هل تنهي محاكمة (البشير) بتهمة تقويض النظام الدستوري ظاهرة الانقلابات العسكرية في السودان؟

 مترجلاً من سيارة تويوتا (لاند كروزر) ومرتدياً عمامة وجلباب ناصعيّ البياض، ومتبادلاً الابتسامات مع طاقم الحراسة الذي رافقه من سجن كوبر إلى نيابة مكافحة الفساد بالخرطوم في السادس عشر من يونيو 2019، كان هذا مشهد أول مثول للرئيس المخلوع، عمر البشير، أمام جهة عدلية، بعد أشهر معدودة على اقتلاع نظامه عبر ثورة شعبية. قبل أن يمثل في الشهر نفسه أمام المحكمة في مواجهة التهم نفسها. 

رُّحل البشير يومها إلى النيابة لاستجوابه في تهم تتعلق بحيازة نقد أجنبي وفق المادة 5 من قانون الثراء الحرام والمشبوه لسنة 1989″، والثراء غير المشروع وفق المادة 6/1/ج، كانت قد وجهت له وبدأ التحقيق فيها منذ أبريل بواسطة النائب العام السابق، الوليد سيد أحمد محمود.

لاحقاً، وجهت إليه تهمة قتل المتظاهرين حيث بدأ التحقيق فيها في مايو قبل أن تضاف إليها في الشهر نفسه تهمة تقويض الدستور بالانقلاب على الشرعية في 30 يونيو 1989.  

وتفتح محاكمة (البشير) بتهمة تقويض النظام الدستوري، باب التساؤلات في أوساط الرأي العام السوداني والمراقبين، حول إمكانية تحقيق عدالة تنهي عهد الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية في السودان، خاصة وأن التاريخ السياسي طغى عليه حكم الجيش الذي قارب الـ55 عاماً منذ استقلال البلاد في 1956. ويعتقد خبراء، أن الانقلاب على الحكومة الانتقالية في 21 أكتوبر 2021، لم يعطل سير محاكمات شهداء ثورة ديسمبر 2018 وحسب، بل فتح فرصة لإلغاء أو تعطيل إجراءات محاكمة مدبري انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة (البشير). 

المحكمة الجنائية:

والبشير، ليس مطلوب داخلياً فقط، إذ تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية منذ 4 مارس 2009، بعد إصدار الدائرة التمهيدية بالمحكمة مذكرة توقيف بحقه بناء على اتهامات تشمل: ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، جرائم حرب والإبادة الجماعية في دارفور منذ عام 2003.

ورغم إعلان وزيرة الخارجية في الحكومة الانتقالية السابقة، مريم الصادق المهدي، في أغسطس 2021  عن صدور قرار رسمي بتسليم الرئيس المخلوع، إلا أن الخطوة تأخرت بعد انقلاب 25 أكتوبر.

محكمة الثراء الحرام

“لا توجد بيانات أو أدلة بخصوص تهمة الثراء الحرام الموجهة للبشير. وأي شخص في وظيفة البشير يكون هناك لديه نقد أجنبي”، رغم محاولة تبرير رئيس هيئة الدفاع عن البشير، في بلاغ الثراء المشبوه الذي فتحته النيابة ضده بعد العثور على 351 ألف دولار وأكثر من ستة ملايين يورو. فضلاً عن خمسة ملايين جنيه سوداني في منزله  لحظة اعتقاله. أصدرت المحكمة قراراً بإدانة البشير ومصادرة المبالغ المالية موضوع الدعوى. كما قضت بسجنه لـ 10 أعوام، لكن المحكمة، وفي الجلسة نفسها، أسقطت حكم السجن عنه لتجاوزه السبعين عاما وقررت إخضاعه للإقامة في دور الرعاية الاجتماعية لمدة عامين.

محاكمة وسط تحديات

وافقت النيابة على التحقيق مع البشير و27 آخرين من المدنيين والعسكريين المشاركين، بتهمة تقويض النظام الدستوري، في أعقاب قيام هيئة من كبار المحامين السودانيين على رأسهم علي محمود حسنين، وكمال الجزولي، ومحمد الحافظ بتقديم دعوى قضائية ضد تنظيم “الجبهة القومية الإسلامية” إلى النائب العام بتهمة الانقلاب على الشرعية، وتقويض النظام الدستوري وحل المؤسسات والنقابات في الدولة، في عام 1989، وبدأت المحكمة أولى جلساتها في 21 يوليو 2020.

واستندت الدعوى التي قدمها المحامون، إلى قوانين قديمة مجازة منذ عام 1983، لجهة أن القانون الجنائي المعمول به حالياً أدخل عليه تعديل دستوري من النظام المخلوع، إذ تم فتح بلاغ جنائي تحت المادة 96 من قانون العقوبات السوداني ضد البشير، وكافة المشاركين في الانقلاب.

وجاء على لسان المحامي علي محمود حسنين وقتها: “النائب العام  قبل عريضة الدعوى، وأحالها إلى وكيل نيابة جنايات الخرطوم شمال، للتحقيق فيها”.

تهمة الانقلاب لا تحتاج إلى بينة:

جريمة الانقلاب على السلطة الشرعية من الجرائم التي يمكن للنائب العام، ومن بعده المحكمة، أن تأخذ (علماً قضائياً) بوقوعها. والعلم القضائي بمعنى أنه لا يلزم النائب العام أو المحكمة الحصول على بينة لإثبات أن الانقلاب قد وقع”، يقول القاضي السابق والخبير القانوني سيف الدولة حمدنا الله، في مقال منشور.

ويضيف  حمدنا الله: “واقعة حدوث الانقلاب تدخل في العلم القضائي الذي لا تحتاج المحكمة بعده أكثر من نصف يوم لصياغة التهمة وتقديم البشير وأعوانه للمحاكمة مباشرة ويعقب ذلك صدور العقوبة”. 

ويواصل: “اتباع إجراء العلم القضائي، يمكن به تجاوز الخطأ الذي كان قد ارتكب في السابق بمحاكمة مدبري انقلاب مايو حيث ظلت المحكمة تستمع لنحو عام كامل للشهود حتى تُثبت هيئة الاتهام أن انقلاب مايو قد وقع”.

“النائب العام ما كان يلزمه من الأساس انتظار مُتطوعين مثل الأستاذ حسنين ومن معه من المحامين لأن يتقدموا إليه ببلاغ في مواجهة المجرم البشير بتهمة تقويض الدستور”، يضيف حمدنا الله. والصحيح، أن “تحريك الدعوى ضد البشير في هذه القضية وغيرها من القضايا ذات الطبيعة العمومية تقع ضمن واجبات وظيفته “النائب العام” التي تُوجِب عليه أن يقوم من تلقاء نفسه بتحريكها، ومن بينها قضية التحريض على قتل شهداء سبتمبر 2013، وكذلك شهداء بورتسودان وأمري وكجبار والعيلفون.

 كما كان على النائب العام، والحديث لحمدنا الله، أن يقوم من تلقاء نفسه (وقد مضت مدة كافية ليفعل ذلك) بتحريك قضايا الفساد الأخرى مثل قضية بيع سودانير والخطوط البحرية وممتلكات مشروع الجزيرة وبنك الثروة الحيوانية، وقضية التقاوي الفاسدة، وشراء القطار الصيني، وقضية أموال الأدوية.

تغيير القضاة:

إنني أعاني من ارتفاع ضغط الدم ونصحني الأطباء الابتعاد، عن التوتر”، في 22 ديسمبر 2020م، أعلن القاضي عصام الدين محمد إبراهيم أول رئيس لمحكمة مدبري انقلاب يونيو 1989 تنحيه بسبب وضعه الصحي.

فيما فضل القاضي أحمد علي أحمد في يوليو 2020م، التحدث بشفافية أثناء تقديمه طلب إعفاء من القضية  “خشية الانزلاق فيما تأباه العدالة” وفق ما قال. 

وفي خطوة مفاجئة، قرّرت السُّلطة القضائية بداية العام الحالي، إحالة قاضي محكمة مدبري انقلاب 30 يونيو. إذ كشفت مصادر غير رسمية عن تسلم رئيس هيئة محاكمة مدبري انقلاب 30 يونيو 1989، قاضي المحكمة العليا حسين الجاك الشيخ خطاب إحالته إلى التقاعد عن العمل بالسلطة القضائية لبلوغه السن القانونية.

وذكرت المصادر، أنّ القرار تسبّب بغياب القاضي المذكور عن الجلسة المعلنة، في يناير ما اضطر عضو هيئة المحكمة القاضي بمحكمة الاستئناف، الرشيد طيب الأسماء، لإعلان تعليق الجلسات لأسبوعين. 

وتواصلت الجلسات في بداية العام الحالي بعد تعيين القاضي عماد الجاك رئيسا جديدا لهيئة محكمة مدبري الانقلاب خلفا لحسين الجاك إلى جانب القاضيين محمد المعتز، والرشيد طيب الأسماء. لكن متابعين وخبراء قانونين تحدثو عن الضرر الذي أحدثه تغيير القضاة بشكل كبيير على سير المحاكمة.

اعتراف منقوص:

“بالمعطيات التي كانت قائمة في 1989، لو عاد التاريخ القهقهري، فسنقف نفس الموقف وسنقوم بالتغيير الذي حدث في 89”. رغم مخاطبة نائب الرئيس المخلوع، علي عثمان مجلس شورى “الحركة الإسلامية” في أحد اجتماعاته في 2013 والتي يظهر فيها متابهيا بالحركة الإسلامية ومشاركته في الانقلاب بالخطاب السابق في إحدى حلقات الفيلم الوثائقي الشهير الأسرار الكبرى لجماعة الأخوان الذي عرضته قناة العربية. 

وتسجيلات أخرى من مخاطبات جماهيرية وقف أمام القاضي متمسكا بعدم تخطيطه للانقلاب وتنفيذه قائلاً: “ليلة تنفيذ الانقلاب كنت بمنزلي ضاحية الرياض ولم أشارك في الانقلاب”، وذلك خلافاً للبشير الذي خرج بملامح لا تنم عن الأسف معلناً تحمله كافة المسؤولية عما تم في 1989م، وقال في خطوة مفاجئة يناير الماضي: “أتحمل كامل المسؤولية عما تم في 30 يونيو 1989، وأعلم أن الاعتراف هو سيد الأدلة”.

“لقد أخطأت المحكمة بالسماح للمتهم البشير في استغلال مرحلة الاستجواب وتحويله إلى منبر خطابي بالحديث خارج النطاق الذي شرع القانون من أجله الاستجواب. يعود حمدنا الله ويقول منتقدا طريقة استجواب البشير في المحكمة والسماح له بالحديث خارج النطاق الذي شرعه القانون: ويضيف: “كل ما جاء على لسان المتهم البشير أثناء استجوابه من حديث عن انجازات حكمه وعن الوضع المتردي للجيش وغيره يقع خارج نطاق الهدف الذي قصده القانون من مرحلة الاستجواب”.

العدالة تتطلب فصل محكمة البشير عن بقية المتهمين:

ويرى حمدنا الله، أن اللحاق بالعدالة الآن يقتضي أن تطلب هيئة الاتهام من المحكمة فصل محاكمة البشير عن بقية المتهمين بما يمكنها من سماع أقواله كشاهد وخضوعه للاستجواب الكامل بعد حلف اليمين، بخلاف ما جرى في مرحلة استجوابه كمتهم والذي تم دون حلف لليمين ودون أن يكون لأي من طرفي القضية الحق في توجيه الأسئلة.

ومع توالي الأحداث على مدى الأعوام الثلاثة الماضية وتأثر محاكمات البشير وقياداته بالأوضاع السياسية والقانونية في البلاد. لا تزال القضية الماثلة أمام القضاء السوداني تمثل تحدياً كبيراً له. خاصة وأنها ستكون سابقة في محاسبة العسكريين المنقلبين على الحكومات المنتخبة، آملين أن تنهي عهد تدخل العسكر في السلطة بسلاح الانقلاب.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع