
عفو عام في خضم دماء وصرخات الضحايا.. ما مدى مشروعيته؟

ملاذ حسن
في خضم دماء وصرخات الضحايا في ولاية الجزيرة وسط السودان، أعلن الجيش العفو العام عن قائد قوات الدعم السريع المنشق، أبوعاقلة كيكل الذي كان المسؤول العسكري الأول لنحو 10 أشهر قُتل فيها من قُتل، ونهب فيها من نهب واغتصبت من اغتصبت، إذ استقبل في 20 أكتوبر الماضي بإحدى مناطق الجيش بسهل البطانة، كبطل، وكأنما طويت صفحة الجرائم الخطيرة المرتكبة والتي تقع تحت نطاق مسؤوليته.
بدأت القصة، قصة العفو العام عن كيكل في 20 أكتوبر الماضي حين أعلن الجيش السوداني، في بيان رسمي، عن «انحياز» قائد قوات الدعم السريع السابق بولاية الجزيرة، أبوعاقلة كيكل إليه، قبل أن يشير إلى العفو المقدم من القائد العام عبدالفتاح البرهان «لكل متمرد ينحاز لجانب الوطن ويبلغ لأقرب قيادة عسكرية بكل مناطق السودان».
وكيكل الذي عينه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي»، قائدًا لقواته في ولاية الجزيرة في أعقاب استيلائه على الفرقة الأولى مشاة التابعة للجيش بمدينة ود مدني في 18 ديسمبر 2023، تلاحقه اتهامات بالمسؤولية عن ارتكاب قواته انتهاكات واسعة النطاق ضد حقوق الإنسان، شملت القتل والاغتصاب والنهب والاعتقال وغيرها من الجرائم الكبيرة.
وقال الجيش في البيان إنه يرحب «بهذه الخطوة الشجاعة من قبل كيكل وقواته»، مؤكدًا أن «أبوابه ستظل مشرعة لكل من ينحاز إلى صف الوطن وقواته المسلحة». كما جدد البيان عفو القائد العام للجيش «لأي متمرد ينحاز لجانب الوطن ويبلغ لأقرب قيادة عسكرية بكل مناطق السودان».

تبع انشقاق كيكل، إعلان خمسة مستشارين في قوات الدعم السريع، في 26 أكتوبر الماضي خلال مؤتمر صحفي في مدينة بورتسودان انسلاخهم منها.
وقال مسؤول ملف شرق السودان في الدعم السريع عبد القادر إبراهيم محمد، خلال المؤتمر الصحفي «إننا نختار هذا الموقف الوطني بالانسلاخ من مليشيا الدعم السريع المجلس الاستشاري».
وبعد أربعة أيام، في 30 أكتوبر الماضي، عقد المنسلخون من المكتب الاستشاري لقوات الدعم السريع لقاء مع البرهان. ونقل إعلام مجلس السيادة عن عبد القادر «مناشدته إلى كل الذين يقفون في صف التمرد للانحياز لخيار الوطن»، مضيفًا أن «الباب لا زال مفتوحًا أمامهم للتبرؤ من أفعال هذه المليشيا الإرهابية».
في السياق نفسه، أعلن ضابط في الجيش السوداني، أمس الإثنين، معرفًا نفسه بالعقيد ركن عثمان جعفر بيلو بابكر، انشقاقه من الجيش وانضمامه إلى قوات الدعم السريع، قائلًا إنها تخدم قضيته.
وردًا على انشقاقه صرح الناطق الرسمي باسم الجيش نبيل عبد الله، قائلًا إن بابكر هرب من الخدمة منذ اندلاع الحرب إلى مصر، مشيرًا إلى أنه برتبة مقدم ويتبع لسلاح المظلات، ومنتحل لرتبة العقيد التي ظهر بها في مقطع مصور نشرته قوات الدعم السريع على منصتها بتليغرام.
وأثار انشقاق كيكل وقواته من الدعم السريع وانضمامه إلى الجيش الكثير من التساؤلات والجدل القانوني، بشأن محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم ضد المدنيين ومصير العدالة مستقبلًا، وحتى أثناء الحرب.
وكذلك أثار انسلاخ مستشارين في قوات الدعم السريع واستقبالهم في بورتسودان على أعلى مستوى التساؤلات بشأن ما إن كان يُنظر إلى المسائل القانونية عبر ازدواجية في المعايير، إذ يواجه 16 من قادة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» اتهامات من النيابة العامة تصل عقوبتها إلى الإعدام.
انتقال لاعبين من معسكر إلى آخر
المحامي المعز حضرة عد كلمة انشقاق لفظة غير دقيقة، وقال إنه لا يعتبره انشقاقًا بل انتقال لاعبين من معسكر إلى آخر، على حد تعبيره. وأشار إلى أنهم جميعهم يمثلون النظام السابق وتم تكوينهم أثناء النظام السابق واختلفوا حول السلطة والثروة. وأضاف: «انقلاب 25 أكتوبر في الأصل قام به البرهان والدعم السريع، والآن هؤلاء اختلفوا في 15 أبريل. وبالتالي انتقال شخص من هذا المعسكر إلى هذا المعسكر لا يعني شيئًا كثيرًا.. هذا لا يهم الشعب السوداني أو يهم المدنيين كثيرًا».
وقال حضرة إن كيكل صنيعة الاستخبارات العسكرية، مضيفًا «وفي الأصل الدعم السريع، كما كان يدعي قادة الجيش من رحم القوات المسلح.. أما المستشارين الذين أعلنوا استسلامهم أغلبهم مؤتمر وطني».

العفو العام ينزع عن الفعل صفته الجنائية
في المقابل، قال المحامي نبيل أديب إن الحق العام يسقط بموجب العفو العام ومعه تسقط العقوبة الجنائية عن الجرائم التي ارتكبت ضد الدولة، مضيفًا أن هذا «هو الحكم الشرعي بالنسبة لجريمة الحرابة بحسب النص القرآني في سورة المائدة»: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
ومع ذلك، أكد أديب أن الحق الخاص لا يسقط إلا إذا قبل ذلك المتضرر، أو تمت معالجة تشريعية عامة على غرار العدالة الانتقالية.
ونوه أديب بأن الحق الخاص يشمل «الجرائم التي يجوز للمضرور التنازل عنها. كجرائم القصاص على سبيل المثال، كما يشمل الحق المدني والحقوق التي تنشأ للمضرورين جراء تلك الأفعال في مواجهة مرتكبيها والمسؤولين عن أفعالهم مدنيًا وجنائيًا يلزم معالجتها بنصوص تشريعية تعوض المضرورين». وتابع أديب «لكن بدون تلك المعالجة التشريعية، يكون من حق المضرور مقاضاة الأشخاص، سواء كانوا طبيعيين أو اعتباريين المسؤولين عنها».
وأردف أديب أنه «ينبغى أن نذكر أن هناك رأي يرى أن العفو العام ينزع عن الفعل صفته الجنائية، لأن الحق في العقاب الجنائي هو حق مطلق للدولة لا يشاركها فيه الأفراد. وبالتالي فإن العفو يسقط ويمنع المحاكمة الجنائية ولا يبق للمضرور سوى الحق المدني».
ازدواجية معايير
فيما يتعلق بالتكييف القانوني وما إن كانت مثل هذه الجرائم تسقط بالعفو العام يقول المحامي المعز حضرة، إن الذين ارتكبوا تلك الجرائم وهي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كما صنفتها كثير جدًا من المنظمات الحقوقية المعنية وأهمها لجنة تحقيق تقصي الحقائق التي كونها مجلس حقوق الإنسان، لا تسقط بالتقادم، ولا يملك النائب العام ولا قائد الجيش أن يعفوا عنهم هذه الجرائم، وبالتالي هذا هو ازدواج في المعايير.
وبشأن ما إن كان السياق القانوني يختلف وينفصل عن الاتهامات الموجهة لقادة «تقدم من النيابة، يقول حضرة: «بينما نجد النائب العام يقوم بالاجتهاد بفتح بلاغات ضد سياسيين تشمل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وهم لم يقوموا بأي أفعال ولكن الذين قاموا بهذه الأفعال الآن يستقبلوا في بورتسودان أمثال ما يسمى بمستشاري الدعم السريع».

ووصف حضرة هذه الأمور بأنها ألاعيب لا قيمة لها، وقال «الجرائم التي ارتكبها كيكل أو غيره إذا كانت هناك نيابة حقيقية مستقلة ستقوم بفتح بلاغ ضدهم لأنهم مستشارين للدعم السريع وكانوا منتمين للدعم السريع».
وتابع متسائلًا «لماذا لم يقم النائب العام بفتح بلاغات ضدهم كما فعل بفتح البلاغات الكيدية»، مضيفًا «هذه ازدواجية في المعايير للأسف.. النائب العام لا يملك أن يسقط هذه الجرائم، ولا يملك حق العفو. لكن هذه نوع من العبثية التي تدار أجهزة العدل وما تبقى من الدولة».
ورأى حضرة أن هناك انحسارًا كاملًا لأجهزة الدولة العدلية والقانونية والسياسية. وتابع «وبالتالي هذا كله عبث يؤكد أن المدنيين هم الذين يدفعون هذا الثمن الكبير من هذه العبثية وغدًا نفس المعيار إذا انضم أي شخص من الدعم السريع إلى بورتسودان يمكن أن يعفو عنه ويهلل له».
وما بين الآراء المتباينة بشأن العدالة الجنائية لضحايا حرب 15 أبريل والعفو العام للأطراف في ظل وجود بعض الجرائم الموثقة على وسائل التواصل الاجتماعي وتوافر سبل التحقق من هذه التجاوزات من بعثات أممية ومنظمات مراقبة، صدرت قرارات بالعفو وضعت الشعب السوداني أمام سؤال مبكر، قبل انتهاء الحرب حتى، عن إمكانية حصول الضحايا والمتضررين من الحرب والمطالبين بمحاسبة المسؤولين عن جرائمها على حقهم في المطالبة بذلك.