«زالنجي».. قصة مدينة لفها النسيان ومزقتها الحرب

كانت مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور والمعروفة بأجوائها الجميلة والقريبة من جبل مرة إحدى أجمل البقاع في السودان، مثلها ومثل معظم مدن البلاد بما في ذلك العاصمة الخرطوم ليست في ثوب مثالي، لكنها مع ذلك تعيش حدًا معقولًا من السلام والحياة بأفراحها و أتراحها، غير أنها بعد عام من الحرب تحولت إلى بقعة ممزقة ومنسية لا تكاد تقوى على البقاء.

 

بدأت قصة زالنجي مع الحرب بعد أيام قليلة من اندلاع القتال في عاصمة البلاد بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لتدخل بعدها المدينة في دورة حرب عبثية بين الطرفين انتهت بسيطرة الدعم السريع على الفرقة 21 مشاة التابعة للجيش، بعد معارك قضت على البشر والحجر وحولت عاصمة وسط دارفور إلى ركام. 

 

في أكتوبر الماضي انتهت مرحلة المواجهات المباشرة بعدما تمكنت الدعم السريع من السيطرة على حامية الجيش والمدينة كثاني عاصمة من عواصم ولايات إقليم دارفور الخمس تسيطر عليها بعد نيالا في الجنوب. ومع ذلك، لم تنته الحرب حيث يعيش الآلاف في زالنجي حياتهم تحت رمادها وسلطتها القهرية. كما أضحى الوضع في المدينة أكثر ضبابية وهشاشةً لتصبح أكثر مدن الإقليم انعزالاً وبعدًا عن الإعلام.

 

وتعتبر مدينة زالنجي من بين أجمل مدن السودان من حيث الطبيعة كما أنها غنية بالموارد الطبيعية وتتميز بموقع استراتيجي في الإقليم، إذ تتاخم شمال دارفور من ناحية الشمال وشرقها ولاية جنوب دارفور وفي الشمال الغربي ولاية غرب دارفور وغربها تشاد وجنوبًا تحدها جمهورية أفريقيا الوسطى.

 

وتتكون زالنجي من ثلاث وحدات إدارية. فبالإضافة لزالنجي، توجد أبطأ وتريج، وبها سلسلة وديان وجبال على امتداد أراضيها وسهولها الخصبة وهي مدينة غنية بالزراعة والرعي وتتميز بالأراضي السهلية الطينية والرملية والتي تجعلها خصبة للزراعة في فصل الخريف والموسم الشتوي.

تداخل تجاري

بشكل عام، يقوم اقتصاد ولاية وسط دارفور على الزراعة والثروة الحيوانية والتجارة والتعدين (خام الحديد، النحاس، الزنك، الألومنيوم، الرصاص والذهب)، كما توجد بها حركة تجارية محلية بين القرى في شكل أسواق موسمية بالإضافة للتداخل التجاري الممتد بين دولتي تشاد وأفريقيا الوسطى بميناء تجاري بري في منطقة تيسي.

 

لكن ورغم كون الولاية غنية بكافة الموارد، لم تتقدم عجلة التنمية فيها بسبب إهمالها من الحكومات المتعاقبة خاصة حكومة الرئيس المخلوع، عمر البشير والتي انتهى في عهدها أبرز مشاريع التنمية في إقليم دارفور ككل (مشروع جبل مرة للتنمية الريفية) حيث تأثر بالعقوبات الاقتصادية التي فرضت على السودان وتوقف الدعم الذي كانت توفره السوق الأوروبية المشتركة للمشروع في عام 1995 وضمه لوزارة الزراعة  بولاية غرب دارفور، ومنذها عملت حكومة البشير على خصخصة أملاكه واستهداف عمال المشروع الذي بدأ منذ منتصف القرن الماضي بالفصل التعسفي.

 

فضلًا عن زالنجي توجد بالولاية مدن أخرى ذات أهمية بينها، نيرتتي وقارسيلا وأزوم والأخيرة تعد أكبر منطقة زراعية في الولاية. أما بالنسبة للتقسيم الإداري للولاية، فتوجد بها تسع محليات، هي: (أزوم، وادي صالح، قارسيلا، مكجر، أم دخن، غرب جبل مرة “نيرتتي”، شمال جبل مرة “روكرو”، بندسي، وسط جبل مرة “قولو” وأخيراً العاصمة زالنجي).

 

لكن إحدى مميزات زالنجي التي عززت حركة التجارة والتواصل فيها، هي وجود مطار يبلغ طول مدرج مهبطه تقريباً حوالي 2000 متر وعرضه أكثر من 50 مترًا، كما يوجد مهبط ترابي للطائرات تم انشاؤه بمدينة قارسيلا بواسطة إدارة مشروع جبل مرة.



من أين جاء اسم زالنجي؟

 

وتسمية زالنجي وفق روايات محلية من المدينة، ترجع إلى اسم حشائش تنمو على الوادي والكلمة بلغة قبيلة الفور أكبر مجموعة عرقية في المدينة. كما من ضمن الروايات، أن التسمية ترجع لقصة سلطان منطقة (وداي) بتشاد عندما استدعاه السلطان علي دينار لأمر ما لكن طريقة الاستدعاء لم تنل رضاه، وعند وصوله أخبر وفد المقدمة السلطان علي دينار بإحساس سلطان وداي قائلين باللهجة المحلية “سطان وداي زعلان، كما قالوا، زعلان جي ..أي حضر”، لكن هذه الروايات لم تذكر في أي وثائق عن تاريخ المنطقة بل متداولة عند بعض المثقفين المتحدرين من الولاية.

اندلاع الحرب في زالنجي

شهدت المدينة في أواخر مايو وعقب عمليات القتال العنيفة بين الجيش والدعم السريع، انتشارًا واسعًا لعمليات نهب وتخريب لمقار المؤسسات الحكومية بما فيها مخازن الأدوية التابعة لوزارة الصحة والأسواق  وجامعة زالنجي ومقار المنظمات الوطنية والأممية والبنوك، بينها البنك المركزي فرع زالنجي، مما تسبب في أزمة نقدية غير مسبوقة بواسطة مسلحين على متن دراجات نارية – ودرجت هذه المجموعة على مشاركة الدعم السريع في الميدان وتنفيذ أعمال عنف وتخريب وقتل-.

 

ومنذ تاريخ 17 مايو العام الماضي، أي بعد شهر من اندلاع الحرب وإلى اليوم، تعيش المدينة في عزلة تامة كما تشهد انقطاعًا تاماً لشبكات الإتصال والإنترنت، بجانب انقطاع المياه والكهرباء نتيجة تعرض وقود المحطة الرئيسية للكهرباء في المدينة للنهب.



كيف تبدو زالنجي؟

 

وفق مصادر تواصلت بيم ريبورتس معها في زالنجي بشكل متقطع بسبب انعدام الشبكة واعتمادهم على أجهزة الإنترنت الفضائي (إستارلينك) التي توفرها الدعم السريع للمواطنين مقابل المال، فإن الصورة في المدينة تبدو قاتمة بعد عام على الحرب خاصة في وجود ما يسمى بهيئة الإسناد المدني التي شكلتها الدعم السريع من المدنيين الموالين لها لإدارة المدينة. 

 

ووفق المصادر، فإن سوق زالنجي وسوق مرين وسوق آخر شرق المدينة وأسواق أسبوعية مثل سوق الخميس تعمل في المدينة بشكل دوري وأحيانًا بشكل غير منتظم وتتوفر فيها السلع الاستهلاكية والخضر والفواكه بالإضافة إلى المحاصيل والماشية لكن لا تتوفر سيولة للشراء، كما أن محال الإجمالي لم تفتح أبوابها إلى اليوم.

كما تنتشر في زالنجي عملة مزورة، وعملة أخرى تبدو أصلية لكن ليس بها أرقام رجحت المصادر أنها سُرقت من مطبعة العملة في الخرطوم.

انعدام المساعدات الإنسانية

منذ اندلاع الصراع لم تصل إلى مدينة زالنجي سوى ست شاحنات تابعة لمنظمة أطباء بلا حدود محملة ببسكويت للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية وكانت تخص معسكرات النزوح بالإضافة إلى بعض الأثاثات.  وبشكل عام لا توجد سوى منظمتي IMC (الهيئة الطبية الدولية)، وأطباء بلا حدود، كما علمنا أن باقي المنظمات الوطنية والأممية كانت ترسل وفودًا لزيارات ميدانية فقط وتعود أدراجها، فيما لم تصل زالنجي أياً من المساعدات الجديدة التي خُصِصت للإقليم مؤخرًا.

أعلى نسبة نازحين في الولاية

وتضم زالنجي أربعة معسكرات رئيسية موجودة ما قبل الحرب هي (معسكر الحصاحيصا، الحميدية، معسكر خمسة دقائق ومعسكر طيبة). أما المعسكرات في باقي محليات ولاية وسط دارفور فتشمل بين معسكرين إلى ثلاثة في كل محلية من محليات الولاية الثماني الأخرى، وتعاني جميعها من سوء الأوضاع وانعدام الخدمات والدعم.

 

وقدرت مصفوفة تتبع النزوح في آخر تقرير لها مارس الماضي أن 428,180 نازحًا تمت استضافتهم في وسط دارفور اعتبارًا من 21 مارس 2024. وكانت المحليات التي استضافت أعلى نسبة من النازحين هي زالنجي (24%)، وشمال جبل مرة (20%)، ووسط جبل مرة (19%). ووفق التقارير، فإن ما يقرب من 63 في المائة قد نزحوا من مواقع أخرى داخل وسط دارفور، في حين نزح آخرون من ولايات في جميع أنحاء منطقة دارفور، بما في ذلك شمال دارفور (17٪)، وغرب دارفور (14٪)، وجنوب دارفور (5٪).

 

وذكرت التقارير أن ديناميكيات عمليات النزوح هذه عكست الروابط القبلية، مما يشير إلى درجة من التركيز حسب الأصل. وكان سبعة وتسعون في المائة من النازحين من شمال دارفور موجودين في محلية شمال جبل مرة، بينما لوحظ أن 85 في المائة من النازحين أصلاً من غرب دارفور في محلية أزوم. ومع ذلك، تمت ملاحظة النازحين في الأصل من وسط دارفور عبر نطاق أوسع من المحليات، حيث تمت ملاحظة 75 في المائة منهم في محليات زالنجي ووسط وغرب جبل مرة. وتفيد التقارير أن حوالي 35 في المائة من أسر النازحين داخلياً في وسط دارفور يقيمون في مجتمعات مضيفة، وهو ما يعكس عادة هذه الروابط القبلية وأنظمة الدعم الاجتماعي.

مستشفى و4 مراكز صحية

ما يزال مستشفى زالنجي التعليمي و4 مراكز صحية في الخدمة لكنها توفر خدماتها بشكل شبه تجاري ويعجز المواطنون عن تلقي العلاج بسبب الحالة الاقتصادية المتردية وفق ما أكد سكان محليون من زالنجي لبيم ريبورتس.

الحدود مفتوحة للنزوح

رغم ما شهدته زالنجي من أحداث ما زالت حدود بعض المدن والولايات متاحة للتنقل من وإلى زالنجي، إذ تبلغ التذكرة من زالنجي لنيالا  25 ألف جنيه سوداني وللجنينة 20 ألف جنيه وباقي المحليات 15 ألف جنيه، بينما الحدود مع دول تشاد، أفريقيا الوسطى وليبيا تبلغ تكلفة السفر إليها 500  ألف جنيه سوداني.

الدعم السريع تكمم أفواه الأصوات المناهضة لها



وفق روايات متطابقة من زالنجي، فإن الدعم السريع تشن اعتقالات ضد الذين يحاولون عكس الوضع الإنساني والأمني سواء في صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر الإعلام، ويتم استهدافهم وتهديدهم وهو ما جعل أغلب المصادر التي تحدثت إلينا تطلب عدم ذكر هوياتهم خوفًا من بطش قوات الدعم السريع. 

 

ومن أبرز حالات الاعتقال التي شهدتها زالنجي مؤخرًا بواسطة استخبارات الدعم السريع ، اعتقال أحد قيادات النازحين بمعسكرات زالنجي، الشيخ عبد الرازق سليمان، إذ اعترضته من أمام الساحة الشعبية بزالنجي وهو في طريقه مع وفد من شيوخ النازحين إلى مفوضية العون الإنساني للبحث عن سبل وصول المساعدات الإنسانية.

 و اقتادته إلى مقر الدعم السريع الذي يسمى بـ(الفوج) الواقع بجوار مبنى جهاز الأمن السابق وفق ما أعلنت مجموعة ( يلا نرصد الحقوقية) في منتصف فبراير الماضي.

وكان  بيان المجموعة الحقوقية  قد أوضح وقتها أن الاعتقال تم عن سابق رصد على خلفية تصريحات أدلى بها خلال مقابلات إذاعية تحدث فيها عن الوضع الإنساني بالولاية.

 

ما مصير زالنجي بعد توقف الإنترنت الفضائي؟

 

رغم حالة العزلة شبه الكاملة التي تعيشها زالنجي حالياً إلا أن تواصلها مع العالم خارج حدودها يظل مرهونًا فقط بأجهزة استارلينك التابعة لشركة SPACE X، مع استمرار انقطاع الإتصالات والانترنت.

 لكن حتى هذا الأمل المحدود  أضحى معلقاً بمدى جدية تنفيذ قرار إيقاف خدمة الإنترنت الفضائي في السودان بعد إعلان الشركة عن قطعها الخدمة عن المشتركين اعتباراً من تاريخ 30 أبريل الجاري لحين الموافقة على العمل من الحكومات المعنية، إذ بتنفيذه لن تصبح زالنجي وحدها بقعة من الظلام بل جميع مناطق السودان المتأثرة بالنزاع بما فيها العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة في الوسط.

تقارير بيم

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع