ما الدور الذي لعبته عائلات الضحايا عالمياً من أجل تحقيق العدالة؟

تجمعت 14 من النساء الأرجنتينيات في ظهيرة 30 أبريل 1977م بساحة ميدان مايو أمام قصر الرئاسة في العاصمة بوينس آيرس، معترضات على النظام العسكري الذي مارس أشد أنواع القمع والقتل والتعذيب و تورطه في اختطاف الأطفال الرضع وإخفائهم قسرياً.  وقفت النساء هناك للمطالبة بعودة أطفالهنْ المختطفين، وكانت هذه المسيرة هي النواة التي شكلت كيان منظمة أمهات ميدان مايو حيث زاد عدد النساء المشاركات في القدوم إلى الساحة كل خميس، واضعات أغطية بيضاء على رؤسهنْ تحمل أسماء أبنائهنْ المفقودين.

منظمة أمهات ميدان مايو

مارس نظام الجنرال فيديلا القتل والاختطاف والتعذيب طوال سنوات حكمه في الفترة ما بين 1976 إلى 1983م، والتي عرفت باسم “الحرب القذرة” والتي لم تكن تهدف فقط إلى تصفية معارضي النظام اليساريين، بل كل النشطاء السياسيين وعائلاتهم والمتعاطفين معهم في كل مكان في الأرجنتين. وخلال هذه السبع سنوات اختفى ما يقارب 30 ألف أرجنتيني، مات بعضهم جراء التعذيب أو الرصاص أو رحلات الموت؛ حيث كان يتم تخدير الضحايا ومن ثم رميهم من الطائرات في المحيط الأطلسي. وجزء من هؤلاء الضحايا كنّ من النساء الحوامل تم قتلهنْ بعد أن وضعنْ أطفالهنْ وبعدها منح الأطفال لأسر تابعة للنظام العسكري حتى لا ينشأ جيل جديد من المعارضين، وحدث هذا الأمر مع 500 امرأة.

الأمهات من نحيب الفقد إلى القيادة

بعد 8 أشهر من نشاط أمهات ميدان مايو، بادر النظام في الأرجنتين باختطاف النساء المشكلات للمجموعة، حيث اختطف العديد من مؤسسات المجموعة ومنهنْ أزوسينا فيلا فلور والتي تلقت عائلتها خبراً بمقتلها ودفنها في مقبرة جماعية بعد 28 عاماً.

بالرغم من الترهيب الذي تعرضت له النساء في مجموعة أمهات ساحة مايو إلا أنهنْ نظمن أنفسهن من جديد وعدن إلى الميدان بعد فترة مع الخطر الذي ظل يداهمهنْ دائماً، وبلغ عدد النساء في المجموعة المئات. ومع الرقابة على الصحف والإعلام فإن أمهات ساحة مايو لم يجدن فرصة للتعريف بقضيتهن إلا أثناء استضافت الأرجنتين لبطولة كأس العالم في 1978م حيث استفدنْ من التغطية الإعلامية الدولية لعكس قضيتهنْ للعالم، واستمر الاحتجاج برغم من إرهاب وتهديد الدولة وإطلاق الشرطة النار على جزء من المجموعة خلال الاحتجاجات.

نوعت أمهات ساحة مايو في تكتيكات عملهن ومقاومتهنْ، والتي شملت البحث المنفرد عن الأطفال المفقودين، ونشر إعلانات في الجرائد بأسمائهم، وتوزيع المنشورات في مواصلات النقل العام من حافلات وقطارات، بالإضافة إلى الاستعانة بالشخصيات العامة في الأرجنتين لدعم قضيتهنْ؛ مثل الأديب خورخي لويس بورخيس، والمدير الفني لمنتخب كرة القدم الأرجنتيني سيزار مينوتي، كان ذلك بالتوازي مع الاستمرار في الاحتجاج والمسيرات إلى ساحة مايو كل خميس، “منظمة أمهات ساحة مايو” التي حظيت بدعم كبير.

مسيرة المقاومة واستمرار البحث عن المخفيين

ارتفع صوت حركة أمهات ميدان مايو في أوائل الثمانينيات، ومع التردي الاقتصادي وارتفاع الممارسات القمعية للنظام العسكري إنضم الآلاف من الشعب الأرجنتيني إلى الأمهات في “مسيرة المقاومة” التي استمرت 24 ساعة في 10 ديسمبر 1982م، مما أدى إلى إنهيار شرعية النظام وأجبره على التخلي عن السلطة نتيجة الضغط الشعبي والدولي، وأجريت انتخابات ديمقراطية في عام 1983م.

وبالرغم مع انتهاء الحكم الديكتاتوري فإن حركة أمهات مايو لم تتوقف عن العمل، بل ضغطت بصورة أكبر للحصول على إجابات من الحكومة حول أماكن أولادهن المختفين. وفي عام 1984م جرت محاكمة القيادات العليا في النظام العسكري السابق إلا أن ذلك لم يكن كافيًا ومرضياً. واستمرت الحركة حتى قررت المحكمة العليا في الأرجنتين في يونيو 2005م فتح الباب ومحاكمة كافة المسئولين السابقين.

كانت حركة “أمهات ساحة مايو”، ومازالت، من أهم الحركات السياسية الاحتجاجية في تاريخ أمريكا اللاتينية، وما أدى إلى نجاحها إصرار النساء على النضال المستمر رغم القمع والعنف والخوف. لقد بدأت الحركة بتجمع لأمهات يبكين أولادهن ويطالبن بعودتهم، وتحولت إلى حركة “أمهات ساحة مايو” السياسية التي تتحدى الحكومة وتطالبها بتحمل مسؤوليتها عن اختفاء الأبناء.

وبالرغم من أن معظم الأمهات لم ترين أبنائهن المختفيين أبدًا، استمرت الحركة حتى يومنا هذا، ومازالت عضوات الحركة يلتقين في الساحة كل يوم خميس ليس فقط كتعبير عن التضامن بل كتعبير احتجاجي ضد القمع في أي مكان في العالم، وكأنهن يقلن إن ما حدث في الأرجنتين يجب ألا يتكرر أبدًا، ليس هناك فقط بل وأيضًا في أي مكان آخر.

المغرب.. عدالة جزئية وتغاضي عن المحاسبة

شهدت فترة حكم الملك الحسن الثاني في المغرب (1961إلى1999م) والتي عرفت بسنوات الرصاص، انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان وبشكل خاص الإخفاء القسري. وأثمر ضغط عائلات الضحايا في سبيل الوصول إلى عدالة بالإضافة إلى ضغط المجتمع الدولي إلى إغلاق سجن “تازمامارت” وإطلاق سراح المخفيين فيه والذين بلغ عددهم 341 سجيناً، بالإضافة إلى الموافقة على برنامج تعويضات الضحايا.

Photo credit ABDELHAK SENNA/AFP via Getty Images

كان هدم السجن هو بادرة من نجل الملك السابق الملك محمد السادس، والذي صعد إلى الحكم بعد والده، وفي محاولته لإحداث قطيعة مع سنوات حكم والده أنشأ محمد السادس هيئة الإنصاف والمصالحة في 2003م، بعد مشاورات بين أجسام المجتمع المدني والقصر الرئاسي، ووكل للهيئة معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في فترة حكم الحسن الثاني.

كرست الهيئة عملها في التحقيق في حالات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والعنف الجنسي. وتوصلت الهيئة إلى حل 742 قضية إخفاء قسري وقدمت تعويضات مادية لـ 9779 ضحية، كما عقدت خلال مدة عملها سبع جلسات استماع علنية حية على التلفاز في ستة مناطق لإقرار الحقيقة التاريخية.

وبالرغم من ذلك كانت هناك انتقادات مختلفة لهيئة الإنصاف والمصالحة من قبل الفاعلين في مجال حقوق الإنسان، ابتداءاً من الإطار الزمني الذي خصصته للقضايا؛ حيثُ حصرت الفترة الزمنية للانتهاكات من لحظة حكم الحسن الثاني وحتى وفاته بينما طالب كثيرون بضرورة التقصي في الانتهاكات التي حدثت بعد 1999م، وتمثلت الانتقادات الأخرى في أن الهيئة لا تتمتع بصلاحيات قضائية وليس بإمكانها تسمية أي من الجناة، كما أنها لم تطالب بعزل بعض المسؤولين المتورطين من مناصبهم ولم تكشف عن المتورطين في الانتهاكات والذين ثبتت صلتهم بالانتهاكات وكان كل ذلك بدافع المحافظة على استقرار الحكومة.

والانتقاد الأبرز أن تقرير الهيئة لم يأت على ذكر منطقة الصحراء الغربية التي شهدت قمعاً كبيراً في تلك الفترة، وبدلاً من ذلك زارت الهيئة المنطقة لمدة 10 أيام فقط وألغت خطة عقد جلسة استماع عامة هناك.

ويمكن فهم غياب العدالة الجنائية من خلال استدعاء السياق الذي تكونت فيه هيئة الإنصاف والمصالحة، حيث أنها تكونت تحت ظل ذات النظام الذي كان مسئولاً عن الانتهاكات قيد التحقيق. وبالرغم من أن الهيئة وصت بمكافحة الإفلات من العقاب إلا أن المحاسبة عن تلك الجرائم كانت غائبة. لكن الأمر تخطى مجرد غياب المحاسبة، بل مُنع الضحايا من تسمية الجناة أثناء الإدلاء بشهادتهم. ومن ثم، إضافة لشعورهم بالأمان من المساءلة القانونية، أولئك الذين عَذبوا وأمروا بالقتل والاعتقال الجماعي حافظوا على مناصبهم في المجال العام.

تونس.. مسيرة متواصلة طلباً للعدالة

ما تزال عائلات شهداء الثورة التونسية متمسكة بمطالبها بعدما يقارب 11 عاماً من الثورة. وتتمثل أبرز المطالب في كشف الحقيقة والمحاسبة ومحاكمة الضالعين في قتل الثوار خلال الثورة، كما أن الأسر طالبت خلال السنوات الماضية بضرورة إصدار ونشر قائمة شهداء وجرحى الثورة بالجريدة الرسمية للدولة. ونتيجة لضغط متواصل والدخول في اعتصامات واضرابات فإنه قد تم نشر القائمة في أبريل الماضي في الجريدة الرسمية والتي توثق لعدد 129 شهيداً و634 من الجرحى.

وانطلقت شرارة الثورة التونسية بإضرام الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على مصادرة العربة التي كان يبيع فيها من قبل الشرطة، وخرج آلاف التونسيين في اليوم 18 ديسمبر 2010م رافضين أوضاع البطالة وغياب العدالة الاجتماعية والفساد داخل النظام الحاكم، وسقط العديد من القتلى والجرحى نتيجة العنف الذي استخدمته قوات الأمن ضد المتظاهرين. وأجبرت المظاهرات الرئيس زين العابدين بن علي على إقالة عدد من الوزراء، كان من بينهم وزير الداخلية، وتقديم وعود بالإصلاح، كما صرح بأنه لن يترشح لانتخابات الرئاسة 2014م لكن مدى الاحتجاجات توسع حتى وصل مباني الحكومة، وفي 14 يناير 2014م تنحى بن علي وغادر البلاد.

إن تجارب العدالة ومشاركة الضحايا وأسرهم تشهد تطوراً كبيراً والذي بدأ بأخذ أدواراً أكثر فاعلية في الثمانينات، كما أن نظام العدالة الجنائية الدولية يقر بأن الضحايا يمكن أن يسهموا في مسار عدالة أكثر وضوحاً من خلال إسماع أصواتهم وحماية مصالحهم. وتُمَكن مشاركة الضحايا من استعادة كرامتهم من خلال منحهم شعورا بالقوة والقدرة على التصرف. وبالمثل، إذا كانت المحاكمات ترمز إلى اعتراف المجتمع وإدانته لما عانى منه الناجون، فقد يشعر أولئك الذين يشاركون فيها بأنه تم الاعتراف بهم. وفي السياق السوداني فإنه يمكن الاستفادة من تجارب العدالة الانتقالية حول العالم واستلهام أدواتها وتقنياتها في سبيل تحقيق العدالة والإنصاف.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع