الأبيض تستمر في الصمود تحت عصف أزمنتها القاسية المُستعادة من التاريخ

في قلب الطريق الرابط بين غرب ووسط السودان تقف «الأبيّض» المدينة التي وضعت مرارًا بين فوهات المدافع وعرفت الحصار كما تعرف المواسم. جعلها موقعها مطمعًا، لكن بالمقابل جعلها أهلها حصنًا منيعًا وساحة صلبة لا تنكسر. 

فمن مدافع الأتراك في القرن التاسع عشر إلى حصار جيش المهدي في أواخره، ثم إلى محاولة خنقها من الدعم السريع اليوم، تغير الأعداء وتبدلت الرايات، لكن المدينة لم تتغير، احتفظت بصبرها وتاريخها وسكانها الذين تشبثوا بترابها وصمدوا كما جدرانها، مقدمين ارتباطهم بجذورها على مشاعر الخوف. 

تعد الأبيّض من أقل المدن التي شهدت نزوح سكانها منها – بحسب ما يخبرنا أحد المحاضرين في جامعة كردفان، مُرجعًا ذلك إلى أن مواطنيها يحملون تاريخ المدينة القديم في معاشهم اليومي والذي يمنحهم جلدًا على البقاء فيها.

وصلت تداعيات الحرب التي اندلعت في العاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش والدعم السريع في 15 أبريل 2023 إلى الأبيض، المعروفة بعروس الرمال، مباشرة في اليوم الأول من اندلاعها، وذلك عبر مهاجمة قاعدتها الجوية.

والأبيض عُرفت تاريخيًا بأنها منطقة تجارية منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وتمثل ذلك في ازدهار القوافل بين سلطنة سنار ومصر، إذ كانت تمر عبرها القوافل القادمة من الجنوب ومن سنار – بحسب ما نقل الناشط الثقافي محمد أحمد (ود السك) لـ«بيم ريبورتس».

 

يقول (ود السك)، وهو من أبناء المدينة، إن الأبيّض كانت في تلك الحقبة التاريخية محطة لتجميع السلع ومستراحًا للقوافل قبل انطلاقها نحو الشمال إلى محافظة أسيوط في مصر وإلى ليبيا عبر الصحراء الكبرى ومن ثم إلى البندقية في أوروبا، وأصبحت أهم ميناء بري صحراوي جنوب الصحراء.

وعرفت الأبيض أيضًا باستقبال قوافل الحجيج القادمة من نيجيريا والغرب الأوسط الإفريقي في طريقها نحو الأراضي المقدسة في الحجاز. 

واستمر تطور المدينة في القرن السابع عشر الميلادي، وأصبحت سوقًا مهمة في المنطقة، زاخرة بالسلع القادمة من جنوب السودان وغربه، مثل محاصيل السمسم والدخن والصمغ العربي والفول السوداني والعاج.

 

وتعدّ الأبيّض منطقة إستراتيجية في البلاد، إذ أنها ملتقى طرق يربط الخرطوم بولايات شمال دارفور وشرق دارفور وجنوب دارفور، إلى جانب الطريق القومي بارا – أم درمان، وهو ما جعلها في لحظة اندلاع الحرب الحالية ساحة للعمليات العسكرية مع محاولات السيطرة عليها.

وعلى مدار أكثر من عامين شهدت عاصمة شمال كردفان، وما تزال، أشكالًا وأنواعًا مختلفة من الاشتباكات العسكرية والقصف المدفعي والحصار، والتي تحولت في الأسابيع الماضية إلى قصفٍ بالمسيّرات الإستراتيجية التي تطلقها «الدعم السريع» مستهدفةً عبرها البنية التحتية بالمدينة من مستشفيات ومحطات كهرباء، مما ألقى بثقله العسكري على حياة المواطنين ومعيشتهم، تقتيلًا ومعاناةً اقتصادية في توفير معاشهم اليومي.

دور الأبيّض في تشكل السودان الحديث

اضطلعت مدينة الأبيّض، وما تزال، بدور سياسي واجتماعي في تشكل السودان الحديث، منذ نشأتها في القرن الخامس عشر كمركز تجاري، وعلى امتداد سنين الغزو والإدارة التركية والثورة المهدية. كما تطور دورها السياسي كذلك إبان فترة الاستعمار الإنجليزي المصري وتشكل الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، إذ كان للمدينة دور كبير في دعم الحركة الوطنية في السودان.

ومع تأسيس نادي الخريجين في العام 1936، في أم درمان وبدء نشاطه السياسي بدعوة إدارة الاستعمار الثنائي (البريطاني – المصري) إلى منح حق تقرير المصير للشعب السوداني، اختار الأبيض مقرًا للجنته في غرب السودان. 

كما أنشئ خلال تلك الفترة نادي الأعمال الحرة في الأبيّض، الذي اضطلع بدور في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وفي حركة التعليم الأهلي بالمدينة.

 

لكل ذلك، فإنّ ارتباط سكان الأبيّض بمدينتهم ليس لحظة عابرة، ما يجعلهم يخلقون آليات اجتماعية وتضامنية التعاطي اليومي مع الصعوبات التي تجعل من «الحياة في المدينة جحيم فعلي» كما يصفها أحد مواطني المدينة الذين تحدثت إليهم «بيم ريبورتس».

حصار الأبيّض ما بين لحظتين

«كانت حياتنا رخية، تصلنا البضائع من عُدة جهات، وأسعارها في متناول الجميع. كل ذلك تغّير لحظة اندلاع الحرب، إذ حُوصرت المدينة وأغلقت الطرق الرئيسية من قبل الدعم السريع، وأصبح المعيش اليومي قاسيًا وصعبًا. اليوم نبذل جهدًا كبيرًا للحصول على الماء والغذاء والعلاج» – تصف سارة عبد الله (اسم مستعار) الحياة اليومية في الأبيض منذ أكثر من عامين. 

عاش سكان الأبيض لأكثر من عامين تحت حصار عسكري فرضته قوات الدعم السريع على المدينة وقصف مدفعي قتل وجرح المئات.

وأدى الحصار كذلك في جانب آخر إلى إغلاق المداخل الرئيسية التي تربط المدينة بكل ما حولها والسيطرة على الحركة التجارية وفرض ضرائب على كل ما يدخل المدنية من بضائع وسلع أساسية وأدوية ومستلزماتٍ معيشية، مما تسبب في انهيار اقتصادي واجتماعي كبير في جميع القطاعات الخدمية والمعيشية.

لم يكن التدهور ذا طابع واحد في غلاء الأسعار والبضائع وتضرر البنية التحتية الخدمية فقط، بل ومن جانب آخر فإن حصار المدينة نفسه تسبب في فقدان المواطنين لأغلب مصادر دخلهم ومعيشتهم؛ إذ تأثر، مع التدهور الاقتصادي، العاملون والعاملات في القطاع غير الرسمي أشد التأثر جراء الوضع الاقتصادي، فيما اتجه موظفو القطاع الرسمي، مع انقطاع أجورهم وفقدان عملهم، إلى العمل في كل ما هو متاح من حرفٍ أو مهنٍ بسيطة في محاولة التغلب على سوء الوضع الاقتصادي، ما جعل «عدد العاملين الفريشة والسقايين يكاد يكون جل سكان المدينة» – كما تخبرنا متطوعة في غرف الطوارئ من داخل المدينة.

صورة لأحد المحلات التجارية في سوق الأبيّض

الأقل نزوحًا

لكن على الرغم من الحصار الذي تعرضت له المدينة منذ بداية الحرب، إلا أنها بالمقابل، تعد من أقل المدن التي شهدت نزوحًا من سكانها – كما يخبرنا أحد المحاضرين في جامعة كردفان، ويرجع ذلك –بحسب قوله– إلى أن مواطني الأبيض يحملون تاريخ المدينة القديم في معاشهم اليومي والذي يمنحهم جلدًا على البقاء فيها.

تعود تلك الذاكرة إلى عهد الغزو التركي، حين اتجه جزء من جيش محمد علي باشا إلى المدينة لما تمثله من فضاء محوري يربط أجزاءً مختلفة من السودان.

ومع ذلك، وعلى الرغم من المقاومة التي أبداها المقدوم مسلم الذي كان قائدًا عسكريًا في مملكة «المسبعات»، في مواجهته جيشًا مدججًا بالسلاح الناري والمدافع في معركة «بارا» القريبة من الأبيّض في العام 1821، إلا أنها اُخضعت لسيطرة الغزو التركي حينها.

وفيما بعد، عقب اندلاع الثورة المهدية، هاجم جيش الإمام محمد أحمد المهدي مدينة الأبيض، في العام 1882 لاستعادتها من الأتراك الذين كانوا قد جعلوها مركزًا لحكمهم الاستعماري في غرب البلاد إلا أنها استعصت على أنصار المهدي بسبب الحصن العسكري وتمترس الأتراك داخلها، وبعدها فرضت قوات المهدي حصارًا على المدينة، قبل أن يقتحمها جيش الأنصار ويستولي عليها في 19 يناير 1883، مما شكل ضربة موجعة للإدارة التركية. 

في تلك الحقبة شهدت الأبيض أزمة جوع حادة نتيجة حصار لمدة أربعة أشهر فرضه جيش المهدية على المدينة، وإن كان الحصار مفروضًا في الأساس على الأتراك إلا أن آثاره امتدت عميقًا إلى جموع سكان الأبيض، متمظهرًا في نقص الغذاء والمياه.

 

ذاكرة تاريخية

بهذه الذاكرة التاريخية للمدينة، صمد سكانها خلال الحرب الحالية، رغم ما عانوه من تقتيل وقصف عشوائي وعنف «الدعم السريع» التي حاصرت المدينة ومنعت سبل الحياةِ منها، وأذاقت سكان الأحياء الغربية خاصةً الويلات من الهجمات المستمرة والنهب والسلب.

فما بين حصار المهدية للمدينة، والذي أتى في مواجهتها لحكمٍ استعماري فرض الضرائب الباهظة على أرجاء البلاد كافة، إلى لحظة حصار «الدعم السريع» التي سعت إلى السيطرة على المدينة وحاصرها، ما تزال المدينة تقاوم.

فك الحصار

في فبراير 2025 تنفس مواطنو مدينة الأبيض الصعداء، بعد فك الجيش السوداني الحصار الذي فرضته «الدعم السريع» لما يقارب العامين، إذ أصبح، بعد سيطرة الجيش على الخرطوم في مارس 2025، الطريق من الخرطوم إلى الأبيض –الذي يبلغ طوله نحو 500 كيلومترًا– سالكًا.

قوبل هذا الحدث المهم بالفرح والاحتفال من المواطنين، هذه الاحتفالات كانت احتفالاتٍ تعي وجود إمكان ما للحياة الآن، وانسياب البضائع والسلع، والتواصل مع المدن الأخرى، وانتعاش السوق الاقتصادي.

لكن في المقابل، شنت قوات الدعم السريع قصفًا شديدًا على المدينة، في 25 فبراير الماضي، استهدف عدة أحياء سكنية في الجهة الشمالية من المدينة، مما أدى إلى سقوط القذائف على منازل المواطنين في أحياء مكتظة، وتسبب في وقوع إصابات وخسائر في الممتلكات.

ومع فقدان قوات الدعم السريع سيطرتها على كامل ولايات وسط السودان وجنوب شرق السودان، اتجهت إلى استخدام الطائرات المسيرة المختلفة، لا سيما في المناطق التي لا تمتلك فيها أو داخلها قوات مشاة أو التي استعصى عليها دخولها. فهاجمت مدن مروي في شمال السودان ومحليات ولاية الخرطوم والعاصمة الإدارية بورتسودان، علاوةً على مدينة الأبيض التي لم تسلم من هذه الهجمات؛ إذ شهدت المدينة عددًا من عمليات القصف عبر المسيرات منذ فبراير الماضي، استهدفت المستشفى العسكري ومحطات المياه ومستشفى «الضمان»، مما أدى إلى مقتل ستة مواطنين وإصابة 14 آخرين.

ما بعد كسر الحصار 

كان كسر الحصار عن الأبيض خبرًا جيدًا لسكان الأبيض، إذ انفتحت الطرق التجارية وانسابت السلع والبضائع، مما خفف المعاناة عن كاهل المواطنين، لكن صاحب ذلك في المقابل، بروز تحدياتٍ جديدة في عدة أصعدة، فقد اتجهت قوات الدعم السريع إلى قصف المدينة ومنشآتها وأحيائها بالمسيرات، والتي «أحدثت رعبًا وهلعًا جماعيًا وسط المواطنين» – بحسب ما تشير سارة عبد الله.

وقصفت مسيرات «الدعم السريع» مستشفى «الضمان» والمستشفى العسكري، مما أدى إلى مقتل العشرات من المواطنين، بالإضافة إلى توقف العمل في مستشفى الضمان لنحو أسبوعين، علاوةً على محطة الكهرباء البديلة.

لكن ليست المسيرات وحدها ما يثير الهلع، فعلاوةً على  ذلك تسود أرض المدينة حالة عسكرة جعلت منها ثكنة عسكرية دائمة، بعد دخول متحرك «الصيّاد» التابع للجيش السوداني إلى المدينة، إذ تشهد المدينة يوميًا، كما يوضح خالد عباس وسارة عبد الله، عشرات حالات النهب والسرقة، إلى الإطلاق العشوائي للرصاص على المواطنين.

ورغم كل ما سبق، ومع استمرار هجمات «الدعم السريع» من جهة بارا القريبة –على بُعد نحو 40 كيلومترًا– ومن القرى المحيطة وأحيانًا من غرب الإقليم – ما تزال الأبيض صامدة.

مدينة اعتادت على الحصار، واعتادها أهلها في كل الظروف. ورغم التعب، تواصل حياتها يومًا بعد يوم، كما لو أنها قررت أن لا تغيب عن مشهد البلاد، وأن تبقى، ببساطتها وعنادها، حاضرة تتنفس.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع
أخبار بيم

مصر تدين هجمات «الدعم السريع» في الجزيرة.. وتدعو للحفاظ على المؤسسات الوطنية السودانية

31 أكتوبر 2024 – أدانت وزارة الخارجية المصرية، الأربعاء، بـ«أشد العبارات الاعتداءات السافرة لمليشيا الدعم السريع» على المدنيين في شرق ولاية الجزيرة بوسط السودان، قبل

المزيد