هل تروج (إيكونوميست) معلومات مضللة بخصوص أراضي الفشقة السودانية؟

“هل يمكن أن تشعل حرب إثيوبيا في تقراي صراعاً مع السودان؟”، تحت هذا العنوان اللافت، نشرت صحيفة (ذا إيكونوميست) البريطانية تقريراً مصوراً على موقع الفيديوهات الشهير (يوتيوب)، في التاسع عشر من مايو الفائت.

وعلى الرغم من أن الموضوع يمس جوهر المصالح السودانية، إلا أن التقرير لم يتِح الفرصة لسماع رأي سوداني أو لمختص في شؤون السودان، إذ اقتصر التقرير على ترويج آراء كل من وزير الموارد المائية المصري، محمد عبدالعاطي، و ابيل اباتي ديميسي، الزميل المشارك بمؤسسة (شاتام هاوس) وهو إثيوبي الجنسية، بالإضافة إلى توم غاردنر، مراسل (ايكونوميست) العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا.

تبنى تقرير الصحيفة ذائعة الصيت، وجهة الإثيوبية بشأن القضايا الحدودية العالقة بين السودان وإثيوبيا، مقدماً خلفية تاريخية عن جذور قضية الحدود بين البلدين، مشيراً إلى الدور البريطاني في هذه المشكلة، وحتى العملية العسكرية الأخيرة بمنطقة الفشقة، علاوة على ملف سد النهضة، الذي قدم فيه وجهة نظر وزير الموارد المائية المصري.

معلومات مضللة: هل الفشقة أرض مسروقة؟

أورد التقرير الذي نشرته (إيكونوميست) العديد من المعلومات المضللة والخاطئة، فمثلاً في الدقيقة (01:19)، ادعى (ابيل اباتي ديميسي – إثيوبي الجنسية) : “أن الفشقة أرض مسروقة من وجهة نظر الطرفين”، على حد قوله. لكن الحقيقة أن اثيوبيا كانت قد اعترفت بأن أراضي الفشقة سودانية بالكامل في العديد من المعاهدات، وتحديدا في اتفاقية العام 1972م، التي أقرت بصحة الحدود التي جرى تخطيطها في العام 1903م، بناءً على معاهدة 1902م.

ترسيم الحدود

أوردت (إيكونوميست) في تقريرها أن “بريطانيا، إبان فترة احتلالها للسودان، قد عملت على ترسيم حدوده، وقد “ادعت” أن الفشقة سودانية”.

هذا الإدعاء الذي روجته (ايكونوميست) خاطئ، فقد تم ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا بناءًا على معاهدة (انجلو-اثيوبيا) التي وقع عليها الامبراطور (منليك الثاني)، امبراطور اثيوبيا حينها. وبناءًا على الاتفاقية، أصبحت أراضي الفشقة سودانية بالكامل، فقد حددت الاتفاقية الخط الحدودي الفاصل بين البلدين كالتالي: 

“يسير من خور «أم حجر» إلى «القلابات»، فالنيل الأزرق فنهر بارو فنهر بيبور ثم نهر أكوبو حتى مليلي، ومنها إلى نقطة تقاطع خط عرض 6 شمالاً مع خط طول 35 شرق جرينتش”

تم رسم خط الحدود بالخط الأحمر في الخريطتين الملحقتين بالاتفاق المذكور أعلاه.

عادة ما يعترض الإثيوبيون على هذه الاتفاقية وينكرون توقيعهم عليها قائلين بأنها من حقبة الاحتلال، لكن الحقيقة وشواهد التاريخ تقول أن الإمبراطور (منليك الثاني) وافق عليها وتعهد في المادة الثانية من المعاهدة على “عدم تشييد أو السماح بتشييد أي عمل على النيل الأزرق وبحيرة تانا أو نهر السوباط”، بينما كان السودان تحت سيطرة الاحتلال البريطاني ولا يتمتع بكامل الإرادة من التوقيع أو عدمه.

اتفاق سري؟

ورد في تقرير (إيكونوميست) أيضا أن “السودان واثيوبيا قد اتفقا ، في العام 2008م، على أن أراضي الفشقة سودانية بناءًا على الحدود القانونية، مع السماح للمزارعين الإثيوبيين بفلاحة أراضي الفشقة”. ولكن بعد نشر التقرير بأكثر من أسبوع، نشرت السفارة الإثيوبية في بريطانيا عبر حسابها في موقع (تويتر)، تغريدة نفت فيها توقيع اتفاقية بين السودان وإثيوبيا في العام 2008م.

