جيوش عديدة.. هل تعبد (النصوص) وحدها الطريق للإصلاح العسكري في السودان؟

على مدى السنوات الأربع الأخيرة، في أعقاب ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، في أبريل 2019، لم يكف الفاعلون السودانيون، مدنيون وعسكريون، عن الحديث بشأن إعادة هيكلة الجيش أو إصلاح القطاع العسكري عامةً، الذي تم تضمينه في جميع الاتفاقات، في ظل ظاهرة الجيوش المتعددة التي تعيشها البلاد.

 

ومع اختلاف المقصد والتصورات من عملية الإصلاح، بين الفاعلين، إلا أنهم جميعاً يتفقون على “ضرورة الوصول إلى جيش قومي واحد”. على أن يكون بعيداً عن السياسة وملتزماً بإطار مهني يحدده الدستور، إلا أن هذا الأمر ما يزال يبدو بعيد المنال بالنظر إلى دور الجيش المتنامي في السياسة منذ اندلاع الثورة.

 

ولا يواجه الجيش السوداني في الوقت الحالي، مجرد عملية دمج وإعادة تسريح تقليدية، مثل تلك التي تم تنفيذها طوال تاريخ اتفاقات السلام التي وقعها السودانيون حكومات وحركات مسلحة، على أمل إطفاء الحروب الأهلية التي وسمت تاريخ البلاد الحديث، وإنما تُثار التساؤلات بالأساس، حول قدرته على احتواء كل تلك الجيوش التي تقدر بنحو 5-9 جيوش، في جيش قومي واحد. 

 

وأكثر من ذلك، يواجه الجيش من جهة، وجميع أولئك الساعين إلى بناء جيش وطني قومي موحد، تحدي كيفية التعاطي مع الدعم السريع الذي تنامت قوته وترسخ وجوده العسكري والسياسي، ما يجعله في مصاف الجيش الرسمي.

تباين وجهات النظر

مثل اتفاق سلام جوبا، وقبله الوثيقة الدستورية واتفاق حمدوك ـ البرهان، لم يغب إصلاح الجيش عن نصوص الاتفاق الإطاري الموقع يوم 5 ديسمبر الحالي، غير أن قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي) أدليا في كلمتيهما بمناسبة توقيع الاتفاق، بتصريحات متباينة عن دور الجيش المهني وإطاره الدستوري، بما في ذلك الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف.

 

ومع ذلك، اتفقا في بعض التفاصيل المتعلقة بخروج الجيش من العملية السياسية. وبينما قال البرهان في كلمته، إن وجود القوات المسلحة والعسكريين في السلطة أمر مؤقت وغير دائم. ذهب حميدتي في كلمته إلى تأكيد انسحاب المؤسسة العسكرية من السياسة، والذي قال إنه أمر ضروري لإقامة نظام ديمقراطي مستدام.

 

عاد البرهان وأضاف قائلاً: “إننا نسعى لتحويل الجيش لمؤسسة دستورية يمنع تحيزه لحزب أو جماعة أو أيديولوجيا ولا تستخدم المؤسسة العسكرية صلاحيتها تجاه طرف من الأطراف وتعمل بمهنية واحتراف”.

 

 ومع أن البرهان، أقر في كلمته بأن السلطة المدنية مسؤولة عن ما وصفها بـ”غايات الوطن وقضاياه”، إلا أنه عاد وحذر القوى السياسية والقوى المدنية بعدم التدخل في العمل الفني للمؤسسة العسكرية، دون تقديم مزيد من التوضيحات. 

 

في المقابل، أضاف حميدتي، أن إقامة نظام ديمقراطي مستدام “يستوجب أيضاً التزام القوى والأحزاب السياسية، بالابتعاد عن استخدام المؤسسة العسكرية للوصول للسلطة، كما حدث عبر التاريخ. وذلك يتطلب بناء جيش قومي، ومهني، ومستقل عن السياسة وإجراء إصلاحات عميقة في المؤسسة العسكرية تؤدي إلى جيش واحد، يعكس تنوع السودان، ويحمي النظام الديمقراطي”.

الدعم السريع

في يناير 2017، أجاز البرلمان المحلول، قانون (قوات الدعم السريع)، والذي بموجبه أصبحت القوات شبه العسكرية والمتهمة بارتكاب انتهاكات فظيعة ضد حقوق الإنسان، في إقليم دارفور بشكل خاص، وأنحاء مختلفة من البلاد، قوات نظامية.

 

ومع ذلك، أثارت وضعيتها مقابل الجيش وتبعيتها لرئاسة الجمهورية منذ ذلك الوقت التساؤلات في الأوساط السياسية، لاحقاً أعادت الوثيقة الدستورية 2019، تقنين وضع الدعم السريع، وهو الأمر عينه الذي فعله الاتفاق الإطاري مرةً أخرى. 

وبالنسبة لقضية الجيش القومي الواحد يعتقد محللون سياسيون أن الاتفاق الإطاري لم يجاوب عليها. 

 

يقول الكاتب عبد الرحمن الغالي، إن “وثيقة دستور المحامين بدأت بتجاهل الدعم السريع ولم تذكره ضمن الأجهزة النظامية الثلاثة (الجيش والشرطة وجهاز المخابرات) وجاء الإعلان الدستوري ليتحدث فقط عن مهام القوات المسلحة وعن دمج كافة القوات دون ذكر الدعم السريع. ولكن في الاتفاق الإطاري، ظهر الدعم السريع ضمن هذه الأجهزة النظامية لتصير أربعة أجهزة (الجيش، الدعم السريع، الشرطة، المخابرات)، وجاء في الاتفاق أنها تتبع للقوات المسلحة وأن القانون سيحدد لها أهدافها ومهامها وأن يكون رأس الدولة قائداً أعلى لها. 

 

وهذا يعني، حسب الغالي في مقال منشور، أنها قوة منفصلة بقانون منفصل وليس قانون القوات المسلحة، وأنه لم ينص على أنها تتبع للقائد العام بل للقائد الأعلى (المدني).

 

ونص الاتفاق الإطاري، في باب (قضايا ومهام الانتقال)، على الإصلاح الأمني والعسكري الذي يقود إلى جيش مهني وقومي واحد، يحمي حدود الوطن والحكم المدني الديمقراطي، وينأى بالجيش عن السياسة. بالإضافة إلى تنقية الجيش من أي وجود سياسي حزبي، وإصلاح جميع الأجهزة النظامية.

 

وعرف الاتفاق الأجهزة النظامية في جمهورية السودان بأنها هي: القوات المسلحة، قوات الدعم السريع، الشرطة، جهاز المخابرات العامة.

ونص الاتفاق على أن القوات المسلحة؛ مؤسسة نظامية قومية احترافية غير حزبية، مؤلفة ومنظمة هيكلياً طبقاً للقانون، تضطلع بواجب حماية الوطن ووحدته وسيادته والحفاظ على أمنه وسلامة أراضيه وحدوده، أيضاً نص الاتفاق على أن  تتخذ القوات المسلحة عقيدة عسكرية تلتزم بالنظام الدستوري وبالقانون وتقر بالنظام المدني الديمقراطي أساساً للحكم، ويكون رأس الدولة قائداً أعلى للقوات المسلحة.

 

كما يحدد القانون الحالات التي يجوز فيها لمجلس الوزراء، أن يلجأ إلى إشراك القوات المسلحة في مهام ذات طبيعة غير عسكرية، على أن تتكون القوات المسلحة من مكونات الشعب السوداني المختلفة بما يراعى قوميتها وتوازنها وتمثيلها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لمؤسسات السلطة الانتقالية ولا تُستخدم ضد الشعب السوداني، ولا تتدخل في الشؤون السياسية.

 

أيضاً يحظر تكوين مليشيات عسكرية أو شبه عسكرية ويحظر مزاولة القوات النظامية للأعمال الاستثمارية والتجارية ما عدا تلك التي تتعلق بالتصنيع الحربي والمهمات العسكرية وفقاً للسياسة التي تضعها الحكومة الانتقالية، وتؤول لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي جميع الشركات الحكومية والمملوكة للقوات النظامية المختلفة وجهاز المخابرات والتي تعمل في قطاعات مدنية، وتخضع بقية الشركات المملوكة للقوات النظامية والتي تعمل في قطاعات عسكرية وامنية لإشراف وسلطة رقابة وزارة المالية في الجوانب المالية والمحاسبية وسلطة ديوان المراجعة القومي.

 

 وحدد الاتفاق مهام القوات المسلحة في الفترة الانتقالية إضافة إلى ما ورد في قانونها؛ هي: الالتزام بالنظام الدستوري، واحترام سيادة القانون، والحكومة المدنية الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة البلاد وحماية حدودها أمام أي عدوان خارجي، احترام إرادة الشعب السوداني في حكومة مدنية تعددية ديمقراطية والعمل تحت إمرتها، وتنفيذ السياسات المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري وفق خطة الحكومة الانتقالية وصولاً لجيش قومي مهني احترافي واحد. 

 

ويتضمن ذلك؛ تنفيذ بند الترتيبات الأمنية الوارد في اتفاقية جوبا لسلام السودان والإتفاقيات التي تأتي لاحقاً بخصوص قوات حركات الكفاح المسلح.

وبحسب الاتفاق، فإن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة سيتم وفق الجداول الزمنية المتفق عليها، كما سيتم مراجعة شروط القبول للكلية الحربية ومراجعة المناهج العسكرية، بما يتماشى مع متطلبات العدالة والمواطنة المتساوية والعقيدة العسكرية الديمقراطية، غير أن الاتفاق الذي تحدث عن إدماج الدعم السريع في الجيش أشار إلى أن تنفيذ مهام هذا الإصلاح يتم بواسطة قيادة القوات المسلحة، فيما أشار إلى رئاسة الدولة بواسطة قائد أعلى قوات الدعم السريع.

 

ويرى الخبير العسكري، أمين مجذوب، أن عملية هيكلة ومسألة دمج أفراد وقوات جديدة في القوات النظامية أمر ممكن، ويضيف: ” للقوات المسلحة خبرة كبيرة جداً في دمج القوات مثلما تم في اتفاقية أديس أبابا 1972 وفي  اتفاقية نيفاشا 2005 )، ويشير إلى أن عملية الدمج ستتم بسهولة حال  تم توفير الأموال والمعلومات الصحيحة من جانب الحركات المسلحة والدعم من المجتمع الدولي.


وينوه مجذوب في إفادته لـ(بيم ريبورتس)، إلى أن عملية التسريح “تتم  بتسريح الأفراد للعمل المدني وإرجاعهم  للقرى التي نزحوا منها. أما الدمج، فهو للراغبين في العمل بالقوات المسلحة بعد استيفاء شروطها وتسهيل عملية الإدماج بعد اجتياز القبول ليتم تدريبهم للعمل.

واعتبر مجذوب، أن ما تنادي به بعض الأصوات الأخرى، حول مسألة تفكيك وحل الجيوش تضر بالبلاد أكثر مما تصلحها، مستشهداً بما تم في العام 1985 بحل جهاز أمن الدولة، الذي اعتبره قراراً كان له أثر سلبي على العمل الأمني في البلاد، وأن السودان لا يزال يدفع ثمنه حتى اليوم. 

 

وفيما يتعلق بتجارب مماثلة في دول الجوار، أشار مجذوب إلى ما حدث للجيش الإثيوبي عام 1991 بعد حله، وتعرض المليشيات بعده للهزيمة من القوات الإرترية، وفشل إثيوبيا حتى اليوم في إعادة هيمنة الجيش الذي كان ترتيبه الـ14 في افريقيا رغم إعادتها تجميع الجيش بعد 3 سنوات. 

 

ومع حديث بعض الخبراء، عن إمكانية إجراء عمليات الدمج وإعادة التسريح للجيوش العديدة في البلاد، بما يمهد الطريق إلى توحيدها في جيش قومي واحد، إلا أن التاريخ القريب يخبرنا بأن النصوص والاتفاقات وحدها لا تعبد الطريق لعملية الإصلاح العسكري المنتظرة، في ظل الحاجة الكبيرة للدعم المالي والتحلي بالإرادة السياسية الكافية، وإيمان الفاعلين بضرورة عملية التحول المدني الديمقراطي نفسها. 

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع