بعد نحو عشرين عاماً على اندلاع الحرب الدموية في إقليم دارفور غربي السودان، والتي خلفت نحو 300 ألف قتيل وأكثر من مليوني مشرد، داخل وخارج البلاد، ما يزال المتهمون بارتكاب تلك الفظاعات طلقاء، وكأن شيئاً لم يحدث هناك في الإقليم المنكوب بالنزوح والفقر وانتشار السلاح.
بدأت الحرب من مطار مدينة الفاشر، في عام 2003م، بعدما هاجمته حركات مسلحة، كانت ترفع مطالب تنموية وسياسية.
أتى ذلك الهجوم، في ظل عقود من المشكلات السياسية والاجتماعية والأمنية عانى منها الإقليم، وكل السودان بشكل عام منذ الاستقلال، في بلدٍ لم يعرف الكثير من التنمية، كما أنه لم يُرسِ أي نظام حكم مستقر تُتداول فيه السلطة سلمياً.
اشتعال الحرب وبداية الانتهاكات
مهدّت سياسات النظام البائد في دارفور والتاريخ الطويل من انتشار السلاح في الإقليم، وميلاد المعارضة المسلحة، الطريق إلى الحرب والتشظي والفوضى لاحقاً، فبات الجميع، بعد سنوات من الدمار بحاجة إلى إصلاح ما أفسدته الحرب، لكنه أصبح هدفاً عصي المنال.
لم يمضِ وقت طويل على بداية الحرب، حتى أصبحت دارفور، إقليم الأزمات الأول في العالم. في عام 2005م، حوّل مجلس الأمن الدولي ملفها إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي وقعت بشكل رئيسي، بين عامي 2003-2004م.
بين عامي 2006 و2012م، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، مذكرات توقيف بحق قادة النظام البائد، شملت كلاً من: الرئيس المخلوع عمر البشير ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين، ورئيس حزب المؤتمر الوطني المحلول، أحمد هارون، وقائد المليشيا السابق، علي كوشيب، بالإضافة إلى القائد العام السابق لحركة العدل والمساواة، عبد الله بندة.
وأمس الأربعاء، صرح المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان، خلال مؤتمر صحفي بالخرطوم بأن: “أوامر القبض تجاه المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية سارية، ومسؤوليتي هي الحصول على تعاون حكومة السودان، والمشاركة في التحقيقات والتحري، والآن نركز على أوامر القبض والتي يجب أن ننفذها وفق الالتزامات الواضحة”.
الضحايا والحلم بتحقيق العدالة
انتظر ضحايا الحرب في دارفور نحو عقدين، قبل أن يُشاهدوا أحد المتهمين الرئيسيين يمثل أمام قضاة محكمة الجنايات الدولية، بمدينة لاهاي الهولندية، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكنه ليس أمراً كافياً للضحايا، بعد.
فعلي كوشيب الذي سلم نفسه طواعيةً إلى سلطات المحكمة في يونيو 2020م، بجمهورية أفريقيا الوسطى، ليس سوى مُنفذاً صغيراً، لسياسات أكبر، إذ يمثل تسليم البشير وقادة نظامه البائد، إلى سلطات المحكمة، الأمل الرئيسي، لتحقيق العدالة بالنسبة لضحايا الحرب المتوزعين في 175 مخيم نزوح داخلي وخارجي.
مع إطاحة ثورة ديسمبر 2018م، بالنظام البائد، وتشكيل حكومة انتقالية مدنية في عام 2019م، وتوقيع اتفاق سلام جوبا في 2020م، تصاعدت الآمال وسط ضحايا الحرب في دارفور، في تحقيق العدالة، حيث وصلت المدعية العامة السابق للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، إلى السودان وإقليم دارفور للمرة الأولى، والتقت بالضحايا وجهاً لوجه.
أثر الانقلاب في إبطاء تسليم المطلوبين
قبيل انتهاء ولايتها بأسبوعين، عادت بنسودا إلى البلاد مرةً أخرى، في يونيو 2021م، حيث خلفها في منصبها البريطاني، كريم خان، والذي وصل بدوره إلى الخرطوم في سبتمبر من نفس العام واتفق وقتها مع الحكومة الانتقالية على إنشاء مكتب للمحكمة الجنائية الدولية بالخرطوم، لمتابعة القضية.
لكن لم تمر سوى أسابيع معدودة على زيارة خان إلى البلاد، حتى تغيرت الأمور مرةً أخرى، بانقلاب 25 أكتوبر.
بعد نحو عام من زيارته الأولى، وصل خان إلى البلاد في بداية الأسبوع الحالي، تمكن هذه المرة من زيارة إقليم دارفور ولقاء النازحين.
وأشار خان في المؤتمر الصحفي، إلى أنه كان يوجد تعاون من قبل حكومة السودان لكنه تراجع خلال الأشهر الماضية من قبل الجهات الأمنية، لافتاً إلى أنهم بصدد إنشاء مكتب لادعاء المحكمة بالسودان من أجل التواصل مع الضحايا في دارفور.
بعد عشرة أشهر من الصمت، في أعقاب انقلاب 25 أكتوبر الماضي، أثارت الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، بالتزامن مع زيارة خان إلى البلاد، في الوقت الذي تتلاعب فيه السلطة العسكرية الحاكمة، بحق الضحايا في تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية.
لم يكف البرهان ونائبه حميدتي عن إطلاق الوعود بالتعاون مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، لكنهما لم يسمحا لخان حتى بالحديث إلى المطلوبين للمحكمة، حسبما قال في إحاطة لمجلس الأمن الدولي من الخرطوم، وهو الأمر الذي نفته سلطة الأمر الواقع بالتزامن مع نهاية زيارة خان.
لا سبيل غير تحقيق العدالة للضحايا
“مواطنو دارفور يعيشون في أوضاع مزرية ومأساوية، ويجب علينا التحرك بقوة وتفعيل التزاماتنا القانونية، عبر المساءلة والتحقيقات المستقلة، وألا نهمل الضحايا وما يريدون”، يقول المدعي العام للمحكمة الجنائية كريم خان، من الخرطوم.
وفيما يتعلق بالخطوات التصعيدية التي ستتخذها المحكمة حال عدم تعاون السودان مع المحكمة الجنائية، يشير خان إلى أن التحدي الآن هو الحصول على التعاون والمساعدة، وإذا ما وصل الأمر إلى طريق مسدود، فإن هناك طرق أخرى لاتباعها، مؤكداً أن “هذه القضية لن تغلق حتى يتحقق الهدف الذي نعمل من أجله وهو تحقيق العدالة”.
“الضحايا ما يزالون في انتظار تحقيق العدالة”، بهذه الجملة، اعتبرت دول الترويكا والاتحاد الأوروبي، في بيان لها اليوم الخميس، زيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية إلى السودان وإقليم دارفور بمثابة تذكير بآمال الضحايا في تحقق العدالة.
ودعا البيان “السلطات السودانية الحالية” إلى تجديد التعاون الكامل وغير المحدود تماشيًا مع اتفاقية جوبا للسلام، ووفقًا لمذكرة التفاهم الموقعة في أغسطس 2021م بين مكتب المدعي العام والسودان.
وأشار البيان، إلى أن المحكمة الجنائية الدولية، عملت مع الحكومة الانتقالية السابقة بشكل وثيق، لكن هذا التعاون شهد تراجعاً منذ الاستيلاء العسكري على السلطة في 25 أكتوبر 2021م.
من جهتها، رحبت المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين بزيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية لدارفور، و”شكرته على موقفه الثابت والوقوف بجانب الضحايا في سبيل تحقيق العدالة التي طال انتظارها”.
تتدافع الأحداث وتتباين، ما بين الضغط من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من جهة، ووعود متكررة بالتعاون من قبل السلطة العسكرية في السودان من جهة ثانية. وسط انتظار وتطلع الضحايا وعائلاتهم لتحقيق العدالة التي طالما كانت ذروة سنام أمنياتهم.