ما فعلته السفارة الاثيوبية في بريطانيا، لا يعدو كونه تضليلاً أيضاً، فالصحيح هو أن البلدين قد وقعا اتفاقاً عام 2008م، ولكن بسبب عدم وحدة القرار السياسي بالداخل الإثيوبي جراء الخلافات الإثنية بين مجموعتي (الأمهرا) و(التقراي)، أدان الأمهرا هذا الاتفاق –الذي أشرف عليه من الجانب الإثيوبي (أباي تسهاي)-، مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الأسبق، ملس زيناوي، أحد قيادات الجبهة الشعبية لتحرير تقراي. ووصف الأمهرا هذا الاتفاق بـ”السري” بسبب عدم استشارتهم فيه، حسب ادعائهم. وبعد صعود آبي أحمد -المسنود من الأمهرا- لسدة الحكم، أعلن أحمد، في 18 أكتوبر 2018م، أن السودان وإثيوبيا لم يوقعا أية اتفاقية بعد عام 1972م، و أضاف أن أي اتفاقية حول الحدود تم توقيعها بعد اتفاقية 1972م تعتبر لاغية.

سلوك انتهازي من السودان

أشار التقرير إلى أن رئيس الوزراء الاثيوبي، آبي أحمد، قد طلب من السودان تأمين الحدود بين البلدين، لوقف أي خط إمداد لجبهة تقراي، وذلك إبان بداية ما يسميه آبي أحمد “حملة إنفاذ القانون” على الجبهة الشعبية لتحرير تقراي. وذكر التقرير أن الجيش السوداني قد “انتهز الفرصة لتملك الفشقة، وذكر توم غاردنر، مراسل (ايكونوميست) في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، أن الجيش السوداني عمل على “عسكرة” الفشقة بدلا من تأمين الحدود”.

وهذه أيضاً رواية مضللة، فالحقيقة هي أن الجيش السوداني قد بدأ عمليته العسكرية لتحرير أراضي الفشقة من المليشيات الاثيوبية الإثنية بعد مطالبة لجنة أراضي الفشقة بحسم هذه القضية، وذلك بعد أن منعت المليشيات الإثيوبية المزارعين السودانيين من حصاد محصول السمسم في اكتوبر 2020م ببعض مناطق الفشقة. تقوم هذه المليشيات بهجمات بفترات متقطعة، عادة ما تتزامن مع فترة الحصاد بغية الاستيلاء على المحصول.

في يناير من العام 2021م، شدد محمد الفكي سليمان، عضو مجلس السيادة السوداني السابق على أن قرار استعادة أراضي الفشقة قرار سياسي وليس عسكري، وقال أن ما يحدث بالفشقة هو إعادة انتشار للجيش داخل حدود البلاد. وأضاف أن للسودان الحق في الإنفتاح لآخر نقطة حدودية.

الترويج لدور الإتحاد الإفريقي في الوساطة بين البلدين

أشار التقرير إلى أن مساعي التفاوض بين البلدين لم تنجح، و قدم ملخصا بسيطا عن الإتحاد الإفريقي كمؤسسة تعمل على بسط السلام في القارة السمراء. وعرض التقرير إفادة من الأثيوبي (ابيل اباتي ديميسي)، الذي ذكر بأنه يتطلع لرؤية مساعي وساطة تأتي من الاتحاد الأفريقي. ودعا (ديميسي) المجتمع الدولي إلى دعم الإتحاد الأفريقي في هذا المسعى.

تشير (بيم ريبورتس) إلى أن الإتحاد الإفريقي يرعى المفاوضات الثلاثية بين السودان ومصر وإثيوبيا بخصوص ملف سد النهضة، واستمر هذا التفاوض لأعوام دون الإثمار بأي نتائج. و علق سامح شكري، وزير الخارجية المصري في يوليو الماضي أمام مجلس الأمن الدولي، قائلا أن مسار التفاوض الذي يقوده الاتحاد الافريقي بخصوص سد النهضة مع السودان وإثيوبيا قد باء بالفشل.

وبما أن الاتحاد الأفريقي قد فشل، ولأعوام عِدةّ، في توفير نقطة إلتقاء للسودان وإثيوبيا ومصر، فيما يخص سد النهضة، فإن كفاءة ومقدرة الاتحاد الافريقي لحلحلة القضايا الحدودية بين السودان وإثيوبيا محل شك.

ما نشرته الإيكونوميست من معلومات مضللة في هذا التقرير مثير للشكوك، فهل وقعت الصحيفة ضحية تضليل ممنهج، أم أنها عمدت إلى نشر معلومات مضللة. وفي كلا الحالين فقد كان الأحرى بالصحيفة العريقة أن تعكس وجهات النظر المختلفة عند تناولها لهذه القضية التي تتطلب التعامل بحياد ودون تبني وجهة نظر أحادية.

مشاركة التقرير