ما بين الخامس والعشرين من أكتوبر والرابع من يوليو .. من يثق في”خطابات البرهان” ؟

في الخامس والعشرين من أكتوبر العام الماضيِ، أذاع قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، بيانه الذي أعلن فيه انقلابه على شركائه في السلطة حينها من (تحالف قوى الحرية والتغيير)، وقوّض مسار التحول الديمقراطي في البلاد، وأعلن وقتها انه بصدد تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، وبرلمان ثوري من الشباب، وهياكل للسلطة الانتقالية، وحدد لذلك موعداً هو نهاية نوفمبر 2021م.

وبعد مرور أكثر من ثمانية أشهر عاد البرهان مرة أخرى بخطاب جديد، اعتبره الكثيرون خطوة انقلابية جديدة، على شركائه الجدد من الموقعين على اتفاق سلام جوبا، والقوى التي ساندت انقلابه.

خطاب جديد وقرارات جديدة

في الرابع من يوليو 2022م، وفي خضم تصاعد الحراك الجماهيري الرافض للإنقلاب، والمستمر منذ الخامس والعشرين من أكتوبر العام الماضي، والمواكب الحاشدة في الثلاثين من يونيو التي أعقبتها اعتصامات متفرقة بعدد من المناطق بالخرطوم والولايات، عاد البرهان مرة أخرى بخطاب، ذكر فيه عدد من القرارات، من بينها:-

  • عدم مشاركة المؤسسة العسكرية في المفاوضات الجارية حالياً والتي تسهلها الآلية الثلاثية.
  • سيتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع يتولى القيادة العليا للقوات النظامية ويكون مسئولاً عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسئوليات تستكمل مهامه بالإتفاق مـــــــــع الحكومـــة التي سيتم تشكيلها من القوى السياسية والثورية والوطنية.

وأثار الخطاب نقاشات واسعة بين السودانيين، خاصة ما يتعلق بتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع، واعتبر البعض أن هذا الخطاب يعد انسحاباً للجيش من العملية السياسية، بينما اعتبره آخرون إعادة التفاف على مطالب الثورة التي تنادي بــ”عودة الجيش للثكنات وحل الدعم السريع”، او إعادة بناء جيش قومي موحد.

وفي هذا السياق، يقول الصحفي ووزير الإعلام في حكومة الفترة الانتقالية الاولى، فيصل محمد صالح، “هذا الخطاب لا يخرج الجيش من حلبة السياسة ولا يعيده للثكنات”، ويشرح فيصل قوله هذا بعدة أسباب، وهي أن: “خطاب البرهان قرر فيه سحب الجيش من عملية التفاوض والحوار الحالية، لكنه لم يعيده للثكنات، بل وضعه فوق الجميع، في المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو إذن لا ينتظر الحوار الذي يحدد موقع المؤسسة العسكرية من مؤسسات الدولة وصلاحياتها ودورها، بل أخرج ذلك من العملية وقرر فيه لوحده. ثم إنه حدد منفردا صلاحيات المجلس الأعلى في الأمن والدفاع، بجانب مهام أخرى يتم الاتفاق فيها مع مجلس الوزراء، وقرر، منفردا، إن لا مكان للمجلس السيادي في هياكل الفترة الانتقالية، وبدأ بإعفاء الأعضاء المدنيين”.

ويضيف فيصل، “بحسب الورقة التي تحدد الموقف التفاوضي للمكون العسكري والتي سلمها من قبل الآلية الثلاثية، فقد طالب بأن تكون اختصاصات مجلس الأمن والدفاع، وهي الصيغة التي كانت مطروحة من قبل، وتحولت الآن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة،. في مهام الأمن والدفاع، والسياسة الخارجية، والإشراف على البنك المركزي/ السياسة النقدية”. ويتساءل فيصل، “ماذا يتبقى من السياسة إذن ليمارسها مجلس الوزراء؟”.

ويتابع فيصل، “حدد خطاب البرهان، منفردا، مهام عملية التفاوض الحالية تحت إشراف الآلية الثلاثية في تشكيل مجلس الوزراء فقط، ولأن المكون العسكري لن يكون طرفا في الحوار فإن أي قضية أخرى تناقشها القوى المدنية وتتفق عليها، مثل الإطار الدستوري، هيكل مؤسسات الفترة الانتقالية ومدتها، اختصاصات الجهات والمؤسسات المختلفة، ستبقى غير ملزمة للمكون العسكري، بل تعرض عليه ليوافق أو يرفض أو يعدل، وهذه مرحلة ثانية من التفاوض تؤكد إن المؤسسة العسكرية باقية في المجال السياسي وهي، بحسب رؤية خطاب البرهان. من سيحكم على مخرجات الحوار، إن جرى، بالقبول أو الرفض”.

ويقول فيصل، “رهان البرهان هو أن القوى المدنية غير محددة الأطراف، والتي دعتها الآلية الثلاثية، هي شتات لا يمكن أن يتفق على شئ، وبالتالي يتوقع إن لا تتفق، ثم يأتي هو ليقول للسودانيين والعالم: لقد أعطيتهم الفرصة ولم يستطيعوا تشكيل حكومة وفشلوا، وبالتالي لا لوم عليَّ في أي خطوة أتخذها”.

محاسبة البرهان أولاً ...

أجمعت غالبية ردود لجان المقاومة على خطاب البرهان على إعلاء مبدأ المحاسبة والمحاكمة على الانتهاكات التي حدثت أثناء وبعد إنقلاب 25 أكتوبر، وطالبت لجان بتقديم البرهان للمحاسبة والمحاكمة، ثم إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية، ردت بعض قوى المقاومة ببيانات إعلامية، بينما آثرت قوى اخرى بالرد في شكل مواكب واعتصامات وتصعيد للحراك الرافض لتدخل المؤسسة العسكرية في العمل السياسي.

وفي أول رد فعل سريع على خطابه، قالت تنسيقيات لجان مقاومة مدينة الخرطوم، في تصريح صحفي، “نقول لقائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان والانقلابيين الذين من خلفه أن الطريق أمامكم واضح ليس لمجلس أمن ودفاع أو أي محاولة أخرى لإعادة التموضع في مستقبل الدولة السودانية وإنما نحو المشانق والمقاصل على الجرائم التي ارتكبتموها في حق هذا الشعب العظيم”.

وفي السياق نفسه، قالت لجان مقاومة الكدرو، في بيان رسمي، “ردنا على هذا البيان أن مكانكم المشانق ف لا تنازل عن مطالبنا و لا تنازل عن دماء شهداءنا الأبرار؛ و إننا ماضون نحو توحيد خطانا و قوى الثورة لإسقاط هذا الانقلاب”.

من جهتها قالت لجنة مقاومة الابيض والدهم، في بيان، “إن قول البرهان المزعوم بالخروج من العملية السياسية وتكوين مجلس للأمن والدفاع هو خطاب جاهل بمطالب الثورة والثوار في أن لا مكان لهؤلاء الجنرالات الذين اورثوا البلاد فقرا وجوعا وقتلا في ايّ هيكل من هياكل الفترة الانتقالية. ونؤكد بأن المؤسسة العسكرية تحتاج إلى إعادة تأهيل حتى تقدم قادة صادقين مع شعبها يعملون على إصلاح ما أفسدوه هؤلاء”.

إنقلاب جديد ..

في تعليقه على خطاب البرهان، وصف الحزب الجمهوري، الأمر بأنه “انقلاباً عسكرياً جديداً”، “يحمل النكهات الإقليمية وقد تم تزيينه بعبارات شكلية لإرضاء المجتمع الدولي (إفساح المجال للقوى السياسية والثورية) مع ابقائه على سلطة العسكر من جيش ودعم سريع لتستمر في قيادتها الفعلية للدولة، وتكوين جهاز تنفيذي من فلول نظام الإخوان المسلمين البائد وأنصار إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر”.

وقال الحزب في بيان، “نرفض خطاب البرهان شكلاً ومضمونا.. حيث أنه لا يملك الشرعية من حيث الشكل، ليحدد شكل الدولة ويسمي مؤسساتها، متجاوزا جريمة الانقلاب التي قادها ودون أيّ إستعداد لتحمل نتائجها الكارثية، من قتل للأنفس البريئة وتسبيب للأذي الجسيم وترويع لأمن المواطنين وتدمير لثروات البلاد. أما من حيث المضمون، فيكفي انه قد تجاوز كل مطالب الثورة المتمثلة في خروج العسكر من السلطة وإقامة مؤسسات الدولة المدنية (سلطة الشعب)، من مجلس تشريعي يمثل قوى الثورة الحية والبدء في إصلاح مؤسسات الدولة الأمنية والعدلية لتكون تحت السلطة التنفيذية المدنية وليس تحت سلطة المجالس العسكرية من جيش ودعم سريع”.

مناورة مكشوفة وتراجع تكتيكي

من جانبه، قال تحالف قوى الحرية والتغيير، التحالف الحاكم السابق، أن “قرارات قائد السلطة الانقلابية هي مناورة مكشوفة وتراجع تكتيكي َيَقبل ظاهرياً بمبدأ عودة الجيش للثكنات مع إفراغ هذا المبدأ من محتواه، هذا التراجع التكتيكي جاء نتيجة للمقاومة الجماهيرية المتواصلة التي بلغت أشدها في الثلاثين من يونيو، ليثبت بأن قوى الثورة تتقدم يوماً بعد يوم وأن الانقلاب يتراجع ويتقهقر ويُهزم يومياً”.

وأورد التحالف، في بيان، أن “جوهر الأزمة الحالية هو انقلاب 25 أكتوبر 2021م، وما تبعه من تدهور في كافة مناحي الحياة في البلاد حتى صارت محاصرة بشبح المجاعة وازدياد وتيرة الفقر والتوترات الأمنية وفشل الموسم الزراعي، عليه فإن محاولة السلطة الانقلابية لتصوير الأزمة كصراع بين المدنيين ما هي إلا ذَر للرماد في العيون، كما أن تعميم تعبير المدنيين يخلط بين قوى الثورة التي قاومت الانقلاب وتلك الأطراف المدنية التي دعمت الانقلاب أو كانت ضمن منظومة النظام البائد، إن التعريف الصحيح للأزمة يقود للحل الصحيح، لذا فإن الحل يبدأ بتنحي السلطة الانقلابية عن سدة السلطة ومن ثم تشكيل قوى الثورة لسلطة مدنية انتقالية كاملة وفق إعلان دستوري يحدد هياكل الانتقال وقضاياه بما فيها قضية دور المؤسسة العسكرية ومهامها، فالأمر ليس محض تشكيل حكومة تنفيذية، بل هو حزمة متكاملة تشمل قضايا الإصلاح الأمني والعسكري والجيش الواحد المهني القومي، والعدالة التي تكشف الجرائم وتحاسب مقترفيها، وقضايا الاقتصاد ومعاش الناس وتفكيك نظام 30 يونيو 1989م، وبناء واستكمال السلام، وتمهيد الطريق لانتخابات حرة ونزيهة يختار فيها الشعب من يحكمه”.

من جهته، وصف الحزب الشيوعي السوداني ، خطاب البرهان بأنه “تأكيد لاستمرار انقلابي 11 أبريل و25 أكتوبر، حيث جعل من الانقلاب مرجعيته، تعطي المشروعية للفترة القادمة وبالتالي تتحكم فيها. من حيث استمرار القرارات والتشريعات التي أصدرها سابقاً”.

وأعلن الحزب الشيوعي عن رفضه لـ”التسوية السياسية المطروحة وإدانته لكل القوى المشاركة فيها”. وقال إن “الخروج من الأزمة الحالية يعتمد على استمرار امتلاك الجماهير للشوارع”، و “تسيير مواكبها الهادرة وتحويل اعتصاماتها إلى بؤر تقود وتدعم الجهود المبذولة لتوحيد القواسم المشتركة في المواثيق الثورية والوصول إلى وثيقة واحدة كبرنامج للثوار في طريق بناء المركز الموحد لقيادة وتنسيق الحراك الجماهيري الواسع لإسقاط الطغمة العسكرية وبناء السلطة المدنية الديمقراطية”.

فيما قال تحالف قوى الإجماع الوطني، إن خطاب البرهان يهدف إلى “وقف المد الثوري والتنصل عن الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب والوطن قبل وبعد انقلابه”.

وقال التحالف، في بيان، إن إعلان “قائد الانقلاب انسحابه من حوار الآلية الثلاثية” يعني أنه “يضع نفسه ضامناً لمخرجات الحوار”. وفيما يتعلق بتكوين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، اعتبر التحالف إن هذا الأمر “انقلاباً جديدا يؤكد تشبثه باقامة سلطة استبدادية مطلقة وذلك بوضع وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز الأمن والمخابرات تحت سلطته المباشرة بعيداً عن سلطات الجهاز التنفيذي المدني”.

على صعيد ردود الأفعال الدولية، قال المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، تعليقاً على انسحاب الجيش من حوار الآلية الثلاثية، “يأمل الأمين العام في أن يخلق هذا فرصة للسودانيين للتوصل إلى اتفاق يؤدي في نهاية المطاف إلى انتقال بقيادة مدنية نحو الديمقراطية في السودان.”

وتابع بالقول: “تشجع الآلية الثلاثية الحوار بين جميع أصحاب المصلحة للتوصل إلى اتفاق حول المضي قدما لاستعادة الانتقال الديمقراطية بقيادة مدنية.”

وشدد دوجاريك في بيانه على دعم الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، للدعوات بشأن إجراء تحقيق مستقل في حوادث العنف، بما في ذلك من خلال آليات العدالة الانتقالية المناسبة. وقال الناطق الرسمي إن “العنف المتواصل الذي نشهده ويتعرض له المتظاهرون المدنيون من قبل الحكومة يثير قلقا بالغا”.

وقد بلغ عدد القتلى على أيدي القوات الحكومية في سياق الاحتجاجات منذ انقلاب 25 أكتوبر، (113) إلى الآن. وبحسب لجان وفرق طبية، فإن معظم القتلى أصيبوا بالرصاص في الصدر أو الرأس أو الظهر. وتشير التقارير إلى أن قوات الأمن المشتركة استخدمت الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ضد المتظاهرين.

ردود الأفعال على خطابات البرهان، جاءت من جهات متباينة ومن خلفيات مختلفة، لكنها تكاد تتفق جميعها على أمور أساسية: العدالة والمحاسبة وإبعاد الجيش من العملية السياسية، والسيطرة المدنية على الأجهزة العسكرية والنظامية شأنها في ذلك شأن جميع أجهزة الدولة الأخرى، فلا يستقيم التحول الديمقراطي والمؤسسات العسكرية والأمنية تخلق لنفسها موضعاً فوق القانون والمحاسبة والمساءلة المدنية.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع