الخرطوم تتحول لمحطة دبلوماسية ساخنة على مقياس الأزمات الداخلية و(الجيوسياسية) 

في محيط محدود بالعاصمة السودانية الخرطوم، لا يتجاوز عدة كيلومترات، بدايةً من المطار، ومروراً ببيت الضيافة وصولاً إلى القصر الرئاسي شمالاً ووزارة الخارجية وقاعة الصداقة غرباً. تغص العاصمة السودانية، بضيوفها الدبلوماسيين رفيعي المستوى، القادمين من عواصم صناعة القرار العالمية، حاملين أجندتهم المتصارعة، في بلد غارق في الأزمات الداخلية والجيوسياسية. 

 

يبحث هؤلاء الضيوف، المنتمين إلى معسكرين نقيضين، والذين بدأوا في التوافد إلى الخرطوم منذ أمس الأول الثلاثاء. بالنسبة للمبعوثين الغربيين، النقاش مع الأطراف السودانية، حول العملية السياسية والاتفاق الإطاري، واللجان الوزارية المشتركة والتجارة وقضايا إقليمية بالنسبة لموسكو، حسب ما أعلن رسمياً.

 

ورغم البرودة النسبية التي تتمتع بها مدينة الخرطوم منذ عدة أيام، إلا أنها لا تعكس مدى اشتعال الحالة السياسية واختناقها بالانغلاق ومخاوف الصدامات، وتارة بعبوات الغاز المسيل للدموع. 

 

تطورات ما بعد 25 أكتوبر

لا تعيش الخرطوم، التي تجري فيها مباحثات، مبعوثو كل من: الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، النرويج، فرنسا، ألمانيا والاتحاد الأوروبي من جهة. ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف من جهة أخرى، صراعاتها التقليدية منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م، فحسب. 

إنما هي اليوم، تحت وطأة أزمات داخلية مركبة مدنية – مدنية وبين القوى العسكرية. بجانب صراعات جيوسياسية تمتد غرباً إلى تشاد وأفريقيا الوسطى، ومنها إلى عمق الساحل الأفريقي. بينما تمتد في الجنوب الشرقي إلى إثيوبيا وفي الشمال الشرقي إلى مصر، والمملكة العربية السعودية. ومن البحر الأحمر يتفرع صراعها إلى دولتي إسرائيل والإمارات.

إذ سبقت زيارة مبعوثي الغرب وموسكو، وصول رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد إلى الخرطوم، بالتزامن مع تنظيم القاهرة ورشة لبعض الأطراف السودانية. فضلاً عن استقبال الخرطوم لوزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين. بالاضافة إلى توترات أمنية في الحدود، بين السودان، تشاد وأفريقيا الوسطى. 

بالنسبة للأزمة الداخلية المركبة، فهي قد وصلت إلى مرحلة الدمج. دمج الأزمة كلها في أزمة أكبر، يأمل المسؤولون الغربيون الموجودون في الخرطوم، في أن يمنعوا انفجارها، أو على الأقل إبطال مفعولها، وإن كان لأشهر معدودات، ضمن أجندة أخرى مقلقة يحملونها في ملفاتهم، تتعلق بالضيف الآخر القادم من موسكو، حسب ما علمت (بيم ريبورتس) من مصادر رسمية وسياسية مطلعة. 

مخاوف من الوجود الروسي

يتعمق الوجود الروسي في الحدود بين السودان، أفريقيا الوسطى وتشاد، وهي مخاوف أساسية يطرحها المسؤولون الأوروبيون على القادة العسكريين المنقسمين على الموقف، حتى لو كان ذلك بشكل تاكتيكي. 

الأوروبيون والأمريكيون، يطلبون بشكل واضح طرد شركة فاغنر العسكرية الروسية من البلاد وتحجيم نفوذ موسكو إلى أبعد حد، نقلوا هذا الأمر إلى العسكريين بشكل واضح، حسب ما أكدت مصادر سياسية مطلعة لـ(بيم ريبورتس).

في المقابل، وبالرغم من أن وزير الخارجية الروسي الذي وصل فجر الخميس، أجرى مباحثات مع نظيره السوداني، علي الصادق ولاحقاً قادة حكومة الأمر الواقع، إلا أن مصدراً مسؤولاً بوزارة الخارجية أبلغ (بيم ريبورتس)، أن ملف الزيارة وترتيباتها بحوزة القصر الجمهوري.

زيارة متزامنة

لماذا يتزامن وجود المسؤولين الغربيين في الخرطوم مع وزير الخارجية الروسي، وما علاقة ذلك بزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للبلاد الأسبوع الماضي؟.

يعتقد المحلل السياسي، الحاج حمد، أن “التناقض الثانوي” بين إسرائيل والولايات المتحدة قد انفجر بسبب الاتفاق الإطاري. ويقول “واشنطن صممت ودعمت الاتفاق الإطاري واصطفت كل القوى الدولية خلفه”، مضيفاً “رغم أنه لا يبعد العسكريين من السياسة لكنه يخفض من دورهم”.

 

ويرى حمد، أن إسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة، حركت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وسرعان ما زار وزير الخارجية الأمريكي القاهرة وألجم تحرك مصر. ويتابع “بالطبع لا يمكن أن تلغي الزيارة، لذا نفضت يدها من مجموعة دعم الانقلاب واضطر وزير خارجية إسرائيل لمقابلة البرهان ليؤكد أن مجموعة التطبيع ستستمر”. 

 

“حضور المبعوثين لمنع العسكر من الارتداد عن الاتفاق الإطاري”، كان هو رد واشنطن، يوضح حمد.

 

ورأى حمد، أن تأثير زيارة المبعوثين الغربيين، يتمثل في تأكيد الموقف الأمريكي تجاه الاتفاق الإطاري وإبعاد التأثير السالب لإسرائيل. وبالتالي تضييق فرص مناصري العسكر في الإشتراك، ولذا لعب البرهان ورقة التطبيع مرة أخرى، بالإضافة إلى تصريح زميله شمس الدين الكباشي.

 

“في ظل هذه المعمعة لم يتردد الروس في الوجود في الخرطوم ليقولوا إن لديهم مصالح اقتصادية وجيوسياسية في السودان، وعبره في المنطقة”، يوضح المحلل السياسي.

أجندة الزيارة الروسية

بعد منتصف ليل الخميس بدقائق حطت طائرة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف بمطار الخرطوم في زيارته الأولى للبلاد منذ عام 2014م، حيث كان في استقباله نظيره بحكومة الأمر الواقع علي الصادق.

 

“في إطار جولة يقوم بها في عدد من الدول الأفريقية والعربية لبحث علاقات روسيا مع هذه البلدان، إضافة إلى مناقشة القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك”. هكذا، حرصت وكالة السودان للأنباء ـ سونا، باهتمام بالغ، على تأكيد أن زيارة المسؤول الروسي الرفيع بجانب السودان تشمل دولاً أخرى وبنفس الأجندة.

 

في تصريح لـ(سونا)، سبق الزيارة، أعرب وزير الخارجية بحكومة الأمر الواقع، عن سعادته باستقبال نظيره الروسي، قبل أن يقول بلغة دبلوماسية منمقة “إن روسيا دولة صديقة تقليدية للسودان”.

 وأشار إلى أن الخرطوم وموسكو تربطهما علاقات قوية وراسخة ومتطورة، تقوم على الاحترام المتبادل والمساواة، كما تجمعهما الرغبة في تطوير هذه العلاقات. وتدعم هذه العلاقات، حسب الصادق، آليات قائمة متفق عليها بين الطرفين تتمثل في اللجنة الوزارية المشتركة ولجنة التشاور السياسي بين البلدين واللقاءات الثنائية على مستوى الرؤساء والوزراء وكبار المسؤولين والخبراء. إضافة إلى منبر المنتدى الروسي العربي الذي يهتم بتطوير علاقات روسيا مع الدول العربية.

 

لكن الصادق يفتح أجندة الزيارة الحساسة بدبلوماسية غاية في الحذر، عندما قال “إننا قدمنا للجانب الروسي شرحاً حول سير العملية السياسية في البلاد والجهود المبذولة لتحقيق التقارب الوطني وصولاً إلى تكوين حكومة مدنية تواصل مسيرة الانتقال وتقود البلاد إلى الانتخابات”.

 

لا شيء حساس آخر إذاً، يمضي الوزير إلى القضايا الروتينية، مضيفاً “الجانبان ناقشا العلاقات الثنائية، خاصة مخرجات اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة التي انعقدت في النصف الثاني من العام الماضي. إضافة الى مجالات التعاون المشترك بين البلدين متمثلة في توليد الطاقة من مياه الخزانات والأبحاث الجيولوجية والتعدين والنفط، إلى جانب القضايا الدولية التي تهم البلدين”.

 

في المقابل، ذكرت وزارة الخارجية الروسية، أن لافروف وصل إلى السودان في زيارة عمل، لإجراء مباحثات مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان. بالإضافة إلى قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) ونظيره علي الصادق. 

 

وتتركز المباحثات بين الخرطوم وموسكو، حسب الخارجية الروسية، حول ما وصفتها بالجوانب الرئيسية من التعاون السوداني – الروسي المتعدد الأوجه. بالإضافة إلى القضايا الدولية والإقليمية الملحة، مع التركيز على ضرورة إيجاد حلول سياسية ودبلوماسية للأزمات في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية”.

 

وتشمل أجندة الزيارة كذلك، حسب الخارجية الروسية، تركيز الاهتمام بشكل خاص على التحضير للقمة الروسية الأفريقية الثانية، التي من المقرر أن تعقد في مدينة سان بطرسبورغ في يوليو المقبل.

 

غير أن الخارجية السودانية ذكرت، أن وزير الخارجية الروسي سيجري مباحثات مع نظيره علي الصادق تتناول القضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، كما سيلتقي ضمن برنامج الزيارة عددا من المسؤولين بالدولة، دون أن تسميهم.

اتفاقيات معلقة

خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمدينة سوتشي في نوفمبر 2017م، أبلغ الرئيس المخلوع، عمر البشير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن بلاده بحاجة إلى حماية من العدوان الأميركي.

 وقال موجهاً حديثه إليه: “الأميركان نجحوا في تقسيم السودان لدولتين وساعين لمزيد من التقسيم”، مضيفاً “ونحن نحتاج كسودان لحماية من العدوان الأميركي علينا”. 

هكذا دشن البشير، حقبة جديدة معقدة من العلاقات بين الخرطوم وموسكو، واصل قادة المجلس العسكري بعده الانخراط فيها، وما تزال عواقب هذه العلاقة تلقي بظلالها على بوابة البلاد الساحلية شرقاً، وأقصى غربها على الحدود مع تشاد وأفريقيا الوسطى. 

في ديسمبر 2019م، نشرت الجريدة الرسمية الروسية نص اتفاقية بين السودان وروسيا حول إقامة قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر، بهدف ما وصف بتعزيز السلام والأمن في المنطقة. كما نص الاتفاق على أن القاعدة لا تستهدف أطرافاً أخرى حسب ما ورد في مقدمتها، على أن يحصل السودان مقابل ذلك على أسلحة ومعدات عسكرية من روسيا، حسب الاتفاقية التي وقعها بوتين في نوفمبر من العام 2020م.

من طلب إلى قرارات

سرعان ما استطاع الروس، تحويل طلب الحماية ذلك، إلى قرارات فاعلة، فبدأ الحديث عن اتفاق لإنشاء قاعدة عسكرية لموسكو على البحر الأحمر. أيضاً تمكنوا من تحويل السودان، إلى بوابة نحو جمهورية أفريقيا الوسطى المجاورة، ومنها إلى غرب ووسط أفريقيا. 

وفي هذا السياق، رعت الخرطوم، بإيعاز من موسكو محادثات سلام بين أطراف أفريقيا الوسطى، مكّنها هذا الأمر رويداً رويداً من أن تكون لاعباً أساسياً في ذلك البلد الفقير و الغني بالمعادن والثروات الطبيعية في الوقت نفسه. 

لم يمر وقت طويل، بين بدء تعاون موسكو مع نظام البشير، حتى واجه الأخير ثورة شعبية أطاحت بنظام حكمه في أبريل 2019م، رغم محاولات موسكو الحثيثة وقتها لإنقاذ حليفها من السقوط. 

ما بعد البشير

عندما أيقنت موسكو أن نظام البشير ساقط لا محالة، سرعان ما عقدت اتفاقاً مع المجلس العسكري الانتقالي الذي خلفه، يتعلق أيضاً بالقاعدة البحرية. لتأتي، تحت وقع الضغوط الروسية، استجابة المجلس العسكري الانتقالي الحتمية، مرةً بسبب هشاشته السياسية، ومرة أخرى بسبب ضعف خبرته السياسية. 

 

نجحت روسيا في مايو 2019 م في التوقيع على اتفاقية المركز اللوجيستي على البحر الأحمر، مع المجلس العسكري الانتقالي والذي صادق عليه في يوليو من العام نفسه. بالمقابل، دعمت روسيا المجلس العسكري الانتقالي، في تعطيل إقرار مشروع قرار بمجلس الأمن