(107) أعوام على تأسيس دار الوثائق.. هل تنقذ (الرقمنة) ما تبقى من أرشيف السودان المهمل؟

في منعطف جانبي هادئ متفرع من شارع السيد عبد الرحمن بوسط العاصمة السودانية الخرطوم، لكنه ليس بعيداً عن صخب السلطة ممثلاً في (القيادة العامة للجيش) شرقاً، والقصر الرئاسي شمالاً، يقع مبنى دار الوثائق الذي يحتضن أرشيف وتاريخ البلاد الحديث بكل تقلباته منذ العام 1916

وتعد دار الوثائق السودانية من أقدم المؤسسات التي تعمل على حفظ الوثائق والأرشيف في المنطقة الأفريقية والعربية، فهي تحل في المرتبة الثانية بعد نظيرتها المصرية. 

مثّل “حفظ الأوراق المالية والمستندات التي تخص الحكومة الاستعمارية”، الهدف الرئيسي لإنشاء دار الوثائق من قبل البريطانيين. لكنها اليوم وبعد مرور 107 أعوام على تأسيسها، تغص بنحو 50 مليون وثيقة تتضمن نحو مائتي مجموعة وثائقية مع مجموعة أخرى من الخرائط والمخطوطات والكتب، بالإضافة إلى وثائق نادرة تغطي بيانات محلية وأخرى خارجية.

الأرشفة والسلطة

مع أن الاطلاع على الوثائق التاريخية والحفاظ عليها، حق من حقوق المواطنين، لاسيما الباحثين، إلا أن التوجهات السياسية الشمولية لعدد من الحكومات السودانية المتعاقبة ظلت متحكمة في ما هو متاح لتوثيقه والاطلاع عليه، حيث حدت سياساتها في نهاية المطاف من الوصول لأرشيف البلاد الضخم. والمثال الأكثر وضوحاً في هذا السياق، هو القرار الجمهوري الذي أصدره الرئيس المخلوع، عمر البشير، في العام 2007، بتعيين السياسي كبشور كوكو، وهو أحد الموالين لنظام الإنقاذ، أميناً عاماً لدار الوثائق، رغم أنه غير متخصص، والاستغناء عن أمينها المتخصص، علي صالح كرار، بنقله إلى جامعة النيلين.

كان القرار سياسياً بامتياز، واستند على موازنات داخل حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذي سعى منذ استيلائه على السلطة في عام 1989، على السيطرة واختراق كل مؤسسات الدولة. الأمر الذي تكرر مرة أخرى، في يناير 2019، بتعيين ضياء الدين محمد عبد القادر، بديلاً لكبشور. حيث لم يكن لضياء أي خبرة في عمل الدار، بل انحصرت خبرته العملية في مشروع سد مروي وعدد من المؤسسات التابعة لنظام الإنقاذ. لتستمر دوامة التلاعب، بتاريخ السودان الموثق، بتعيين  ضباط من الجيش والشرطة في إدارة دار الوثائق القومية.

إهمال يقود إلى الفاجعة

لم تكن التعيينات السياسية هي التحدي الأوحد في تطور العمل في دار الوثائق وحسب، بل الإهمال الذي عرّض المحفوظات لأخطار الضياع والتلف. كما تعرضت الدار لعملية سرقة منظمة في مارس 2021، أسفرت عن فقدان جهازي حاسوب يحتويان على معلومات نادرة ومهمة تتعلق بملف (طوبوغرافيا السودان) وعلاقتها بالإنتاج الزراعي في السودان. بالإضافة إلى ملف محاكمات ثورة 1924 (اللواء الأبيض) بقيادة علي عبد اللطيف والأسر التي تعاملت مع الاستعمار، ومواقع المياه الجوفية خاصة في إقليمي كردفان ودارفور.

إضراب عن العمل

أدى تراكم الإهمال الحكومي في دار الوثائق وتردي بيئة العمل إلى إضراب منسوبيها من موظفين وعمال عن العمل في أكتوبر 2022، وكانت أبرز مطالب ذلك الإضراب الذي تجاوز الثلاثة أشهر، تحسين الأجور، حيث كانت تتراوح ما بين 10 – 70 ألف جنيه للشهر، علاوة على ظروف العمل السيئة والتي تمثل عائقاً أمام تطور العمل وأدائه في أحسن وجه.

محاولات مغايرة

مع تصاعد التقنية والأدوات والوسائل التي أتاحتها، فإن ما كانت تعول عليه السلطة، في كونها المصدر الوحيد للتوثيق، شهد هزات عنيفة، وذلك ببروز مؤسسات بتوجهات مغايرة، تعمل على خلق أرشيف لا تحده اشتراطات ورقابة السلطة، ويتبع وسائل تعتمد على رقمنة المواد من مختلف المجموعات العامة والخاصة.

ذاكرة السودان

ولدت فكرة مشروع “ذاكرة السودان” في العام 2013، لكنه تخلق في أرض الواقع وبدأ عمله في العام 2018، والذي تمثل في رقمنة الوثائق والمخطوطات القديمة والصور والأفلام والكتب النادرة والوثائق ومن ثم إتاحتها عبر الإنترنت، عبر بناء شراكات مختلفة مع مؤسسات وأفراد، ومن ضمنهم الجمعية السودانية لتوثيق المعرفة” (سوداك)، إلى جانب 500 مساهم بين باحث ومترجِم ومصوّر فوتوغرافي، وغيرهم من المتطوّعين أو الموظّفين السودانيين والأجانب.

درّب مشروع ذاكرة السودان أكثر من 20 موظفاً بدار الوثائق القوميّة بينهم متخصصين في تكنولوجيا المعلومات والمحفوظات، حيث قام ذلك الفريق بمسح أكثر من 30.000 وثيقة، وذلك بغرض إتاحتها للجمهور عبر الإنترنت.

يقوم مشروع (ذاكرة السودان) بدعم من المجلس الثقافي البريطاني بالسودان عبر صندوق حماية الثقافة، ويهدف المشروع إلى حفظ التراث الثقافي السوداني الثري وجعله متاحا للوصول عالميا. يقوم المشروع برقمنة العديد من المواد. سيتم اختيار المحتويات حسب تصنيف موضوعاتها مثال لذلك: الأزياء والملابس السودانية – الممارسات الثقافية السودانية – الفنون الأدائية – الموسيقى – اللغات – الأساطير والخرافات – الآثار القديمة – التاريخ الحديث والأحداث. 

كما يهدف مشروع “ذاكرة السودان” لحماية الموروث والممتلكات الثقافية السودانية المهددة بالتلف أو الضياع ويسعى من خلال ذلك لربط ودمج السودانيين أكثر بثقافتهم واطلاع العالم الخارجي على مدى ثراء وبداعة التراث الثقافي السوداني المتنوع. 

للتاريخ ارتباط وثيق بتشكيل الذاكرة الجمعية للشعوب، وكيف نقرأ الماضي في سبيل استشراف المستقبل، الأمر الذي يضع ضرورة كبرى للاهتمام بالأرشفة، والحفاظ على الدولة وتراثها التاريخي، وأرشيفها، وهو تاريخ مهم للأجيال القادمة. ومع التغيرات السياسية والاجتماعية التي يشهدها السودان خلال السنوات الخمس الأخيرة، واندلاع ثورة ديسمبر وما يرتبط بها من أحداث كثيرة، فإن دور التوثيق والأرشفة لهذه الأحداث هو مهمة جليلة يجب الإطلاع بها على أكمل وجه.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع