سياسات فاشلة لعقود.. كيف حوّلت الأزمات المتضافرة التعليم المدرسي إلى امتياز طبقي؟

في حال استمرت الوزارة والحكومة في تجاهل الإغلاق الحالي سأتوجه مع زميلاتي نحو تجميد العام الدراسي.. لن يكون الوقت كافياً لإكمال المقررات والدراسة وامتحانات الشهادة على الأبواب”، توضح كلمات الطالبة، ميس أحمد التي تدرس بمدرسة الحارة 12 بأمدرمان الثورة،  حال عدد كبير من الطلاب مع الظروف الدراسية المتعثرة، وكم يبدو مستقبلهم على المحك.

وميس التي تساورها شكوك جدية حول قدرتها وعدد من زميلاتها في الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية بعد أشهر معدودة، بعدما قضين الفترة الماضية في ظل عدم استقرار دراسي. رأت في حديثها لـ(بيم ريبورتس)، إن الإغلاقات المتتالية خلال الأعوام الماضية، لأسباب كثيرة، أثرت بشكل مباشر على مستواها الاكاديمي، مشيرة إلى أن التوقف المستمر كان خصماً عليها بشكل ملاحظ. 

في المقابل، يواصل آلاف الطلاب بالمدارس الخاصة والعالمية عامهم الدراسي بشكل طبيعي، خاصةً وأن المشكلة التي يواجهها قطاع التعليم في الوقت الحالي لا تمس المدارس الخاصة ومعلميها بشكل مباشر.

أزمات مستمرة

الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد والأطراف المنخرطة فيها، لا تعبأ كثيراً بالعواقب، والتي تجلت بشكل واضح في قطاع التعليم المدرسي العام، والذي يدفع ثمنه آلاف الطلاب.

 

فبعد انقلاب 25 أكتوبر، عاد أعضاء النظام المخلوع، إلى وزارة التربية والتعليم، وأدت سياساتهم إلى خلق صراعات في أوساط المعلمين المطالبين بتحسين أوضاعهم من خلال إضرابات بدأوها منذ أكتوبر الماضي.

 

وفي خضم هذا الحراك المطلبي للمعلمين، أصدرت وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم، في خطوة مفاجئة، قراراً قضي بتغيير التقويم الدراسي، حيث أعلنت تقديم عطلة منتصف العام، بدأت في 10 يناير وانتهت في أواخر الشهر نفسه.

سلسلة إضرابات

نظمت لجنة المعلمين السودانيين إضراباً، ضمن سلسلة إضرابات شملت جميع القطاعات المهنية في السودان، عقب انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021م.

 ومع ذلك، جاء الإضراب على خلفية مطالب بزيادة في الحد الأدنى للأجور وزيادة الإنفاق على قطاع التعليم في موازنة العام 2023 وإقالة الوزير الحالي للتربية والتعليم، محمود سر الختم الحوري. 

بدأ المعلمون إضرابهم  تدريجياً وسط تجاهل حكومة الأمر الواقع لمطالبهم، ليقوموا بالتصعيد فيما بعد، حيث أعلنوا الإضراب الكامل وتوقف المدارس الحكومية في جميع الولايات.

 وقد وصفت لجنة المعلمين السودانيين، تعاطي حكومة الأمر الواقع، مع حراكهم الحالي “بالتعنت و المماطلة”، وعزت قرار وزير التربية والتعليم المفاجئ، بأنه محاولة لإفشال الإضراب المعلن مسبقاً، قبل أن تؤكد أن اللجنة والمعلمين ماضون في إضرابهم.

“لم تبارح الأزمة مكانها منذ 16 اكتوبر الماضي، عندما رفع المعلمون مذكرة بمطالبهم في ولايات البلاد الـ 18، لكن السلطات تجاهلت الحراك حتى وصل إلى الإغلاق الشامل، وفي الوقت الحالي وصل الملف إلى رئيس مجلس السيادة، في انتظار قرار حاسم ينقذ العام الدراسي من الانهيار”. يقول عضو لجنة المعلمين السودانيين،  سامي الباقر لـ(بيم ريبورتس).

عدم الإنصاف في التعليم

فور انتهاء العطلة التي أقرتها وزارة التربية والتعليم، استؤنفت الدراسة بشكل طبيعي في ظل إضراب معلن وتوقف كامل للدراسة بأغلب المدارس الحكومية بالسودان. ولأن الإضراب لا يشمل المعلمين بالمدارس الخاصة تم استئناف الدراسة فيها مباشرة، في تجاهل تام لعوامل أخرى ذات أهمية مثل التقويم الدراسي الموحد. علاوة على الامتحانات الشهرية والنهائية الموحدة والتي تضعها وزارة التربية والتعليم وضرورة جلوس جميع الطلاب في أنحاء البلاد للامتحانات بفرص عادلة وفي وقت واحد محدد من قبل الوزارة ضمن التقويم الموحد.

يقول الخبير التربوي، أحمد مختار، لـ(بيم ريبورتس)، إن استئناف الدراسة في المدارس الخاصة والعالمية، واستمرار تعليقها في المدارس الحكومية، هو نتيجة لتغليب المصلحة الفردية على المصلحة العامة، وبذلك ستخلق طبقات في التعليم، وقد تتولد الكراهية والأحقاد في قلوب الملايين الذين يرون أبناء المقتدرين يواصلون دراستهم.

 لاحقاً، مع استمرار الإضراب، أعلن وكيل وزارة المالية، عبد الله إبراهيم، بدء صرف فروقات المتأخرات حصراً لمعلمي ولاية الخرطوم، على أن يتم تأجيل صرف المتأخرات لباقي المعلمين في الولايات الأخرى. ورداً على هذه الخطوة، أعلنت لجنة المعلمين السودانيين الدخول في اعتصام أمام المدارس احتجاجاً على المعالجات الجزئية التي أقرتها وزارة المالية.

هل يقف الإضراب وحده في وجه الطلاب؟

واجه حراك المعلمين نقداً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي وأسر الطلاب، وتباينت الآراء حوله، حيث رأى البعض أن الإضراب سيؤثر سلبا على طلاب الذين لم تشهد سنواتهم الدراسية السابقة استقرارا بفعل الظروف السياسية والأمنية في البلاد.  

فمنذ العام 2018م، توالت الإغلاقات، مرورا بإغلاق المدارس إثر فض اعتصام القيادة العام ، ثم تلاها إغلاق آخر بسبب إضراب المعلمين في فترة الحكومة الانتقالية 2020م، وأعقبها إغلاق طويل شمل كل البلاد إثر انتشار وباء كورونا، كما لم تستقر الدراسة طويلاً، حتى انقلاب 25 اكتوبر 2021م.

سياسات فاشلة

لسنوات طويلة ظلت مسألة السلم التعليمي في السودان محل نقاش وصراع دائمين بين الحكومة وخبراء التعليم الذين ينددون بالتدهور التعليمي في البلاد. وتعاقبت على السودان 3 أشكال مختلفة للسلم التعليمي، استقرت على 8 سنوات أساس و 3 ثانوية في عهد نظام النظام المخلوع. لاحقاً، قامت عدة مؤتمرات لمناقشة شأن التعليم في السودان وكان أحدها مؤتمر التعليم القومي 2013م والذي كانت أبرز مخرجاته إعادة المرحلة المتوسطة للسلم التعليمي وتمت إجازتها قانونياً في العام 2015م.

في العام 2016م، أصدرت وزارة التربية والتعليم قراراً ينص على زيادة سنة تاسعة لمرحلة الأساس لتعود السنوات الدراسية مجددا لـ 12 سنة، ما أثار جدلا في أوساط المختصين.

 ورأى مختصون، أن القرار زاد من حدة الأزمة وأن هذا التغيير في السلم التعليمي يعبر عن سياسات عشوائية وخطوات غير مدروسة.

 

بعد تشكيلها في 2019م، شرعت الحكومة الانتقالية في تنفيذ خطة عودة المرحلة المتوسطة وأعلنت عودتها على أن يتم إلغاء الصف السابع أساس ويحل محله أول متوسط. وأوضحت أن المرحلة المتوسطة ستكون منفصلة تماما بزي ومنهج مختلفين وتركت أمر فصل المباني للولايات لتنظر في أمره حسب الإمكانيات المتوافرة.

 

لكن، العقبات كانت حاضرة في تنفيذ هذا القرار كغيره، ويرى خبراء أن قرار الحكومة الانتقالية بإرجاع المرحلة المتوسطة هو قرار سليم ولكنه أتى متعجلا لعدم توافر إمكانيات الفصل. وفي هذا السياق، يقول سامي الباقر: “كان من الأولى أن تتم العودة للمرحلة المتوسطة بامتحانات صفية وليست مرحلية، ثم التدرج في الفصل بين المرحلتين في مدى زمني لا يقل عن 3 سنوات، لكن الحكومة الانتقالية تعجلت في القرار دون توفير المطلوبات”.

وضع كارثي :

في ظل الإغلاق الحالي والأحداث الجارية بخصوص التعليم من إضراب وتجاهل من قبل سلطة الأمر الواقع، أصدرت منظمة اليونسيف تقريرا ، أشارت فيه إلى أن ثلث أطفال السودان خارج المدارس حالياً، أي أن هناك واحد من كل ثلاثة أطفال لا يتلقون التعليم. 

وقالت إن الوضع العام للتعليم لا يبشر بواقع أفضل لمستقبل الأطفال بسبب نقص في المعلمين، بالإضافة لوضع البنى التحتية وانعدام البيئة الدراسية المناسبة. في هذا الاتجاه  يعتقد سامي الباقر، أن المدارس تعاني من نقص حاد في المعلمين واكتظاظ في الفصول يصل في بعض المدارس إلى 100 تلميذة وتلميذ في الفصل الواحد. علاوة على عدم وجود الخدمات الأساسية من مياه الشرب وحمامات، ويرجع السبب في كل ذلك لضعف إنفاق الدولة على التعليم.

ويعاني السودان من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية ألقت بظلالها على وضع التعليم في السودان وزادت من حدة الأزمة وكان الناتج الأهم لذلك هو تسرب الطلاب من المدارس بشكل متباين في مختلف الولايات لأسباب مختلفة، علاوة على التأثير السلبي المباشر على جودة التعليم.

ويعد التدهور الاقتصادي الذي يشهده السودان هو العامل المشترك في جميع أنحاء السودان الذي لطالما اضطر أسر الطلاب لإيقاف تعليم أبنائهم لاستحالة تحمل تكاليفه، وما زالت الحكومات المتعاقبة على السودان تعد بمجانية التعليم العام باعتباره حقا مكفولا، إلا أنه يزداد غلاءً عاماً تلو الآخر. 

التعليم في ظل النزاعات

لطالما وقفت الحروب والنزاعات في وجه التعليم، وكانت عاملا في زيادة صعوبة تمسك الطلاب السودانيين بمقاعدهم في صفوف الدراسة. ولأعوام طويلة اتجه الطلاب في مناطق النزاعات وخاصة في المناطق التي تشهد انهيارا أمنيا في غرب السودان إلى ترك مقاعد الدراسة، إما للالتحاق بمجموعات مسلحة والانضمام لركب الحرب، أو التشرد خارج مناطقهم التي بدأوا الدراسة بها.

في العام 2015م، أصدرت منظمة اليونسيف تقريراً، أشار إلى أن ثلاثة ملايين طفل في مناطق دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان لم يلتحقوا بالمدارس، بالإشارة إلى أن 45% من الأطفال يتسربون من الدراسة في المرحلة الأخيرة من التعليم الأساسي، بينما لا تلتحق نسبة 43% منهم بالمدارس أبداً.

و بجانب أخص، فقد ألقت الظروف الأمنية والاقتصادية بالبلاد بظلالها على تعليم البنات، حيث خرجت العديد من الطالبات ولم يلتحق بعضهن من الأساس بالمدارس. ويشير تقرير لمعهد اليونسكو للإحصاء، أن عدد الطالبات اللاتي يلتحقن بالمدارس في السودان أقل في جميع المستويات المدرسية من الطلاب الذكور.

لكل هذه الأزمات مجتمعة أثرها البالغ على قطاع التعليم، و بالرغم من أنه يحتل مكانة ذات أهمية لدى كثير من السودانيين، إلا أنه لم يجد الاهتمام الكافي من قبل معظم الحكومات المتعاقبة على حكم السودان. تمظهر ذلك في الموازنات السنوية العامة التي لا تنفق على التعليم بقدر مناسب وسياسات الدولة الفاشلة تجاه التعليم، التي نتجت عنها مشكلات عديدة تمتد جذورها لعوامل مختلفة وتختلف آثارها التي تظهر على السطح بشكل أو بآخر. 

ويبدو واضحاً، أن السودان بجملة أزماته التي يعاني منها في الوقت الحالي، لن يستطيع مستقبلا تحمل تكلفة غياب ثلث أطفاله الذين هم في سن التمدرس عن مقاعد الدراسة وعزوفهم القسري عن التعليم.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع