“ستنتهي الحرب ويتصافح القادة… وتبقى تلك العجوز، تنتظر ولدها الشهيد… وتلك الفتاة، تنتظر زوجها الحبيب… وأولئك الأطفال، ينتظرون والدهم البطل… لا أعلم من باع الوطن؟! ولكنني رأيتُ من دفع الثمن” 

– محمود درويش

مقدمة

تسببت ظاهرة الصراع المسلح في كوارث عديدة في جميع أنحاء العالم، في إفريقيا بشكل خاص قُتل ما يقدر بنحو 750.000 إلى 1.1 مليون شخص في الصراع بين عامي 1989 و 2010. بينما شاركت ثلث بلدان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء في نوع من الحرب الأهلية أو الصراع منذ منتصف التسعينيات وحتى الآن. 

تعددت التكاليف المحتملة للنزاع، بدءاً من الخسائر الكبيرة في الأرواح، والخسارة في الاستثمار والموارد وقدرات الدولة، بالإضافة إلى التهجير القسري والهجرة الجماعية وتمزيق النسيج الاجتماعي. في سياق السودان، واعتباراً من عام 2022، ترك الصراع بمختلف أشكاله ما لا يقل عن 14.3 مليون مواطن في حاجة إلى مساعدات إنسانية وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

على أعقاب الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021، أصبح الوضع الإقتصادي أكثر تدهوراً، واندلعت أزمة جديدة تمثل أثرها في ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وانعدام الأمن الغذائي. الأمر الذي أثر على ما يقرب ربع سكان السودان البالغ عددهم 7.3 مليون مواطن وفق التقرير العالمي للأمن الغذائي لعام 2022. بالإضافة إلى كل ذلك، أدت الاشتباكات الطائفية والعنف في بعض مناطق البلاد إلى تفاقم الوضع بالنظر إلى عمليات النزوح الداخلي وعبر الحدود.

توزيع حالات العنف والنزاع في السودان 

حالات العنف والنزاع في الأعوام ما بين 2010 إلى 2020

الشكل (1)

الهدف من هذه الجزئية هي معرفة عدد أحداث العنف والنزاع في كل عام، ومحاولة ربطتها مع الأحداث والتغيرات السياسية في العام نفسه. عليه عند النظر للشكل (1) نجد أن هناك ارتفاع واضح في معظم حالات النزاع في الفترة ما بين 2012 حتى 2016، لتعاود الانخفاض مرة أخرى بصورة تدريجية في 2017. 

من الأحداث البارزة التي يمكن ربطها مع هذا الإرتفاع هي وثيقة الدوحة للسلام في دارفور التي تم توقيعها في يوليو 2011 وقعت بين الحكومة السودانية وحركة التحرير والعدالة بقيادة التجاني السيسي، وسبب ربط هذا الحدث مع تصاعد الأحداث هو رفضت حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان فصيلي عبد الواحد محمد نور ومني أركو مناوي التوقيع على الوثيقة واللذان يعتبران من أكبر الفصائل المسلحة في السودان، الأمر الذي قد يساهم في زيادة حدة صراعهما مع الحكومة في ذلك الوقت. 

كما يمكن أن نلاحظ في الشكل أن عدد المعارك انخفض إنخفاض بسيط في 2014، الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى توقيع حركة العدل والمساواة السودانية على وثيقة الدوحة للسلام في دارفور في أبريل 2013. والجدير بالذكر أن رغم الإنخفاض في عدد المعارك إلى أن عدد حدوث العنف ضد المدنيين قد ارتفع بصورة كبيرة.

من الملاحظ أنه في 2016 حدث انخفاض في عدد حالات المعارك، العنف ضد المدنيين، والعنف عن بعد\ التفجيرات. وفي محاولة تحليل هذا الانخفاض يمكن إرجاعه إلى عدة أحداث أساسية. أبرزها اتفاق خارطة الطريق الأفريقية التي تم توقيعه في أغسطس 2016 بين حكومة السودان و الأحزاب المنضوية تحت تحالف “نداء السودان”، التي تشمل (حزب الأمة القومي، والحركة الشعبية قطاع الشمال، وحركة تحرير السودان – مناوي، وحركة العدل والمساواة – جبريل إبراهيم). تضمنت خريطة الطريق إجراءات لوقف إطلاق النار والأعمال العدائية وتطبيق الترتيبات الأمنية في مناطق النزاع بإقليم دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وكردفان وإيصال المساعدات الإنسانية والحل السياسي والحوار الوطني. والحدث الثاني هو توقيع جيش تحرير السودان ـ الثورة الثانية على وثيقة الدوحة للسلام في دارفور في يناير 2017.

من التغييرات الواضحة أيضاً هو زيادة عدد التظاهرات بصورة كبيرة في عام 2018، ويرجع ذلك بصورة مباشرة إلى اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في ذات العام، كما نجد أن أعداد التظاهرات بدأت بالإنخفاض بصورة ملحوظة في 2020، ويمكن ربط هذا الإنخفاض بالاتفاق السياسي وتوقيع الوثيقة الدستورية بين المدنيين والعسكريين في 2020.

الشكل (2)

عند النظر للشكل (2) نجد أن عدد الضحايا ارتفع بصورة كبيرة في عام 2013 مما يتوافق مع الارتفاع في حوادث المعارك والعنف ضد المدنيين. كما يوافق الإنخفاض في عدد الضحايا في 2017 نفس الانخفاض في الحوادث المذكورة. 

هنا يجب التوضيح بأن هذه التحليلات تحتاج إلى المزيد من الدراسة والتعمق لمعرفة شكل الارتباط بين الأحداث المذكورة وظاهرة انخفاض وارتفاع أحداث العنف والنزاع. كما يجب تحليل وزن كل فاعل بصورة منفصلة لمعرفة دورهم في هذه الظواهر.

الخريطة (1)

توضح الخريطة (1) توزيع أحداث العنف والنزاع على حسب السنوات.

توزيع حوادث العنف والنزاع حسب نوع الحادثة

الخريطة (2)

في هذه الجزئية سنركز على تحليل حالات العنف والنزاع التي حدث فيها تغيير ملحوظ في السنوات ما بين 2010 حتى 2020، وذلك لمعرفة توزيع هذه الأحداث في ولايات السودان المختلفة، وتوضيح التكلفة البشري المرتبطة بكل حدث، بالإضافة إلى دراسة علاقتها مع بعضها: 

المعارك: 

إن عدد المعارك في الفترة بين 2010 حتى 2020 بلغ 2,050 معركة في مختلف ولايات السودان، كما تسببت المعارك بأكبر عدد من الخسائر البشرية بين كل الأحداث الأخرى حيث بلغ عددهم 19,730 مواطن، حيث يمثل هذا العدد من ثلاثة أضعاف عدد ضحايا جميع أحداث العنف الأخرى مجتمعة.  

بالنظر للخريطة نجد أن أغلب المعارك متركزة في ولايات دارفور، كردفان، والنيل الأزرق. والتي تمثل تمركز العديد من الحركات المسلحة. كما نلاحظ وجود عدد من المعارك الحدودية في دارفور مع الحدود مع دولة تشاد، ومعارك حدودية أخرى في ولاية القضارف  عند الحدود الأثيوبية، ويمكن أرجاع هذه المعارك إلى الصراع القائم بين دولة السودان و اثيوبيا حول منطقة الفشقة الحدودية.

العنف ضد المدنيين:

تعريف العنف ضد المدنيين هو أنها  أحداث عنيفة تقوم فيها جماعة مسلحة منظمة عمداً بممارسة العنف ضد مجموعة غير مقاتلة وغير مسلحة. تشمل ظاهرة “العنف ضد المدنيين” محاولات إلحاق الأذى (مثل الضرب ، وإطلاق النار ، والتعذيب ، والاغتصاب ، والتشويه ، وما إلى ذلك)، بالإضافة إلى الإخفاء القسري (مثل الاختطاف والاختفاء).

بلغ عدد حالات العنف ضد المدنيين في الفترة بين 2010 إلى 2020 حوالي 3,636 حالة تعدي، وأسفرت هذه الحالات على ثاني أكبر عدد ضحايا بعد المعارك، حيث فقد حوالي 5,250 مواطن حياته نتيجة لها. 

عند النظر للخريطة نجد أن مناطق تركز حوادث العنف ضد المدنيين هي تقريباً نفس مناطق تركز المعارك، ويمكن القول أن علاقة الأرتباط بين الظاهرتين منطقية وذلك لأن مناطق تركز المعارك تعتبر مناطق حروب، حيث تتسم تلك المناطق بالسيولة الأمنية وانتشار السلاح، الأمران اللذان يمثلان بيئة خصبة لهذه الظاهرة. 

العنف عن بعد\ الانفجارات:

تعرف أحداث ” العنف عن بعد\ الانفجارات” باعتبارها أحداث عنف من جانب واحد، وهي الأحداث التي يستعمل فيها  القنابل، والقنابل اليدوية، والعبوات الناسفة، ونيران المدفعية أو القصف، والهجمات الصاروخية ،ونيران المدافع الرشاشة الثقيلة، والطائرات بدون طيار، أو الأسلحة الكيماوية, وغيرها. 

بلغ عدد أحداث العنف عن بعد\ الانفجارات في الفترة بين 2010 إلى 2020 حوالي  1,133 حدث،  وأسفرت هذه الأحداث عن فقد حوالي 1,716 مواطن حياته. بالنظر للخريطة نجد أن مناطق تركز هذه الأحداث له نفس الارتباط بمناطق النزاعات التي تركزت فيها حالات المعارك والعنف ضد المدنيين.  

التظاهرات: 

بلغ العدد الكلي للتظاهرات في الفترة بين 2010 إلى 2020 حوالي 2,634 تظاهرة، كما ذكرنا سابقاُ فإن عدد التظاهرات ارتفع بصورة كبيرة بعد إندلاع ثورة ديسمبر 2018، حيث بلغ عدد التظاهرات في 2019 وحدها 1098 تظاهرة. توزعت التظاهرات بصورة أساسية في ولاية الخرطوم بعدد 888 تظاهر، تليها ولاية الجزيرة بعدد 179 تظاهرة، لحقتها ولاية شمال دارفور بعدد 167 تظاهرة وولاية البحر الأحمر بعدد 161 تظاهرة. الجدير بالذكر أن التظاهرات هي أكثر الأحداث توزيعاً على ولايات السودان المختلفة على خلاف المعارك وغيرها التي تركز إلى حد كبير في غرب البلاد.

التكلفة البشرية للنزاع

في هذه الجزئية سنحاول تحليل توزيع عدد الضحايا البشرية للنزاع في ولايات السودان، بالإضافة إلى معرفة التغيرات التي حدثت في أعداد الضحايا في الفترة ما بين 2010 حتى 2020. 

عدد ضحايا العنف على حسب الولاية

الخريطة (3)

بالنظر للخريطة نجد أن ولاية شمال دارفور تكبت أكبر قدر من الخسائر البشرية التي بلغ عددها 18,797 ضحية، تليها ولاية جنوب دارفور بعدد ضحايا بلغ 7,449 ضحية، وجنوب كردفان بعدد ضحايا 6,243 ضحية. 

نسبةً لأن أكبر قدر من الخسائر البشرية يقع نتيجة للمعارك، نجد أن الولايات ذات عدد المعارك الأكبر هي التي تكبدت أكبر قدر من الخسائر البشرية. يوجد حالة وحيدة خرجت عن هذا النمط وهي ولاية الخرطوم التي بلغ عدد الضحايا فيها 1,304 ضحية رغم أن عدد المعارك فيها لم يتجاوز 20 معركة، ولكن يمكن إرجاع هذا الإرتفاع إلى تركز التظاهرات فيها بصورة كبيرة.

الشكل (3)

بالنظر للشكل (3) نلاحظ أنه ليس هناك نمط انتشار ثابت يربط عدد الخسائر البشرية الناجمة عن أحداث العنف بشهر معين. ولكن في حالة دراسة كل حدث بصورة منفصلة يمكن أن عدد الخسائر البشرية الناتج عن المعارك ينخفض بصورة كبيرة في شهري مايو وأغسطس، حيث يقع الشهران في موسم هطول الأمطار في السودان. إن محاولة إيجاد علاقة أقوى بين المناخ والنزاع تقتضي درجة أكبر من التعمق التحليل ليست متوفرة في هذه المقال بعد، ولكنها يمكن أن تمثل نقطة دراسة مستقبلية.

تحليل الفاعلين 

الشكل (4)

بالنظر للشكل(4) نجد أن أكبر الفاعلين في أحداث العنف في السودان هو الجيش السوداني في فترة حكومة عمر البشير السابقة، حيث كانت أغلبية حوادث النزاع التي خاضتها مع المدنيين حيث بلغ عدد 862 حادثة عنف، يليها حوادث العنف مع مجهولين، ثم الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بعدد 235 حادثة عنف، و حركة جيش تحرير السودان فصيل عبد الواحد محمد نور بعدد 137 حادثة عنف. 

كما نجد أن المتظاهرين هم ثالث أكبر فاعل، حيث كانت أغلب مواجهاتهم مع جهاز الشرطة السودانية لنظام البشير، حيث بلغ عدد المواجهات بين الطرفين 427 مواجهة. 

يلي المتظاهرين قوات الدعم السريع كرابع أكبر فاعل في أحداث العنف، حيث كانت معظم مواجهاتهم مع المدنيين بعدد حوادث بلغ 351 حادثة، يليها مواجهاتهم مع حركة جيش تحرير السودان فصيل عبد الواحد محمد نور بعدد 25 مواجهة. 

الجدير بالذكر أن المواجهات التي كان الفاعل الأساسي فيها مجهولاً احتلت المركز الثاني في ترتيب الفاعلين، وكانت أغلب هذه المواجهات مع مديين وبلغ عددها 1444 حادثة.

في الأخير ومن التحليل البسيط لمواجهات الفاعلين، نجد أن المواطنين هم أكثر الفئات التي تتحمل نتائج النزاعات وأحداث العنف في السودان. سواءاً تحملوها بصورة مباشرة بوقوعهم ضحايا للضرب ، وإطلاق النار ، والتعذيب ، والاغتصاب ، والتشويه، وغيرها من أدوات القمع، أو عن طريق سقوطهم كأضرار جانبية لعمليات القصف والتفجير والمعارك التي تأتيهم في بيتهم.