(عقد الجلاد).. صوت الحرية الذي لا يغيب عن محافل السلطة أحياناً

“حاجة آمنة كفاك صبر”، بتصرف طفيف في كلمات الأغنية الشهيرة، خاطب العضو المؤسس لفرقة عقد الجلاد الغنائية، شمت محمد نور، من على مسرح اعتصام القيادة العامة للجيش، الجمهور المحتشد، فرحاً، بانتهاء 3 عقود من الظلم والاستبداد. 

 دواعي تغيير حالة “حاجة آمنة” بالنسبة لنور، وهو أستاذ موسيقى بالجامعات السودانية، كان الحفل الاستثنائي الذي أحيته المجموعة؛ بمناسبة احتفال السودانيين في أمسية الحادي عشر من أبريل 2019م، بسقوط نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير.

 

على الرغم من حماسة نور في تلك الأمسية الثورية، واستمرار تبشير المجموعة لأكثر من ثلاثة عقود بوعود الثورة والتغيير، في ظل حكم النظام المخلوع الذي استولى على السلطة بعد سنوات معدودة من تأسيسها. إلا أن مسيرتها لم تخلُ من مشاركات في محافل السلطة نفسها التي كانت تناهضها بالموسيقى، وتتعنت في منحها تصديقات إقامة الحفلات، في أحيان كثيرة.

كان آخر تلك المشاركات المثيرة للجدل، هو إحيائها  حفلاً بمعرض الخرطوم الدولي في يناير الماضي، الأمر الذي أثار التساؤلات القديمة/الجديدة حول موقفها المتأرجح من السلطة عموماً. بينما كانت تغني فرقة عقد الجلاد ليلتها على مسرح المعرض، كانت حكومة الأمر الواقع من جهتها، تمطر منطقة بري المحيطة بالمعرض، بعبوات الغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية. 

 

وانتقادات الجمهور لموقف عقد الجلاد من السلطة، ليس هو الأزمة الوحيدة التي تحيط بإحدى أهم المجموعات الغنائية في البلاد اليوم، وهي تمر بأضعف حالاتها؛ في ظل مغادرة جميع أعضائها المؤسسين، وإيقاف غالبية الشعراء والملحنين الذين كتبوا للمجموعة أعمالهم منها، بأوامر قضائية.

المؤسس:

يرجع الفضل في تأسيس عقد الجلاد عام 1984م إلى الموسيقار عثمان محمد النو، الذي لمع نجمه في التأليف الموسيقي وكان من محترفي آلة (الغيتار) في مدينة ود مدني (ولاية الجزيرة) منذ المرحلة الثانوية التي درسها بمدرسة حنتوب، حيث قاد النو فرقتها الموسيقية إلى إحراز المركز الأول، في الدورة المدرسية للعام 1976م بمقطوعات موسيقية من تأليفه.

بعدما وجد النو تشجيعاً وانبهاراً من أساتذة الموسيقى الذين كانوا ضمن لجنة تحكيم الدورة المدرسية، التحق في العام التالي بقسم الموسيقى، بمعهد الموسيقى والمسرح بالخرطوم، كما عمل في تلك الفترة كعازف (غيتار) مع عدد من الفنانين. وفي نهاية الأعوام الدراسية الخمسة، نال مشروع تخرجه الذي كان لحن قصيدة: (بين الخليفة وأمونة بت حاج أحمد) للشاعر محمد طه القدال، إعجاب طيف واسع من أساتذة وطلاب المعهد، وتم تسجيله بأداء مجموعة من الفنانين في التلفزيون القومي. 

ومع ذلك، لم يُغر النو، تراكم الأعمال الملحنة لديه، بأن يوزعها على الفنانين، كغيره من الملحنين، حيث كانت تتملكه فكرة تكوين فرقة، فبدأ في جمع طلاب من المعهد وتدريبهم على أعماله يومياً، وكان عدد المجموعة يتذبذب في تلك الفترة بين الزيادة والنقصان.

البدايات:

كان الظهور التلفزيوني الأول لمجموعة عقد الجلاد عام 1988م، خلال برنامج (أنغام وإبداع) بالتلفزيون القومي، وكان قوامها آنذاك 5 مغنيين هم؛ أنور عبدالرحمن، شمت محمد نور، عوض الله بشير، منال بدرالدين، ومجاهد عمر. 

في تلك الحلقة، أوضح أستاذ الموسيقى بمعهد الموسيقى والمسرح، أزهري عبد القادر، أن ظهور مشروع فني كعقد الجلاد هو أمر طبيعي، حيث أن الغناء الجماعي في السودان يعتبر إرث قديم جداً بالرغم من تباين أشكاله في الثقافات والبيئات المختلفة، ودّعم عبدالقادر حديثه بضرب أمثلة بغناء الحقيبة، والإنشاد الديني، وأغاني العمل في الأسواق التي يتغنى بها العمال، وكذلك طقوس الزار.

وبالرغم من أن عقد الجلاد ولدت داخل معهد الموسيقى والمسرح، إلا أن  الموسيقي الأكاديمي، كمال يوسف، يرى أن عقد الجلاد خرجت من الشكل المعهود للأداء الكورالي الذي اشتهر به المعهد، حيث قال في إفادته لـ(بيم ريبورتس) ” تعتبر عقد الجلاد تجربة رائدة لما كان وقتها لشكل جديد للغناء الجماعي المنظم المدعوم بمعرفة علمية وأكاديمية، وإن كانت تشبه في ذلك الكورال، إلا أن اعتمادها على موسيقى الأصوات البشرية كان أكبر، وتنازلت كذلك عن الأوركسترا الضخمة التي تصاحب الكورال عادة.”



نجاح كبير

لاقت المجموعة نجاحاً كبيراً منذ انطلاقها، واحتشد في حفلاتها الجماهيرية أعداد كبيرة من المستمعين، خاصة في أوساط طلاب الجامعات والمثقفين الذين انجذبوا لطرح أعمال المجموعة للقضايا، الأمر الذي أشار عثمان النو في إحدى مقابلاته الإعلامية، أنه كان مقصوداً، حيث روى أنه أثناء وجوده بالمعهد كان يسكن بجوار الشاعر الراحل، محمد طه القدال، الذي كان يقرأ عليه أعماله. كما كان كثيراً ما يلتقي بشعراء مثل عماد الدين إبراهيم، ومحمد محمود الشيخ (محمد مدني)، الذين منحوه الذخيرة الأولى لأعماله اللحنية. يقول النو: “وجدت أنه أصبح لدي مجموعة كبيرة من القصائد، وبدأت في التلحين، وكنت حريصاً على الأعمال التي تناقش الأوضاع الاجتماعية والسياسية.”

ولكن هذا الحرص، وضع عقد الجلاد، تحت أعين نظام انقلاب الإنقاذ لاحقاً، والذي كان حديث العهد بالحكم عند بداية رواج المجموعة، فمنعت أجهزة الأمن المجموعة من أداء بعض الأعمال، وكذلك من إقامة الحفلات العامة عدة مرات، حتى وجدت المجموعة نفسها، في لحظة عجز تام، تناقش خيار الهجرة. 

وروى عضو المجموعة السابق، شمت محمد نور، في أحد حواراته التلفزيونية، أنهم شرعوا فعلياً في الهجرة إلى مصر في بداية التسعينات، ولكنهم فوجئوا بوجود أسمائهم في قائمة الممنوعين من السفر. ويشير نور إلى أنهم حاولوا مغادرة البلاد مرة أخرى عبر الطريق البري، إلا أن قوات الأمن اعتقلتهم في ولاية النيل الأبيض وهم في طريقهم لمغادرة البلاد عبر الحدود الغربية، ومع ذلك يرى نور أن كل هذا يعد ضريبة الرسالة التي حملتها المجموعة.

خيبة أمل:

“تسمرت عيناي وأنا أطالع الإعلان”، كانت هذه الكلمات التي عبر بها عضو عقد الجلاد السابق، أنور عبدالرحمن، عن اندهاشه وخيبة أمله عندما أعلنت المجموعة في نوفمبر 2017م إحيائها لحفل ضمن فعاليات المؤتمر السابع للاتحاد الوطني للشباب، المحسوب على حزب المؤتمر الوطني المحلول، استنكر عبدالرحمن ما وصفها بالمشاركة في “أنشطة ديكورية لتجميل هذا النظام”. ولعل عبدالرحمن لم يكن الصوت الرافض الوحيد داخل المجموعة، فقد غاب مغني المجموعة، وعضوها المؤسس، شمت محمد نور عن الحفل الجماهيري الذي تلى مشاركتها تلك، كما امتنعت المجموعة عن أداء الأعمال التي لحّنها، وكان تعليق عقد الجلاد على هذا الأمر، أن غياب نور وألحانه يتعلق بخلافات داخلية، لم يتم تفصيلها، ويجري حلها.

 

ورأى الكاتب والناقد السر السيد في إفادته لـ(بيم ريبورتس)، “عدم وجود أي ضرورات تتطلب تماهي عقد الجلاد مع أنظمة تعادي ما تدعيه المجموعة في خياراتها من أعمال، من قيم الحرية والعدالة والديموقراطية”. وأضاف أنه كان لهذا الأمر تداعيات سيئة على التماسك الداخلي للمجموعة، وقال” تسبب هذا الغياب للاتساق في انشقاقات وخلافات عديدة داخل عقد الجلاد”.

 

وبالرغم من مواقفها المثيرة للجدل أحياناً، تظل عقد الجلاد أحد أهم التجارب الفنية، التي آثرت أن تشهر فنها سلاحاً في مقاومة الاستبداد في أزمنة البلاد الأكثر قتامة.  

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع