2021م، كشف تقرير أعده فريق من الاتحاد الأفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية، عن تهريب 267 طناً من الذهب السوداني خلال 7 سنوات بواقع 80 كجم يومياً.

 

وأفاد التقرير، بأنه جرى تهريب هذه الكمية خلال الفترة بين عامي 2013 -2018م، وأشار إلى وجود فرق 13.5 مليار دولار، بين معلومات الحكومة السودانية، والدول التي استوردت الذهب والنفط.

وطبقاً للتقرير، فإن التدفقات غير المشروعة تكلف السودان 5.4 مليار دولار، فيما بلغت فجوة المعاملات التجارية العالمية للسودان خلال الأعوام 2012 – 2018م، 30.9 مليار دولار، وهو مبلغ يمثل 50% من إجمالي تجارة البلاد خلال هذه السنوات.

وفي أواخر يوليو 2022م، نشرت شبكة الـ(سي إن إن) الأمريكية، تقريراً عن تهريب ذهب السودان إلى روسيا بما يقدر بمليارات الدولارات بمساعدة القيادة العسكرية في البلاد. وقالت إنه تم التقاط صورة داخل بنك السودان المركزي لشاشة كمبيوتر تظهر، أن الإنتاج الرسمي في عام 2021 كان 49.7 طن، 32.7 طن منها ليست موثقة من قبل البنك المركزي.

 

وأضافت الشبكة التي قالت إنها تواصلت مع وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين ومع مكتب القائد العام للجيش وقائد الدعم السريع، ولم تتلق ردًا: “الإنتاج الحقيقي قد يكون أكثر من 220 طنًا، أو ما يعادل 13.4 مليار دولار من الذهب سنويًا تتم سرقتها من السودان”.

 

غير أن وزير المعادن بحكومة الأمر الواقع، محمد بشير عبد الله، علق على التقارير حول تهريب ذهب السودان بنفيه صحة الأرقام التي توردها هذه التقارير، ووصفها “بالمبالغ بها”، كما أشار إلى أن الجهات التي تطلقها لديها أجندة.

 

أيضاً،  كشف تقرير لصحيفة (النيويورك تايمز) الأمريكية عن تورط دولة الإمارات في تهريب ذهب السودان بالتنسيق مع مليشيا فاغنر الروسية. ونسب تحقيق الصحيفة الأمريكية، إلى خبراء سودانيين تصريحات عن هيمنة عائلة قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) على تجارة الذهب الذي يهرب حوالي 70% منه وفق تقديرات بنك السودان المركزي التي حصلت عليها الصحيفة.

 

وأقر قائد الدعم السريع نفسه في تصريح له أثناء اجتماع مع رجال الأعمال والمستوردين والمصدّرين ببرج اتحاد الغرف التجارية في التاسع من مارس الماضي بتهريب ذهب السودان عن طريق ما أسماها بـ(المافيا) التي تنشط في المضاربة بالدولار والذهب وتتكسب من عرق الشعب السوداني، على حد تعبيره.

 

ورغم تأكيدات القائمين على أمر إنشاء بورصة الذهب في حكومة الأمر الواقع على قرب موعد افتتاحها، إلا أن وعود الأعوام الماضية التي اصطدمت بواقع الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تفاقمت في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر 2021. بالإضافة إلى أن البلاد ظلت ميداناً لصراع محاور دولي وإقليمي، ينشط في عمليات تهريب ذهب البلاد بالمنافذ كافة، وهي العمليات التي يشترك فيها نافذون في أعلى مستويات الدولة. 

 

لكن مع ذلك، لا يزال المترقبون لافتتاح البورصة على مدى السنوات الثلاث الماضية، يأملون في أن يرونها على أرض الواقع، للقيام بدور رقابي وتنظيمي لطالما افتقده قطاع الذهب الذي يمثل أحد أهم موارد البلاد الاقتصادية.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع