كيف تتصاعد خلافات شرق السودان منذ توقيع اتفاق جوبا إلى ما بعد الاتفاق الإطاري؟

لا يزال التعقيد يتصدر المشهد في شرق السودان، حتى بعد سنوات الفترة الانتقالية لحكومة ما بعد ثورة ديسمبر التي عينت فيها مسار لشرق السودان ضمن اتفاقية سلام جوبا والذي واجه بدوره نقدا كبيرا بمفاقمته الأزمة في الشرق.

ومنذ توقيعه، ظل الاتفاق الخاص بمسار شرق السودان محل جدل، إلى لحظة اعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عن تجميد العمل به في  16 ديسمبر 2021م.

 

هذه التعقيدات دفعت بحكومة الأمر الواقع الحالية، بعد توقيعها الاتفاق الإطاري مع قوى الحرية والتغيير وأحزاب سياسية وأجسام مهنية في الخامس من ديسمبر الحالي،   لتضمين ملف شرق السودان على رأس (خمس قضايا)، لم يبت فيها الاتفاق الإطاري لـ”مزيد من التشاور”، وتم تأجيلها إلى حين الوصول إلى اتفاق نهائي. 

 

ومع ذلك، أتت ردة الفعل الأولى على الاتفاق بعد يومين فقط من توقيعه، حيث سارع رئيس (تحالف أحزاب وحركات شرق السودان) شيبة ضرار بإغلاق الميناء الجنوبي لمدة يومين احتجاجاً على الاتفاق.

اتفاق مسار الشرق

وتنص بنود وثيقة اتفاق  مسار الشرق الذي تم توقيعه في 21/2/2020 بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية على تخصيص نسبة 30% من السلطة للطرفين الموقعين ضمن أجهزة السلطة التشريعية والتنفيذية في ولايات الشرق الثلاث، فيما لم يحدد المسار مصير غير الموقعين من الشرق خارج نسبة الـ 67% من عضوية الجهاز التشريعي المخصصة لقوى الحرية والتغيير.

 

 ونص بند  “حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية ” المدرج في الاتفاقية، على إجراء التحقيقات والمحاكمات العادلة وتشكيل لجان تحقيق مستقلة للبحث عن التجاوزات التي تمت في الإقليم منذ عام 1989م وعلى رأسها جريمة مذبحة بورتسودان عام 2005م، وتفعيل مبدأ التمييز الاجتماعي وإعادة هيكلة صندوق إعمار الشرق وإقامة مؤتمر جامع لأهل الشرق يضم كل القوى السياسية والمدنية والأهلية، لكن متابعين عابوا على الحكومة عدم تحديد ما إذا كان المسار سيستمر حتى بعد الحكومة الانتقالية.

ردود فعل متباينة

صاحب التوقيع على مسار الشرق ردود أفعال تباينت ما بين الترحيب والرفض، حيث مثّل الزعيم الأهلي، محمد الأمين ترك، أبرز الأصوات الرافضة للمسار والذي ناهض الاتفاق عبر ما يعرف بـ(المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة). 

 

وامتداداً لذلك الرفض، وقعت اشتباكات مختلفة في مدن الشرق أبرزها بورتسودان بعد توقيع الاتفاق، أسفرت عن وفيات وعشرات الجرحى. 

واتهم المجلس وقتها رئيس الجبهة الثورية، الأمين داؤود، بالضلوع في الأحداث التي شهدتها الولاية لأشهر عبر مساهمته في تعبئة الشباب بإقامة ندوة للتبشير بالمسار ما أدى للإقتتال .

 

وفي أكتوبر 2020م أجبرت احتجاجات في ولاية كسلا تزامنت معها تظاهرات في بورتسودان الحكومة الإنتقالية على إعفاء  صالح عامر من ولاية كسلا بعد ثلاث أشهر من تعيينه بعد رفض 9 مكونات من أصل 11 مكون ولايته ، فيما شهد قرار إعفائه ردود فعل غاضبة من المكونات الموالية له.

 

في المقابل وقع 28 حزبا سياسيا وكيانا مدنيا بشرق السودان على ميثاق يطالب بالإسراع في تنفيذ اتفاق مسار شرق السودان أثناء انعقاد مؤتمر القضايا المصيرية لشرق السودان الذي تم في 25 أغسطس 2022 بالخرطوم.

 

 وتفاقمت أزمة شرق السودان بعد التوقيع على المسار حتى أن مجلس الوزراء ابتعث على آخر أيام الانتقالية في سبتمبر 2021 وفد حكومي كان من ضمنه وزيرة الخارجية مريم الصادق من أجل بحث الحلول الجذرية لقضايا الشرق .

 

ولاحقاً في نفس الشهر، أغلق المجلس الأعلى لنظارات البجا الميناء الجنوبي والطرق القومية لمدة 40 يوماً، ولم يعاد فتحها إلا بعد انقلاب الجيش في 25 أكتوبر 2021م.

تجميد مسار الشرق

أصدر قائد الانقلاب، عبد الفتاح الرهان، قراراً في ديسمبر 2021م،  جمد فيه مسار الشرق، ولاقى القرار قبولاً من التحالفات التي ظلت تطالب بإلغاء المسار حتى قبل التوقيع عليه. وتعالت، في الوقت نفسه، أصوات رافضة لخطوة التجميد، خاصة من الموقعين على اتفاق المسار، والذين عبروا عن رفضهم لأي خطو مشابهة منذ ما قبل الانقلاب.

 

وكان مشرف مسار الشرق، خالد شاويش، ورئيس وفد التفاوض أسامة سعيد قد صرحا في بيان مشترك بأن:“المسار غير قابل للتنازل أو المساومة وسندافع عنه بكل الوسائل”. وأضاف البيان “الصراع في شرق السودان يتم توجيهه الآن ليكون صراعاً حول المواطنة بخطاب شعبوي بغيض يقسم شعب الشرق إلى مواطنين من الدرجة الأولى، وإلى أجانب ولاجئين”.  واعتبر كل ذلك مقدمات للحرب الأهلية.

تطورات جديدة

ومع التطورات السياسية الجديدة، بتوقيع الاتفاق الإطاري، بعد مرور أكثر من عام على انقلاب الجيش، أغلق (شيبة ضرار) الموانئ رفضاً للاتفاق، لكنه تراجع عن الإغلاق “إلى حين إجراء محادثات بينه وبين الحكومة  في الخرطوم “.

 

وجاءت أسباب (ضرار ) للإغلاق، بحسب تصريحات صحفية له، في كون الموقعين على الإتفاق الإطاري لا يمثلون الشرق، قبل أن ينفي وجود أي صلة بينه وبين نظام المخلوع، وذلك رداً على الإتهامات التي طالته نتيجة موقفه من استقبال آخر رئيس وزراء للنظام المخلوع، محمد طاهر إيلا، لكن محللون اعتبروا أن إيلا المحرك الرئيسي والخفي لضرار.

 

وكانت أزمة شرق السودان، قد اتخذت، مطلع أكتوبر الماضي، اتخذت منعطفاً جديداً، إثر عودة والي البحر الأحمر السابق وأخر رئيس وزراء في عهد النظام المخلوع، محمد طاهر إيلا، إلى البلاد بعدما أنهى منفاه الاختياري في العاصمة المصرية القاهرة، التي فرّ إليها، في أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس المخلوع، عمر البشير في أبريل 2019م.

 

وعلى الرغم من ملاحقته بتهم فساد، إلا أن إيلا لم يتعرض للإيقاف بعد عودته، بل سرعان ما انخرط في العمل السياسي، حيث دعا إلى مبادرة لتوحيد تيارات (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة ) المنقسم.

 

واعتبر محللون، أن عودة إيلا مرتبطة بالإرهاصات المتعلقة بالتسوية السياسية المرتقبة في البلاد، وتعويل البعض في الشرق على لعبه دوراً في مستقبل الإقليم من الناحية السياسية، وعزز استقبال الناظر ترك له اعتقاد مجموعات قبلية أنه من المؤهلين لهذا الدور.

انقسامات داخلية

على نحو بدا مفاجئاً، أعلن (ترك) انضمامه لائتلاف الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) التي تضم حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان الموقعتان على اتفاق السلام في 2020، إلى جانب أحزاب سياسية أبرزها؛ الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) – فصيل جعفر الميرغني، والتي تعتبر كتلة تؤيد وتبقي على اتفاق سلام جوبا الذي ظل ترك أبرز المناهضين له. 

 

وانقسم (المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة) لكتلتين كتلة تناصر ترك وكتله أخرى مناوئة له. فيما  تسببت خطوة انضمامه لـ(الكتلة الديمقراطية) في سخط الكتلة المناوئة في المجلس وإعلانها التصعيد المتدرج في الإقليم.

غير أن (ترك) الذي تم تعيينه كنائب لرئيس (الكتلة الديمقراطية)، جعفر الميرغني،  أكد بأنه لا عودة لمسار شرق السودان ضمن اتفاق جوبا للسلام.

 

وتضم (الكتلة الديمقراطية)، أيضاً، الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة  والتي عبرت عن تمسكها بالمسار، إذ جاء على لسان أمينها السياسي، جعفر محمد الحسن، بأن وجودهم مع (ترك) في الكتلة الديمقراطية لا يعني تنازلهم عن مسار شرق السودان، معدداً ما وصفها بالمكاسب التي حققها الاتفاق، مبدياً استعدادهم للنقاش حول الاتفاق في مؤتمر يجمع مكونات شرق السودان.

 

وحول حراك (تحالف أحزاب وحركات شرق السودان) بقيادة شيبة ضرار، يقول المحلل المتخصص في قضايا الشرق خالد محمد نور لـ(بيم ريبورتس)، إن “شيبة ضرار” لا يملك القوة والشخصية السياسية ولا التنظيم الذي يجعله قادراً على التحرك، مضيفاً أن “فشل الإغلاق دليل على عدم استناد قواته على القاعدة”.

 

واعتبر نور، أن الأمر نفسه ينطبق على (مؤتمر البجا – قوى الحرية والتغيير) الذي يشمل مجموعة من الأفراد المنشقين عن (حزب مؤتمر البجا ـ جناح موسى محمد أحمد) خلال ثورة ديسمبر، لعدم استناد التنظيم على قاعدة وهياكل ومكاتب معروفة. بالإضافة إلى عدم عقدهم مؤتمر عام لتحديد ما إذا كانوا حزب سياسي أو تيار مخالف لتوجهات موسى، معتبراً أن تأثيرهم غير كبير في الشرق.

 

وبخصوص الإغلاق، وصف نور رفض العمال تنفيذ الإغلاق، بأنه خطوة في سبيل استعادة وفرض صوتهم النقابي الذي لا يرتهن لجهات سياسية رغم وجود النفس القبلي داخل التكتلات العمالية، على حد تعبيره.

 

وذكر المحلل السياسي، أن الكتل المختلفة في الشرق ليس لديها خط استراتيجي واضح ومواقف ثابتة تجعل الشعب يتكهن بخطواتها، منوهاً إلى أن مواقفها رد فعل لقوى أخرى تستخدمها في تمرير مصالحها، على حد قوله.

 

 وأضاف :” إذا تم التوقيع النهائي فلن يكون هناك مشكلة لأنها مجموعات تجمعها علاقة طيبة بالعسكر ويمكن التأثير عليها عبرهم، إلا إذا أراد المكون العسكري استخدامها مرة أخرى”.

صراعات المجلس الأعلى

يعيش المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة صراعات عاصفة بين قيادته بسبب مواقف ترك، وذكر المجلس في بيان  أنه لن يسمح بتكرار ما وصفه بالخطأ الذي أجبر عليه بسبب سوء تقدير قيادته السابقة، مشدداً على عدم تدخله في صراعات قوى مركزية تسعى لتمكين نفسها على حد تعبيره، ولن يكون مطية لأي حلف مصلحي.

 

فيما أكد على تمسكه بإلغاء مسار الشرق وإعلان منبر تفاوضي تنفيذا لمقررات مؤتمر سنكات وأن البجا والإقليم لن يكونوا جزءاً من أي تسوية أو عملية لا تتبنى حلاً جذرياً لقضية الإقليم.

ووصف البيان التحالف الجديد بين (ترك والأمين داؤود) بالمشروع المقيت والخيانة التي لا تغتفر. وقال مقرر المجلس الأعلى، عبد الله أوبشار، لـ(بيم ريبورتس)، إن موقفهم من الاتفاق الإطاري وجميع تحالفات الأطراف المتصارعة بسبب اعتقادهم أن هذه الأطراف بعيدة عن قضايا الشرق التي اعتبرها لا زالت قائمة وتحتاج لحلول، مشدداً على عدم رغبة المجلس في الانتماء لأي طرف من المتصارعين، معللا ذلك بعدم رغبتهم في فقدان قضية الشرق خصوصيتها.

وفيما يخص موقف تِرك الحالي من الإتفاق، يقول أوبشار إنه رهن القضية لأطراف سياسية وهو ما يرفضه المجلس الذي لن يعمل على إرضاء أي جهة.

موقف آخر

من جهته، صرح مؤتمر البجا المعارض – قوى الحرية والتغيير بدعمه للاتفاق الإطاري، واعتبره حلاً سياسياً يفضي لإنهاء الانقلاب.

 ووصف القوى السياسية الموقعة عليه بالشجاعة، مشيراً  إلى أن دعمه يأتي بسبب  مناقشة الاتفاق لقضايا الشرق، فيما ذكر أن توحيد الشرق يتطلب حوار جاد وعميق بين جميع مكونات شرق السودان. “الاتفاق الإطاري، هو الخيار المتاح في الوقت الحالي، في ظل ضيق الخيارات المتاحة أمام القوى السياسية والعسكرية، ولكن البعض تمنى أن يكون بشكل أفضل” ، يقول والي كسلا السابق، صالح عمار لـ( بيم ريبورتس)، مشيراُ إلى انتظار أهل الشرق لما سيسفر عنه الاتفاق المقبل.

 

وبالنسبة لمحاولة إغلاق الشرق مرة أخرى، وصف صالح تهديدات (ضرار) بالفرقعة الإعلامية لإثبات نفسه في الساحة، وقال إن عمال الميناء أفشلوا الإغلاق، مشيرا إلى وعي أهالي الشرق بالضرر الذي لحق بهم جراء الإغلاق السابق، معتبراً أن خطوة ضرار يقف وراءها محمد طاهر إيلا العقل المدبر له.

 

وأشار والي كسلا السابق، إلى أن الإرباك في المشهد في الشرق سببه المواقف المتعددة لـ(ترك) وتغييره لولاءاته كل فترة.

 واعتبر أن المطالب المتعلقة بـ(مؤتمر سنكات) تخص ترك ومجموعته ولا تهم مواطن الشرق الذي تقتصر مطالبه على السلام والتنمية ودرء التهميش. مضيفاً “الحل يكمن في حوار شامل مع جميع المؤثرين في الشرق وتجاوز ترك وجماعته حال لم يتم التواصل معهم لحل”، مشيراً إلى عدم قدرة ترك أو ضرار، المراهنة على إغلاق الميناء مرة أخرى.

 

وبالنسبة لظهور إيلا في الساحة السياسية مجدداً، اعتبر صالح أنه موقفه يضع الحكومة المدنية المقبلة في تحد كبير لتنفيذ أمر القبض في مواجهته خاصة وأنه يحرض على تقرير المصير.

وحول انقسام المجلس، قال إنه انقسام ولاءات ما بين موالين للبرهان وموالين لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو والحركة الإسلامية.

 

ورأى صالح، أن الفيصل في مسألة قضية الشرق يحكمه موقف المؤسسات العسكرية والحركة الإسلامية، مضيفاً أن هذه المجموعات ستعود لحجمها الطبيعي حال رفعت الأيدي العسكرية يدها من المشهد، داعياً المكون المدني للتأكد من وقوف العسكر في صفهم، وليس في صف ترك وجماعته. 

 

والإثنين الماضي أفضى اجتماع عقده قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو مع نحو 17 من قيادات الإدارات الأهلية الممثلة في المجلس الأعلى للإدارة الأهلية ،إلى تأكيد المجلس دعمه للاتفاق الإطاري كخارطة لحل الأزمة السياسية،إذ اعتبر المجلس بحسب تصريحات عن مسؤوله الإعلامي أن وضع أزمة شرق السودان بين القضايا المزمع نقاشها تفصيلا يشير لحسن النوايا بشأن إيجاد حل يرضي جميع الأطراف.

 

رغم التاريخ الحافل بالاتفاقيات والمفاوضات الطويلة في القضايا المتعلقة بشرق السودان منذ التوقيع على اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا بين النظام المخلوع، وجبهة الشرق 2006م والذي توقفت على إثره حربا استمرت لأكثر من عقد ولكن حكومة المخلوع لم تنفذ حتى عام 2012 إلا نحو 25% من بنوده ومع ذلك بقي موسى محمد أحمد في منصب مساعد رئيس رئيس الجمهورية عمر البشير حتى يوم سقوط النظام .

 

 ظلت تداعيات أزمة الشرق مستمرة منذ ذلك الوقت، وحتى اليوم، إذ لا يزال الإقليم يشهد توترات سياسية واجتماعية واقتصادية، مع تعقد المشهد بشعارات الجماعات التي تلوح بالانفصال والتي تسببت في إجهاض الحكومة الانتقالية. وهي نفس المشاكل التي ستواجه الحكومة المقبلة أيضاً حال لم تقدم رؤية واضحة حول الشرق وقضاياه بشكل يرضي جميع الأطراف وهو ما يعتبره البعض أمراً تعجيزياً يصعب على أي جهة تنفيذية تحقيقه مالم تصل المكونات المختلفة في الشرق إلى حل مشترك فيما بينها.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع