هوية مفقودة.. كيف تتداعى مدينة الخرطوم تحت وطأة فشل سياسات التخطيط الحضري للحكومات المتعاقبة؟ 

“لا قرية تبدو بداوتها ولا بندر”، ينطبق إلى حد كبير قول الشاعر توفيق جبريل، على هوية وطابع العاصمة السودانية الخرطوم. وهي المدينة التي ظلت تعاني من غياب التخطيط الحضري الفعّال على مدى سنوات الحكم الوطني. 

 

إذ ما تزال آثار سوء الإدارة للحكومات الوطنية المتعاقبة، شاخصة للعيان فيها حتى اليوم. بناء على تداعيات ونتائج السياسات الفاشلة لكل حكومة على حدة، مروراً بنقاط التحول الفكرية والتاريخية، تكون الشكل الحضري لمدينة الخرطوم، آخذاً في الاعتبار جميع المظاهر الحضرية من نشاطات سياسية وروابط اجتماعية ومظاهر العمران والخدمات.

 

ومع أن أنظمة سياسية مختلفة بأيدلوجيات وسياسات متباينة عن بعضها البعض، تولت مقاليد الحكم في السودان، إلا أن الغالبية العظمى منها اشتركت في فشل سياسات التخطيط، وكان لابد أن يترتب على ذلك نتائج وخيمة تقاسيها المدينة، والسودان عامةً حتى هذا اليوم. 

الحكم التركي

بعد مرور بضعة سنين على إخضاع معظم مناطق السودان تحت سيطرة الاستعمار التركي- المصري (1821-1885م)، بدأت مدينة الخرطوم في السير نحو شكل حضري حديث تمظهر في عمرانها المتسارع، حيث اتسعت بشكل متسارع ونمط محدد. فتم تشييد جامع خورشيد الذي يعرف اليوم بجامع أرباب العقائد. وشيد خورشيد بك ثكنات الجهادية، كل ذلك أصبح دافعاً لأهالي المدينة لتشييد المنازل، حيث قدمت المساعدات بتوفير معدات البناء. تلون الطابع الطاغي على المدينة آنذاك بالطوب الأحمر الذي كان يصنع بمنطقة سوبا وينقل إلى الخرطوم.

كما تمت إضافة منشآت جديدة، وبني قصر الحكمدار ومبنى مديرية الخرطوم القديمة والمطبعة ومحكمة العموم و الأجزخانة. يصف المؤرخ محمد إبراهيم أبو سليم في كتابه “تاريخ الخرطوم”، الخرطوم في ذلك الوقت قائلا: “جمعت مدينة الخرطوم بين جمال الموقع الطبيعي ومحاسن النظام المدني والرونق الحضري”.

المهدية:

لم يحفل الحكم التركي – المصري كثيراً بمدينة بأمدرمان، فظلت خالية إلا من بعض سكانها القدامى حتى اندلاع الثورة المهدية. بعد تحرير الأنصار مدينة الخرطوم، أمر المهدي سكانها بإخلائها والانتقال لحي أمدرمان الصغير وقتها، بعد وفاته توسعت أمدرمان في عهد خليفته عبد الله التعايشي، حيث حلت منازل الطين والطوب الأحمر محل المنازل المبنية بالقش، وشيدت مباني عدة مثل بيت المال والسجن وبيت الأمانة، نهاية بقبة المهدي والسور حول المدينة.

الحكم الثنائي:

كانت مدينة الخرطوم منذ بداية الاستعمار الثنائي الانجليزي – المصري (1898-1955) محط اهتمام  بالنسبة للإداريين المستعمرين، وكانت خياراً مثاليا يدعم التوجه الاقتصادي لذلك النظام. 

 

إذ شهدت نموا سريعا ومكثفا وخططت لتصبح مدينة ذات طابع أوروبي يقيم فيها ضباط المستعمرين والطبقات العليا من القوميات الأخرى، لتصبح الخرطوم مدينة سياسية وتجارية وإدارية في ذات الوقت. وفي العام 1909 وصلت السكة الحديد إليها مما أتاح فرص عمل في مدينة جديدة وهي الخرطوم بحري، حيث أصبحت معقل المخازن الحكومية والورش والمنطقة الصناعية. 

فيما ظلت أمدرمان تتميز بطابع محلي واحتفظت بخصائصها التي سبقت الاستعمار. ليجاري الاستعمار مأربه، كان لزاما أن يضع خططا جادة نحو التنمية بتطوير تشريعات وخطط للزراعة والصناعة والتعليم والاتصالات، وكان لكل ذلك عاقبة مهددة للتنمية وهي الاهتمام بمناطق جغرافية بعينها دون الأخرى، ما انعكس سلبا على استقرار السودان وكان عاملا في مشكلة جنوب السودان فيما بعد.

القومية السودانية:

على مدى سنوات تبلور الشعور القومي، وتطورت القومية السودانية ملقية بآثارها على طابع المدينة الحضري، حيث أقيمت الصوالين الأدبية والفعاليات الاجتماعية وقد تأثرت الى حد ما بطابع انجليزي بحكم الأمر الواقع. وبعد استقلال السودان تولى السودانيون حكم بلادهم. 

 

ويمكن القول إن السياسيين السودانيين كانوا أكثر تقديرا للمؤسسات البرلمانية والإدارية، وبالرغم من ضعف التجربة البرلمانية في ذلك الوقت بسبب حداثة التجربة السياسية، إلا أن البرلمان كان يمثل رمزا للتحرر والنضج السياسي.

لاحقاً، تجلت تداعيات وضع خطط للتوسع في التعليم والاقتصاد وقطاع المواصلات. ولتحقيق ذلك، احتاجت حكومة السودان إلى مساعدات خارجية اقتصادية وتقنية، وكانت تلك أولى بوادر العلاقات السودانية الأمريكية، حيث بدأت المحادثات بين البلدين وصادق البرلمان على اتفاقية تقدم بموجبها الولايات المتحدة التسهيلات والمساعدات لحكومة السودان فيما يلي قطاع المواصلات.

 وبينما كان السودان يقاسي عدة أزمات، صدر أول قانون في مجال التخطيط العمراني في عام 1957م ليصب في ترقية وضبط وتخطيط المدن والقرى. حدد القانون مسؤوليات التخطيط على المستويين المركزي والإقليمي، وأصبح بموجب ذلك القانون وزير الحكومة المحلية مسؤولاً عن تخطيط القرى والمدن ويملك السلطة لإقامة لجنة استشارية فنية للتخطيط.

لاحقاً، عدل القانون بحيث اشتمل على موجهات ثابتة إدارية وفنية بشأن مشاريع التخطيط العمراني. احتفظت الخرطوم في ذلك الوقت بشئ من كل حقبة، وتوسعت بشكل كاف، لتشمل كل ذلك التنوع في وعاء واحد يسوقها بخطى بطيئة نحو فقدان هويتها الأصلية.

الخرطوم الشمولية:

بدأت مدينة الخرطوم، تستأنف تطور شكلها الحضري، مع كل سلطة جديدة في السودان، وكان العامل المشترك بين كل ذلك هو إهمال استدامة مشاريع وسياسات التخطيط الحضرية، علاوة على حصرها بمناطق دون أخرى في جميع أنحاء البلاد.

في فترة حكم الرئيس المخلوع، إبراهيم عبود، ظهرت بوادر للعناية بقطاع التخطيط وكانت تمثل أملا جديدا للمدينة، حيث صدر قانون تخطيط المدن والقرى لعام 1961م، وكانت سمته الرئيسية أنه منح الحكومة سلطة انتزاع الأراضي للمصلحة العامة، وتكونت لجان مستديمة وفنية متخصصة بالمجالات ذات الصلة بالتخطيط. وفي عام 1962م، وضعت “الخطة العشرية للتنمية الشاملة”؛ وهي أحد أنواع التخطيط الشامل وتعنى بخدمة جميع القطاعات، وجاء تصميمها على خلفية أن السودان يمتلك عائد محلي ضعيف ومستويات منخفضة من الإدخار والتنمية، لا سيما وأن السودان في ذلك الوقت اعتمد بشكل كامل على محصول القطن وحده. 

وقد وضعت شروط وأهداف لتلك الخطة، كان أبرزها التصديق على الخريطة الموجهة والقوانين المتعلقة بها لضمان استعمالات الأرض، وعمل خرائط مفصلة على المستوى المحلي لمدة خمس سنوات وبدء برنامج خاص في المدى الوسيط لتنفيذ الخطة. 

بطبيعة الحال، واجهت خطط نظام عبود عدة مشاكل وحوت بداخلها آفات أدت إلى فشل محتوم. 

ومع ذلك، لم يمر وقت طويل حتى استولى، الرئيس المخلوع، جعفر نميري، على مقاليد الحكم في البلاد، وقد كانت له محاولات أخرى بهذا الصدد، حيث بدأ خطة جديدة للتنمية حددت بسقف زمني يقدر ب 6 سنوات. بينها خطة موجهة للعاصمة الخرطوم وشمل البرنامج العمل على التخطيط الحضري وتجميل العاصمة القومية.

 

واقترحت الخطة توفير السكن لـ5.1 مليون شخص وتوفير مساحات شاسعة بنقل مطار الخرطوم والثكنات العسكرية، لكن الخطة لم تسر كما ينبغي وتعثر العمل بها لاحقاً، ووصلت أزمة السكن ذروتها حيث انتشر (السكن الاضطراري)، كما تدهورت الخدمات بشكل ملحوظ في فترة وجيزة.

سقط نظام نميري، وجاءت الحقبة الديمقراطية الثالثة، والتي سرعان ما أطاح بها انقلاب 30 يونيو 1989م، والذي تمددت في عهده مدينة الخرطوم دون أي تخطيط حضري واضح المعالم. 

وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أجاز المجلس التشريعي ومجلس الوزراء في عهد النظام المخلوع، في عام 2009 المخطط الهيكلي الاستراتيجي لولاية الخرطوم والذي تم إعداده بواسطة شركة مفيت الايطالية. تعتبر هذه الخطة هي الخامسة لولاية الخرطوم بعد خطة ماكلين 1912، دوكسيادس 1959، مفيت 1975 ودوكسيادس وعبدالمنعم مصطفى 1991. رغم أن هذه الخطط نفذت بنسبة ضعيفة، باستثناء خطة ماكلين التي نفذت بنسبة 100% . 

و اقترحت الخطة نقل الوزارات والمباني الحكومية من مركز الخرطوم، وتحويل مواقعها لمناطق سياحية وترفيهية. وفيما يخص مسألة الإسكان لم يشمل المخطط على مقترحات واضحة حول الإسكان قليل التكلفة والذي يعتبر الهم الأساسي للغالبية العظمى نسبة لتدني مستويات دخل الفرد بالسودان. كما لم يتطرق المخطط لقضية السكن غير الرسمي بالرغم من أن التقرير المقدم للمخطط أشار لفئة النازحين والنساء والأطفال على أنهم مجموعات مستهدفة. 

بعد سقوط النظام المخلوع في عام 2019م، و تشكيل الحكومة الانتقالية في السودان التقى والي الخرطوم بمسؤولي وزارة التخطيط العمراني، وطالب بتقرير مفصل يتضمن إنجازات الخطة والمعوقات التي واجهتها، والذي يعتبر اعتمادا ضمنيا للمخطط الذي لاقى جدلا واسعا حول مدى فعاليته لعملية التحول الحضري في المدينة.

تمظهر عجز الأنظمة السابقة في تطوير سياسات تخطيط تصب في مصلحة النهوض بالمدينة وبيئتها الحضرية. وتشير تجارب تلك الحكومات إلى الفشل الذريع في الوصول لصيغة تلبي احتياجات التنوع الحضري بين مدن السودان، وكان لكل ذلك الأثر البالغ في خلق تشوهات بالتخطيط الحضري لمدينة الخرطوم.

معضلات حضرية:

ترتب على فشل سياسات التخطيط نتائج أدت إلى التدني في مستوى التنمية والتباطؤ في تغيير الشكل الحضري، ما يعني جميع مظاهر الدولة الحضرية من نشاطاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، علاوة على تطور العمران و قطاع الخدمات كافة. 

تواجه الخرطوم مشكلة الإسكان منذ عقود، إلا أن المشكلة تزداد عمقا عام تلو الآخر. وتقف الآن مدينة الخرطوم في مواجهة معدلات مستمرة الارتفاع في زيادة السكن، إثر النزوح من الأرياف لأسباب مختلفة كانعدام الأمن والتأخر التنموي الكبير مقارنة بمدينة الخرطوم، وهو نتيجة متوقعة لتجاهل الحكومات المتعاقبة قضايا السلام والتنمية والعدالة الاجتماعية.

كما يواجه التخطيط والشكل الحضري مسألة الفقر التي لطالما لازمت السودان، ونتج عنها ظاهرة “السكن الاضطراري”، وهي ظاهرة تفرض نفسها لتلبي متطلبات الفقر في السودان. كما أنها نتيجة مباشرة لفشل خطط الإسكان على مدى السنوات السابقة. بالإضافة للارتفاع الجنوني في أسعار العقارات والأراضي ومواد البناء مقارنة بمستوى الدخل المعيشي في السودان.

كل تلك المشاكل، كانت عاملا رئيسيا في خلق تلك التشوهات، لم تأت تلك العوامل دفعة واحدة، بل تدرجت بين الحقب المختلفة و زاد من حدتها الانهيارات الاقتصادية والسياسية التي يعاني منها السودان بفعل الحكومات المتعاقبة التي تجاهلت الأمر أو كانت سببا في تعميق الأزمة.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع