«منطقة صناعة العرض المسرحي».. خشبة مزدهرة في أزمنة الحرب السودانية

قبل أسبوع من اندلاع الحرب، في 8 أبريل 2023، احتشد جمهور غفير بمركز أم درمان الثقافي لمشاهدة عرض مسرحية «آيس دريم» والتي قدمت معالجة فنية لقضية تكدس جثث المتظاهرين في المشارح إبان فض اعتصام القيادة العام في 3 يونيو 2019 وحتى ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021.

 

منحت مسرحية «آيس دريم» الجثث صوتًا للكلام عن آمالها وأحلامها وما تعيشه من مآسٍ، وعن رغبتها في التعرف عليها وأن تدفن بمقام يليق بالموتى، لكن وبعد طول انتظار، تقرر الجثث الخروج للمدينة فتجدها خاوية من السكان الذين غادروها بسبب حرب أهلية، فتقرر الجثث أن تدفن نفسها بنفسها.

 

كان العرض الأول الذي تشهده ولاية الخرطوم للمسرحية، وذلك بعد عرضين في كلٍ من ولايتي سنار (مدينة سنجة) ولاية النيل الأزرق (مدينة الدمازين) خلال شهر مارس من العام نفسه، ضمن ما أطلقت عليه منطقة صناعة العرض المسرحي، وهي الجماعة القائمة على المسرحية، مسمى (مسرح الشِدّة).

من عرض مسرحية آيس دريم بسنار

لم يكن الجمهور الذي حضر المسرحية في الولايات الثلاث، ولا حتى منتجي المسرحية على علم بأن الحرب قادمة، وأن الجثث ستدفن في باحات البيوت وفي الشوارع، وأن مزيداً من الناس سيقتلون، وتسيل دمائهم في الشوارع والبيوت بعد أسبوع فقط، إثر اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 في الخرطوم، وتوسعها غربًا إلى دارفور وكردفان، وأخيراً إلى وسط السودان في ولاية الجزيرة.

منطقة صناعة العرض المسرحي

انطلق ميلاد مشروع (منطقة صناعة العرض المسرحي)  بصورة فعلية في العام 2016، وهو عام تسجيلها ضمن المسجل العام للجماعات الثقافية. لكن النقاش حول المشروع كان مستمرًا منذ العام 2004.

 

كما أن المشروع استلهم وبني على عدد من التجارب المسرحية السابقة؛ مثل جمعية (البسانس للآداب والفنون)، والتي تأسست في العام 1996، واعتمدت على البيئة كمصدر للتدريب وصناعة العرض، وتجربة طالبات مدرسة العلوم الإدارية بجامعة الأحفاد والتي تأسست في عام 2004  وتجربة (جماعة المشيش) في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور. 

 

وقد أقامت المنطقة منذ تأسيسها ما يزيد عن الـ 100 ورشة وندوة ومنتدى، حيث استهدفت أكثر من ألف موقع في العاصمة الخرطوم وبقية الولايات، علاوةً على أكثر من 64 عرضًا مسرحيًا في مختلف أقاليم السودان، بالإضافة إلى مشاركتها في مهرجانات محلية ودولية.

 

كما أن ثورة ديسمبر قد فتحت أفقاً للفنون عامة، ولمنطقة صناعة العرض بصورة خاصة، للاشتغال والعمل والتحرك والعمل في مناطق سودانية مختلفة، كما أنها عالجت تلك الوضعية المأزومة التي عاشها السودان في مختلف مناحي الحياة خلال فترة نظام الإنقاذ، في مسرحية (النسر يسترد أجنحته) والتي انتصرت للفن عبر الفن. لكن يبدو أن النسر، – السودان كما رمزت له المسرحية – لم يسترد أجنحته بالكامل، حيث باغتته الحرب في الأخير، بعد مجازر اعتصام القيادة وانقلاب 25 أكتوبر والكثير من الأحداث السياسية التي قلمت الأجنحة.

من عرض مسرحية النسر يسترد أجنحته  بقاعة الصداقة 2021

مسارات جديدة رغم الحرب

تسببت حرب 15 أبريل 2023 في فواجع كبيرة لملايين السودانيين في مختلف أنحاء البلاد، فقد الآلاف أرواحهم جراء الحرب، ونزح ما يقارب 11 مليون شخص داخليًا وخارجيًا، وفقدت قطاعات واسعة من السودانيين والسودانيات مصادر دخلهم، خاصة الفئات الاجتماعية الهشة في القطاعات غير الرسمية، والتي من ضمنها الفنانين.

لم تكن منطقة صناعة العرض المسرحي استثناءًا، وذلك لأن قطاع الفنون بمختلف مجالاتها هشة، فنزحت الجماعة مع الآخرين إلى إقليم النيل الأزرق.

مسرح البنات

وبعد أشهر من بداية الحرب، في 18 أكتوبر 2023، أعلنت الجماعة عن انطلاق أول ورشة لها في ضمن مشروع (مسرح البنات) والتي وجّهت إلى السكان في ولاية النيل الأزرق، حيث سعت إلى تمليك المتدربات والمتدربين، والذين كانوا من المجتمع المحلي في إقليم النيل الأزرق، المهارات والمعارف الكافية حول صناعة العرض المسرحي والمتعلقة بتوظيف الجسد والأغاني والموروث الشعبي كمواد للعرض المسرحي.

 

وخلال الورشة استلهمت الجماعة الثقافة المحلية لإقليم النيل الأزرق من الأغاني والإيقاعات الموسيقية المختلفة، ومن بعدها انطلقت عدة عروض في مدن باو والرصيرص والدمازين في نوفمبر 2023.

 

وفي 14 نوفمبر الماضي، قدم العرض الختامي من سلسلة عروض مسرح البنات بمدينة الدمازين، وذلك بحضور غفير، من ضمنه عائلات المتدربات والمتدربين، الذين شاهدوا العرض وتوزيع الشهادات في نهاية مشروع تمكن من تقديم 9 عروض في أماكن مختلفة شملت 3 محافظات في إقليم النيل الأزرق.

صور العرض الختامي (من صفحة منطقة صناعة العرض المسرحي بفيسبوك)

ما تجترحه منطقة صناعة العرض المسرحي من مسارات في معالجة الواقع الاجتماعي والسياسي في السودان يتسم بالكثير من الحساسية الجمالية والسياسية، وهي حساسية منحازة بصورة جليلة للناس وحياتهم ومعيشهم اليومي، عبر استلهام الثقافات، وإشراك الناس كمقدمين لفنون تتماس مع حياتهم وقضاياهم، دون إغفال الجانب الفني الإبداعي، وذلك بتمليكهم أدوات الحرفة.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع