ما الأسباب التي دفعت محتجي (العبيدية) لإيقاف شركات التعدين وتصعيد الإعتصام؟

هناك، تحت الخيام المنصوبة في منطقة العبيدية، بولاية نهر النيل، شمالي السودان، يجلس مئات المواطنين على السجادات الخضراء، ويناقشون قضايا اعتصامهم المناهض للتعدين، والذي بدأ في الأول من أغسطس وما يزال مستمراً. 

وتعيش المنطقة التي تعتبر واحدة من أكبر أسواق التعدين عن الذهب، في حالة تردي أمني وحوادث نهب وقتل صادمة تفشت في المنطقة بصورة لافتة منذ العام 2020م، حين قتل أحد أبناء المنطقة (همام أحمد خير الله) داخل متجره بسوق الطواحين وسرقت كل ممتلكاته. 

هزت تلك الحادثة سكان المنطقة الذين تجمهروا حينها، وضغطوا على السلطات عبر إغلاق سوق الطواحين، ليقبض على الجناة لاحقاً.

تراكمت الأوضاع الأمنية على مر السنوات وشهدت تطوراً كبيرا، في ظل غياب الحماية ومراكز الشرطة عن المنطقة، الأمر الذي دفع بالمواطنين للتصعيد في اتجاه الاعتصام القائم الآن، والتي تتمثل أبرز مطالبه في ضرورة توفير الحماية والأمن بالمنطقة، جنباً إلى جنب مع مطالب أخرى تتعلق بمحاربة الآثار البيئية للتعدين والمطالبة بتنفيذ مشاريع خدمية، والتي من ضمنها إعادة تأهيل المحطات والشبكات وإنشاء محطة تحويلية للكهرباء لسد حاجة المشاريع الزراعية والصناعية وتنفيذ واكمال الطريق الرابط بين بربر والعبيدية.

وفي خطوات تصعيدية تجاه القضية أغلق المعتصمون مكاتب الوحدة الإدارية بالإضافة لمقر الشركة السودانية للموارد المعدنية، كما اوقفت كل إجراءات تحصيل الرسوم في سوق التعدين، علاوة على إيقاف امداد المياه عن 9 من الشركات العاملة في مجال معالجة واستخلاص الذهب.

وأعلنت اللجنة المشتركة للاعتصام عن خطة تصعيدية تتضمن إغلاق كل المرافق الحكومية والأسواق وشركات التعدين.

ويوضح عضو لجان المقاومة العبيدية، الشيخ ابوشورة، في إفادته لـ (بيم ريبورتس):“المشاركة في الاعتصام واسعة ولا تنحصر على سكان العبيدية، حيث يأتي الناس من المناطق الأخرى في نهر النيل، كما وجدنا دعماً من الأجسام المهنية والمطلبية في كل الولايات”.

اعتصامات مستمرة ووعود منسية

الحراك المطلبي الحالي ليس هو الأول من نوعه الذي تشهده منطقة العبيدية ضد سياسات التعدين وممارساته، ففي يوليو من العام الماضي، نظم المواطنون اعتصاماً مطلبياً ضد الأضرار التي يتسبب فيها التنقيب عن الذهب، وكان عدد المطالب التي رفعها الاعتصام 25 مطلباً، وجاء أبرزها في ضرورة إيقاف التعدين داخل المناطق السكنية والزراعية، والمطالبة بإيقاف نشاط شركات التعدين التي تعمل في التنقيب في مخلفات التعدين التقليدي (الكرتة) واستخدامها مادة السيانيد التي تسبب أضرار للبيئة والإنسان.

رُفِعَ الاعتصام حينها بعد ثلاثة أيام عقب الاجتماع مع والية نهر النيل حينها، أمنة المكي، والتي قدمت وعوداً قاطعة بتنفيذ أغلب المطالب. كما قدم مدير الشرطة وعداً بإنشاء قسم شرطة بسوق الطواحين لتوفير الحماية والأمن والحد من انتشار الجريمة.

لكن بعد مرور أكثر من عام لم تتحقق أغلب الوعود، ليعود أهالي العبيدية للاعتصام مجدداً، وتكون واحدة من شعارات الاعتصام الرئيسية “الأمن مقابل التعدين”.

سوق اقتصادية مربحة وأضرار جسيمة

جاء انتشار التنقيب عن الذهب كنتيجة انقسام السودان إلى دولتين في يوليو من العام 2011م، والذي تسبب في صدمة اقتصادية بسبب خروج عائدات النفط من ميزانية الدولة، والتي كانت تشكل أكثر من نصف العائدات وما يزيد عن 95% من صادرات الدولة. علاوة على فقد السودان عائداته من خطوط الأنابيب بسبب إندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان.

فاقمت هذه الظروف من سوء الوضع الاقتصادي، وتسببت في ضائقة معيشية، وجد المواطنون أنفسهم على إثرها يبحثون عن سبل جديدة لكسب العيش. لينفتح باب التعدين عن الذهب في مناطق وولايات مختلفة في السودان. ويضم قطاع التعدين الأهلي حالياً أكثر من مليوني عامل، بمعدل إنتاج 80% من إجمالي الذهب المستخرج في البلاد. 

وتعد ولاية نهر النيل واحدة من أكبر المناطق التي يمارس فيها نشاط التعدين عن الذهب، حيث تتوفر على 4 من أسواق التعدين الشهيرة والتي من ضمنها سوق التعدين في منطقة العبيدية. 

وفي حين جلب التنقيب عن الذهب فوائد اقتصادية لكل من المعدنين والمجتمعات المستضيفة لعمليات التعدين، وساهم في زيادة إيرادات الدولة وصادرها من الذهب، إلا أنه جلب معه تأثيرات عميقة على البيئة وحياة الناس، فنجد أن هناك شكاوى مستمرة عن حالات التلوث البيئي نتيجة استخدام مواد ضارة بالبيئة والإنسان في عمليات التعدين، مسببة عدداً من المخاطر الصحية على المُعَدِّنين والمجتمعات المستضيفة لعمليات التعدين، حيث ظهر طيف واسع من الأمراض الجديدة وحالات إجهاض وسط النساء الحوامل.

جدل مستمر وتنصل عن المسؤولية

على الرغم من أن أضرار استخدام المواد الكيميائية (الزئبق والسيانيد) موثقة ومعروفة ضمن تقارير عديدة، ووفقاً لـمنظمة الصحة العالمية فإن استنشاق بخار الزئبق يمكن أن يسبب آثاراً ضارة على الجهازين العصبي و الهضمي، وجهاز المناعة. كما أن استخدام السيانيد للتنقيب ومعالجة الذهب يؤدي إلى تكون برك هائلة من نفايات السيانيد ، وهـي مصدر رئيسي لإطلاق السيانيد في المياه الجوفية. وهاتين المادتين هما المستخدمتين سواء في التعدين الأهلي أو من قبل المصانع والشركات. 

ويستخدم الزئبق في التعدين التقليدي، ويستخلص ما نسبته 30% من الذهب الموجود في الحجارة، لكن دائرة الإنتاج هذه لا تتوقف هنا، حيث تقوم شركات ومصانع التعدين باستخدام مخلفات التعدين (الكرتة)  واستخلاص الذهب المتبقي فيها عبر استخدام السيانيد.

لكن هناك تنصل من المسؤولية فيما يتعلق باستخدام المواد الكيميائية في التعدين. ففي حين تُحَصّل الشركة السودانية للموارد المعدنية رسوماً مختلفة من قطاع التعدين التقليدي، ويحتفي مديرها مبارك عبد الرحمن بمنطقة العبيدية، ويصفها بأنها تماثل سنغافورة من حيث إنتاج الذهب، إلا أنه في الوقت نفسه يتنصل عن المسؤولية فيما يتعلق باستخدام الزئبق في عمليات التعدين، ويقول بأنهم لا يجلبون الزئبق، وإنما يجلبه المعدنون. وهو ما يتعارض مع قانون تنمية الثروة المعدنية والتعدين (2015)، والذي ينص في جزء منه بأن السلطة/ الجهة الفاعلة هي التي يقع على عاتقها منح تراخيص التعدين ووضع السياسات العامة المرتبطة به وتقنين العمل. 

إن القضايا المرتبطة بالتعدين لا يمكن معالجتها دون وضع وتطبيق سياسات واستراتيجيات واضحة، والتي تضع صحة وسلامة المعدنين والمجتمعات المحلية المستضيفة لعمليات التعدين في هرم أولوياتها. والآن مع موسم الأمطار فإن ناقوس الخطر يزداد في ولاية نهر النيل مع وجود 450 ألف طن من مخلفات التعدين الملوثة بالزئبق ومعرضة للإنجراف لمصادر المياه ومجرى النيل، الأمر الذي سيخلف مضاراً على إنسان الولاية في الوقت الحاضر وفي المستقبل.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع