هل يسهم تبادل السفراء في بداية حقبة جديدة للعلاقات بين الخرطوم وواشنطن؟

“أنا سعيد للغاية بوصولي إلى السودان.. أتطلع إلى تعميق العلاقات بين الشعبين الأميريكي والسوداني ودعم تطلعات الشعب السوداني في الحرية، السلام، العدالة، والتحول الديمقراطي”. هكذا عبّر أول سفير أميركي في السودان منذ نحو 25 عاماً، جون قودفري، على حسابه الرسمي بموقع تويتر، عن رؤيته للعلاقات بين الخرطوم وواشنطن، غداة وصوله إلى البلاد في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي.

بوصوله إلى الخرطوم، سفيراً فوق العادة للولايات المتحدة في السودان، أنهى قودفري، حقبةً طويلةً من العداء بين البلدين، ليكون أول خلف لزميله، آخر سفير أميريكي بالخرطوم تيموثي م. كارني الذي غادر البلاد في 30 نوفمبر عام 1997م، إلى العاصمة الكينية نيروبي، بعدما قلصت الولايات المتحدة تمثيلها في السودان إلى قائم بأعمال.

لكن، نهاية الحقبة الطويلة من العداء بين الخرطوم وواشنطن، بتعيين سفير أميريكي في البلاد، كان تتويجاً لتطبيع العلاقات خلال حكومة الفترة الانتقالية المدنية سبتمبر 2019م – أكتوبر 2021م. 

وتمثل تطبيع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، في عقد اتفاق لتبادل السفراء، بين رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، ووزير الخارجية الأميريكي السابق، مايك بومبيو في عام 2019م، حيث قدّم أول سفير للسودان في واشنطن منذ أكثر من عقدين نور الدين ساتي، أوراق اعتماده للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب في عام 2020م.

لم يكد يمر سوى عام على ذلك الاتفاق، وأقل من عامين على إطاحة نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في ثورة شعبية في أبريل 2019م، حتى دخلت العلاقات بين البلدين إلى مرحلة جديدة، بعدما أزالت الولايات المتحدة في ديسمبر 2020م، السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، عقب مفاوضات بين الخرطوم وواشنطن بدأت منذ وصول الحكومة الانتقالية إلى السلطة.

وكانت واشنطن قد وضعت الخرطوم في قائمتها للدول الراعية للإرهاب، في أغسطس 1993م، في أعقاب تدهور العلاقات بين البلدين، وإيواء السودان لجماعات إرهابية متطرفة، حيث مثّلت تلك الخطوة متوالية انحدار سريعة وغير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين السودان والولايات المتحدة.

تاريخياً، بدأت العلاقات السودانية ـ الأميركية، رسمياً، بعدما تم تأسيس أول بعثة دبلوماسية في الخرطوم في 15 فبراير 1956م، ليقدم رئيسها وأول قائم بالأعمال آرثر بيش أوراقه للحكومة السودانية، في السابع عشر من مارس 1956م، وذلك بعد شهرين على استقلال البلاد في الأول من يناير 1956م.

وشهدت العلاقات بين البلدين، صعوداً وهبوطاً، لكن أول منعطفاتها الحادة بدأت في أعقاب قمة اللاءات الثلاثة التي عُقدت بالخرطوم عام 1967م، بعد (النكبة) هزيمة مصر عسكرياً من دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث أغلقت السفارة الأميريكية بالخرطوم في يونيو من نفس العام، وانتقلت أعمالها إلى السفارة الهولندية، قبل أن يُعاد فتحها في 25 يوليو 1972م. 

أيضاً، قاد مقتل السفير الأميركي، كليو نويل، داخل مبنى السفارة السعودية بالخرطوم، في مطلع مارس 1973م، على يد جماعة (أيلول الأسود) الفلسطينية، إلى توتر العلاقات السودانية ـ الأميريكية، كما أنه سبب حرجاً بالغاً للأجهزة الأمنية السودانية. لكن ذروة تدهور العلاقات كانت مع وصول نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير إلى السلطة في عام 1989م.

مع انقلاب 25 مايو 1969م، أيضاً ساءت العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، بسبب توجه النظام وقتها للمعسكر الشرقي واعترافه بألمانيا الشرقية، قبل أن تتحسن مرة أخرى، عقب انقلاب 19 يوليو 1971م.

لكن، بعد تطبيع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن في 1972م مرة أخرى، جرى العمل على إحياء مشروع الرهد الزراعي عن طريق مؤسسة التنمية الدولية والحصول على تمويلات عبر برامج المعونة من مؤسسات ضمان الاستثمار الأميريكية لمشروعات النقل، (طائرات بوينج للخطوط الجوية السودانية، قاطرات لسكك حديد السودان)، بجانب مشروعات أخرى.

بالإضافة إلى العمل، على استكشاف النفط عبر شركة شيفرون الأميركية، والتي اكتشفت الغاز بكميات تجارية في البحر الأحمر وبدأ التنقيب عن النفط بصورة جادة في عهد عبود بموجب قانون تنمية المواد البترولية 1958م.

مع إعلان الرئيس المخلوع، جعفر نميري، قوانين سبتمبر في عام 1983م، تدهورت العلاقات بين البلدين، قبل أن تتحسن مرةً أخرى في أعقاب عملية نقل اليهود الفلاشا إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1985م.

عندما أطيح نظام نميري في ثورة شعبية في أبريل 1985م، كان في زيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، حيث كان يجري محادثات مع الرئيس رونالد ريغان.

غير أنه، في فترة الحكومة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام نميري، تدنت المعونات الأميريكية إلى أقل من 25 مليون دولار في عام 1985م واعترف السفير الأميريكي الأسبق في الخرطوم، نورمان أندرسون، بأن حكومة بلاده خفضت مساعداتها بشدة للحكومة الديمقراطية، ولم يخف السفير خيبة أمله في حكومة الصادق المهدي. 

على الرغم من التحفظات الأميريكية، استمر التعاون الفني والاقتصادي في عهد حكومة رئيس الوزراء الراحل، الصادق المهدي، كما استمر التعاون بين الجيش السوداني والبنتاغون في تدريب كوادره، لكن في العام 1988م، تم تطبيق أول عقوبات أميريكية على السودان نتيجة لتراكم المتأخرات وعدم سداد الديون، وكانت فى شكل حرمان من المعونة.

المساعدات العسكرية الأكبر في أفريقيا

في عام 1979م، أقر مجلس الشيوخ الأميريكي إمداد السودان بمقاتلات جوية، كما أجريت لأول مرة عام 1981م، عمليات عسكرية بين الولايات المتحدة والسودان تحت اسم عملية النجم الساطع. وخلال الفترة، بين 1976-1982م، ارتفع حجم العون والمشتريات من الأسلحة الأميريكية إلى 154 مليون دولار و161 مليون دولار على التوالي. كما أصبح حجم المساعدات العسكرية الأميريكية للسودان بين 1976-1985م هو الأكبر في أفريقيا، حسبما يذكر وزير الخارجية السوداني الأسبق، والمؤرخ السياسي الراحل، منصور خالد.

ويضيف خالد في كتابه (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية) الجزء الرابع المعنون بـ(الدبلوماسية السودانية في نصف قرن)، إلى أن السودان وفر في مطلع الثمانينات تسهيلات على ساحل البحر الأحمر لمناورات أجرتها القيادة الوسطى للجيش الأميريكي مع الجيش السوداني.

في العام 1993م، أدرجت الولايات المتحدة الأميريكية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب وتلقائياً حرمت البلاد من كل برامج المعونة الأميريكية الزراعية، برامج دعم السلام، القروض التفضيلية وغيرها، كما فرض الرئيس الأميريكي الأسبق، بيل كلينتون عقوبات اقتصادية على البلاد في 1997م، رفعت في عام 2017م، في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما.

في أغسطس 1998م، قصفت إدارة الرئيس كلينتون مصنع الشفاء، بالخرطوم بحري بدعاوي إنتاجه أسلحة كيماوية، في نفس العام اتهمت الولايات المتحدة السودان بالضلوع في تفجير سفارتيها بكل من: نيروبي (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا)، كما اتهمته في عام 2000م، بالضلوع في تفجير المدمرة كول باليمن.

لكن عقب تفجيرات 11 سبتمبر الإرهابية في عام 2001م بالولايات المتحدة الأميريكية، سارع نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في عرض التعاون الأمني مع الولايات المتحدة، بعد تبني تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن تنفيذه التفجيرات. 

وقبل منتصف تسعينات القرن الماضي، استضافت الخرطوم، بن لادن ومجموعات جهادية أخرى، وإدراكاً منه للمخاطر المحدقة به، بادر النظام السوداني بالتعاون مع نظام بوش في القضية التي كانت تمثل في تلك اللحظة أولوية قصوى بالنسبة له: محاربة الإرهاب. لم يدافع النظام عن بن لادن وجماعته، بل غض الطرف عنه ونفض اليد منه.  كما اتخذت أجهزة الأمن السوداني قراراً بتمكين أجهزة الأمن الأميركية بالاطلاع على كل ملفات أسامة بن لادن والجماعات الأخرى التي كانت تتحرك في السودان. كما كشفت أجهزة الأمن السودانية عن كل ما كانت الأجهزة الأمنية الأميريكية تطمح في الاطلاع عليه بما في ذلك حسابات البنوك.

المساعدات الأميريكية والتعاون الاقتصادي

في عام 1961م، زار الرئيس السوداني الراحل، إبراهيم عبود الولايات المتحدة، بعدما تلقى دعوة من رئيسها جون كيندي، حيث ساد المحادثات جو ودي انتهى بموافقة الرئيس كنيدي على زيادة إسهام بلاده في مشروع الطرق السودانية.

وكانت الحكومة الأميريكية، قد قدمت مشروع معونة إلى الحكومة السودانية الائتلافية من حزبي الأمة والشعب الديمقراطي، في عام 1958م، إلا أنها قوبلت بمعارضة شديدة قبل أن يُفعلها عبود عقب زيارته إلى واشنطن.

وأيضاً، مع تسبب الجفاف الذي ضرب البلاد في نهاية السبعينات في مجاعة ضربت أنحاء واسعة من أقاليم السودان، بما فيها تلك المنتجة للحبوب، ساهمت إدارة الرئيس رونالد ريغان بفك تلك الضائقة الغذائية، إما عبر القانون 480، أو عن طريق برنامج الغذاء العالمي. أيضاً، برمجت الإدارة الأميركية، خلال فترة الحكومة الانتقالية 2019-2021م، عون غذائي كان يقدر بأكثر من 300 ألف طن قمح، توقف مع انقلاب 25 أكتوبر2021م. 

في فترات عديدة من حكم نظام نميري، كان هنالك تعاون عسكري بين الخرطوم وواشنطن يعد الأكبر في تاريخ البلدين، واستمر حتى الحكومة الديمقراطية الأخيرة. أيضاً، بدأ استكشاف البترول على عدة فترات، كان آخرها عمل شركة شيفرون على تنقيب البترول في أواخر عهد حكم نميري، ومحاولات أجرتها حكومة الصادق المهدي لعودة شركة شيفرون الأميركية.

ملف السلام

بدأ تدخل الحكومة الأميركية للمرة الأولى في الحرب الأهلية الدائرة في السودان، في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن تتوج مشاركتها في إنجاز اتفاق السلام الشامل في عام 2005م، كذلك عملها المشترك مع دول أخرى في توقيع اتفاق سلام جوبا في عام 2020م.

عقب انقلاب 30 يونيو 1989م، أصدرت واشنطن بياناً أدانت فيه الانقلاب العسكري، وطالبت العسكر بالعودة إلى ثكناتهم، كما ألمحت إلى اتخاذ إجراءات أخرى. 

في الخامس من يوليو 1989م، أعملت الإدارة الأميركية المادة 518 من قانون الاعتمادات لتمويل عمليات الصادرات الخارجية، المعروف بتعديل بروك، قبل أن توقف المعونات العسكرية والعون الغذائي، فيما أبقت على المساعدات الإنسانية. 

يلخص وزير الخارجية السوداني الأسبق، والمؤرخ السياسي الراحل، منصور خالد، في كتابه آخر كتبه: (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية) الجزء الرابع المعنون بـ(الدبلوماسية السودانية في نصف قرن)، مسيرة العلاقات السودانية ـ الأميريكية منذ الاستقلال.

يقول خالد: “طوال الفترة التي امتدت من استقلال السودان في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي حتى نهاية حكومة الصادق المهدي في يونيو 1989م، اتسمت العلاقة بين أنظمة الحكم المختلفة والولايات المتحدة بالحرص على تبادل المنافع مهما كان من اختلاف المواقف حول تلك العلاقة والتشويش الأيديولوجي عن السياسات الوطنية”.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع