16 سبتمبر 2024 – سيكون على إنسان سنجة الرابع في إفريقيا، وفق ما يقول أستاذ علم الآثار والبيئة في جامعة الخرطوم، البروفيسور يحيى فضل طاهر. الانتظار طويلًا، ربما لعقود أو قرون من الزمن، لينسى ما حدث له في يوم السبت التاسع والعشرين من يونيو 2024 حين تمزقت حياته بمجئ أسراب من عربات الدفع الرباعي التابعة لقوات الدعم السريع تحمل على متنها آلة الموت والنزوح والتشرد والاغتصاب، بعضهم غرق في النهر فرارًا ليرسخ في أعماق طين الأرض، في لحظة حب مشهود وقاتل.
ذلك السبت سيظل يومًا عصيبًا في ذاكرة مئات الآلاف من سكان سنجة ما بقيوا على قيد الحياة، وستبقى سيرته التي تفوح منها روائح الموت تُروى للأجيال جيلًا بعد جيل كيوم نحسٍ تستمر أصداؤه تنهش في ذاكرة المدينة الواقعة على ضفاف النيل الأزرق والمشدودة إلى الحدود الدولية مع جنوب السودان وإثيوبيا، ومركزًا يحن جغرافيًا إلى الوسط والجنوب ومحتضنًا تنوعه الكبير كمجتمع غارق في سنجاويته الهادئة.
فرار سكان سنجة بعد اجتياح الدعم السريع للمدينة. تصوير: الجوكر
سنجة مدينة التنوع والرموز والتاريخ العريق، تقع على الضفة الجنوبية الغربية للنيل الأزرق وتطل على مجموعة من الجنائن في الضفة الشرقية للنيل الأزرق، وتبعد نحو 369 كيلومترًا جنوب شرق العاصمة السودانية الخرطوم و70 كيلومترًا جنوب شرقي مدينة سنار.
ساعد موقع سنجة النادر، بحسب الكاتب والمهتم بتاريخ المنطقة، مهند رجب الدابي، في إفادته لـ«بيم ريبورتس» أن تكون منطقة زراعية ذات طبيعة غابية غاية الكثافة والخضرة والإنتاج، إذ تتميز بأرضها الخصبة وتحيط بها الغابات وجنائن الفاكهة والمشاريع الزراعية. كما تعد منطقة إنتاج وفير للأسماك والحبوب الزيتية والموارد الأخرى.
ملامح من مدينة سنجة: من مواقع التواصل الاجتماعي، صفحة السينجاوي طارق العرش.
أصل التسمية
تتعدد الروايات بشأن أصل اسم مدينة سنجة، بينها أنه نبات بالمنطقة كان يُعرف بالسنج ومفرده سنجة. والسنج: هو مرادف لكلمة المروج، وهي الأشجار والنباتات الخضراء المعمرة، ولذلك فإن هناك عددًا من المناطق ذات الخضرة والغطاء النباتي تحمل الاسم نفسه مثل «سنجة العزازة، وسنجة حريري، وسنجة الدبكرة، وسنجة تيفو». كما أن هناك مناطق تحمل الاسم نفسه، لكنها تقع خارج نطاق المدينة، مثل «سنجة نبق» الواقعة بإقليم النيل الأزرق.
كما نُسبت سنجة أيضًا إلى شخصيات في فترات محددة، وأشهر الذين سُميت عليهم، «سنجة عبد الله» نسبة إلى عبد الله ود الحسن الكناني زعيم قبيلة الكنانية التي استوطنت المنطقة منذ زمن بعيد.
كذلك توجد رواية أخرى تنسب الاسم إلى تاجر جائل كان يأتي إلى المنطقة لبيع بضاعته ويستعمل السنج، وهي قطع معدنية لوزن البضائع، ويردد على زبائنه «دعوني أحضر السنج لأوزن لكم».
أيضًا، رجح بعض المهتمين أن سنجة سُميت على رجل ذو مكانة عالية ورفيع المقام، وفق ما يذكر الكاتب السينجاوي، الصادق إبراهيم عبيد الله، في كتابه «بانوراما سنجاوية».
النشأة والتكوين
يقول خالد الطيب عبد الرازق، وهو ناشط ثقافي وأحد المهتمين بتاريخ سنجة لـ«بيم ريبورتس»، إن المدينة كانت تعرف باسم «سنجة حريري» حتى العام 1821، وكانت عاصمة مديرية النيل الأزرق، مشيرًا إلى أنها تعد مركزًا من الناحية الإدارية وشيدت بها بعض المنشآت.
ويضيف عبد الرازق: «مع اندلاع الثورة المهدية والتفاف المواطنين السودانيين حولها، تشكلت ملامح مجتمع مدينة سنجة وأصبحت سنجة كناني. كما يمكن القول إن سنجة أصبحت مدينة بشكلها الحالي في نهايات الحكم التركي – المصري وبداية الحكم الثنائي الانجليزي – المصري».
تاريخ سنجة
صحيح أن مدينة سنار تعد أول عاصمة للسلطنة الزرقاء في الفترة بين 1504 ـ 1820 واستمرت لأكثر من ثلاثمائة عام، لكن وبعد الغزو التركي المصري للسودان في العام 1821 وسقوط السلطنة الزرقاء «مملكة سنار» برزت سنجة بوصفها عاصمة لإقليم شمال الفونج، قبل أن تتحول لاحقًا إلى مدينة ود مدني وسط السودان.
وفي خضم التطورات الإدارية، في عهود الحكم الوطني المختلفة، تحولت سنار إلى ولاية ضمن النظام الإداري لحكومة السودان وعُينت سنجة عاصمة لها.
وبحسب الكاتب والمهتم بتاريخ المنطقة، مهند رجب الدابي، فإن الغرض من اختيارها عاصمة كان لإنعاش منطقة جديدة وإضافة نقاط مدنية في خارطة الطرق السريعة التي تربط أطراف السودان المتباعدة.
إنسان سنجة الرابع في إفريقيا
يقول أستاذ علم الآثار والبيئة في جامعة الخرطوم، البروفيسور يحيى فضل طاهر، لـ«بيم ريبروتس» إن الجمجمة التي عُثر عليها في سنجة في السودان ليست أقدم جمجمة في إفريقيا والعالم، وربما لا تكون للإنسان الأول في السودان، مع استمرار البحوث والاكتشافات حتى اللحظة.
ويضيف طاهر: «حتى الآن هنالك جمجمة أقدم عثر عليها في المغرب ترجع إلى 315 ألف سنة قبل الميلاد، وأخرى في جنوب إفريقيا أرخت لـ259 ألف سنة، وثالثة في إثيوبيا عمرها نحو 233 ألف سنة، جميعها أقدم من إنسان سنجة الذي يصل حتى 150 ألف سنة». وتابع: «بذلك فإن إنسان سنجة (هيموسيبيان سيبيان) يعد ترتيبه الرابع في إفريقيا».
ولفت طاهر إلى أن الدراسات الآثارية الأخيرة التي اعتمدت على تسلسل الـDNA، وليس الجماجم، تحدثت عن أن الإنسان الأول بمنطقة في صحراء شرق «أبو حمد» بولاية نهر النيل شمالي السودان. وهي دراسة أجراها عدد من الباحثين في العام 2018 لرسالة دكتوراه مشتركة بين جامعة هارفارد وأكسفورد تحت إشراف الباحثة كيندرا سيراك.
مشاهد من مدينة سنجة: «صفحة طارق العرش».
مجتمع سنجة
وفق عبد الرازق، فإن المجتمع السينجاوي، غلبت عليه سمة الترابط والتكافل وهو مزيج من عدد من القبائل والأسر والمكونات التي شكلت ملامح المدينة الاجتماعية بدرجة كبيرة، واستوطن معظمهم فيها في أعقاب قيام الدولة المهدية.
وأبرز القبائل التي استوطنت سنجة، هي: «الشكابة، والكواهلة، والكنانة، والأشراف، والتعايشة» الذين وفدوا إليها مع جيش حمدان أبو عنجة الذي قاتل الطليان في الحبشة وعاد مهزومًا، يضاف إليهم الدناقلة والجعليين، وأغلب هذه القبائل اتخذت من سنجة موطنًا لأنها «مشرع ومورد» وفق ما ذهب إليه عبد الرازق وعبيد الله.
«كانت سنجة مقسمة في السابق إلى فرقان يُسمى كل فريق باسم الإثنية التي تسكنه (فريق الكنانة، وفريق القرعان، وفريق القوتاب، وفريق الحويرصاب، وفريق التعايشة، وفريق الفلاتة، وفريق الصواردة، وفريق الحامدية، وفريق البسايين، وفريق الشايقية، وفريق الدناقلة)، ثم بعد ذلك أعيد تخطيطها وقُسمت إلى أحياء بأسمائها الحالية نفسها»، وفق ما أكدا.
«عدد كبير من سكان سنجة القديمة كانوا يتمركزون في منطقة خور خليفة، لكن بعد حريق بت الخزين الشهير في أواخر ثلاثينات القرن الماضي رُحلت أسر من هذه المنطقة في ما يعرف بالتكسيرة إلى المنطقة الواقعة جنوب غرب الصهريج الحالي شمال ووسط المدينة»، بحسب ما يذكر كتاب (بانوراما سنجاوية).