ظلت الحرب عبثًا طويل الأمد يتجرع مراراتها السودانيون منذ ما قبل استقلالهم في العام 1956م، دونما أن يُحاسب عليها أحد. ريثما يتم إطفاء حرب، تندلع أخرى جديدة، وكأنها الأسلوب الوحيد لممارسة السياسة لدى قادتها من كل الأطراف.
الشهر المقبل، تكون قد مرت 20 عاماً على بداية اندلاع الحرب في إقليم دارفور غربي السودان، ومع ذلك تبدو آثار الحرب شاخصة وكأنها اندلعت اليوم، لا في نهايات فبراير 2003م، حيث ما يزال الملايين مشردين ويسقطون ضحايا للسلاح المنتشر في شتى بقاع الإقليم، على الرغم من عقد 3 اتفاقات سلام كبيرة بين الحكومات وحركات مسلحة.
لم تنحصر الحرب في دارفور وحدها، إذ في يونيو المقبل، تكون الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق (المنطقتين)، وصلت إلى عامها الثاني عشر، مخلفة بدورها آلاف القتلى والمشردين داخلياً وخارجياً.
ومع ذلك، يبدو واضحاً من خلال نمط تجارب الحرب والسلام في البلاد، أن الاتفاقات تطفئ نار الحرب الظاهرة فقط، لكنها لا تخاطب جذورها، ولا تقدم أي فلسفة تُسهم في اقتلاع مسبباتها مرة واحدة للأبد.
إذ لطالما، مثلت اتفاقات السلام، صفقات فوقية بين أطراف الحرب، دون أن تمر على ضحاياها وتمنحهم التعويض اللازم والحقوق الواجبة، كما لم تقدم الدولة أياً من أطراف الحرب إلى المحاكمة في أحد الأيام، لتصبح مثل هكذا محاكمات، ربما مقدمة لإخماد أوار الحرب في البلاد.
مع بدء تكشف النتائج الوخيمة للحرب في إقليم دارفور، أحال مجلس الأمن الدولي ملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية والتي تأسست في 2002م، أي قبل عام من اندلاع الحرب في دارفور. بعد تحقيقات أجراها المدعي العام للمحكمة، وجهت الجنائية تهماً شملت عدداً من قادة الحركات المسلحة، قبل أن تطال الاتهامات مسؤولين حكوميين، على رأسهم الرئيس المخلوع، عمر البشير. إذ ما تزال، المحكمة الجنائية الدولية، هي الجهة الوحيدة التي وجهت تهماً تختص بالحرب لقادة سودانيين.
الطريق للعدالة الانتقالية
من بين الأدوات المهمة والتي تُسهم في إخماد نار الحروب، حسب خبراء، هي العدالة الانتقالية، والتي جرى تضمينها في الوثيقة الدستورية التي حكمت الفترة الانتقالية بين عامي 2019 – 2021م، بناء على اتفاق سلام جوبا. حيث بدأت الحكومة الانتقالية في صياغة “قانون مفوضية العدالة الانتقالية – قانون العدالة الانتقالية”، غير أن هذه الإجراءات شابها البطء، حتى تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر 2021م.
ومع توقيع الاتفاق الإطاري بين قوى مدنية والجيش في 4 ديسمبر الماضي، تجدد الحديث مرةً أخرى عن العدالة الانتقالية، ومع ذلك تم تأجيل هذه القضية حتى الوصول إلى الاتفاق النهائي. يقول كبير مفاوضي تجمع قوى تحرير السودان، وأمين التنظيم والإدارة، إبراهيم موسى زريبة، إن الاتفاق الإطاري نادى بإطلاق عملية شاملة تحقق العدالة الانتقالية وتكشف الجرائم وتحاسب مرتكبيها.
وأضاف “بالنسبة لنا قضية العدالة الانتقالية قضية مركزية متكاملة، أفردت لها اتفاقية جوبا بروتوكولات متكاملة وحددت لها آليات عدة؛ أولها تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية وكذلك إنشاء محكمة جنايات دارفور الخاصة التي تعمل في ذات نطاق المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”.
"من الآليات المهمة أيضاً القضاء الوطني وهذا يقودنا لأهمية الإصلاح في المؤسسات العدلية السودانية كلها وبناء مؤسسات عدلية سياسية وتنفيذية وأمنية تحفظ تماسك واستقرار السودان"، يوضح زريبة في حديثه لـ(بيم ريبورتس).
وأشار إلى أن انتهاكات حقوق الإنسان كانت جسيمة طيلة فترة الإنقاذ التي شهدت جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية، وقال “إن فاجعة فض الاعتصام لا تقل فداحة عن تلك الانتهاكات، بالإضافة لجرائم قتل الثوار من الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 وحتى الآن”. وشدد قائلاً “ينبغي أن لا يكون هناك إفلات من العقاب هذه المرة”.
مفاهيم جديدة
“مع تطاول أمد الحروبات وآثارها الكارثية، برزت العدالة الانتقالية كمفاهيم جديدة لمعالجة آثار ما بعد الحرب والنزاعات الدامية في الدولة الواحدة، وبين مواطنيها، بغرض تسوية تراكمات المشكلات التي تخلف مرارات عميقة بين المكونات الاجتماعية وانحياز الدولة”، يوضح رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف، الصادق علي حسن. قبل أن يشير إلى نموذجي رواندا والمغرب.
بالنسبة للسودان، يعتقد حسن، أن تجربة بعض المناطق مثل دارفور، تكاد تكون شبيهة لتجربة رواندا، حيث حدثت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان استخدمت فيها آلية الدولة.
وقال إن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية يتطلب وجود اتفاق سلام أولاً تتأسس عليه المفاهيم، وأنه من دون اتفاق للسلام سواء أكان مكتوباً أو غير مكتوب، لن تكون هنالك مرجعية لأطر يتأسس عليها تطبيق الفكرة، مضيفاً ” لذلك من السابق لأوانه الحديث عن عدالة انتقالية قبل اتفاق سلام يكون مرجعية لها”.
لافتاً إلى أن العدالة الانتقالية، هي عدالة تكميلية