سياسات حكومية ترسل المزارعين إلى السجون، وتغيرات مناخية تعمق أزمة الغذاء في السودان

“زجت السلطات بعدد من المزارعين بسبب تخلفهم عن سداد ديون البنك الزراعي. خسرنا الكثير هذا العام واضطررنا لبيع القمح بنصف تكلفة إنتاجه، كما لم تفِ الدولة بشراء المحاصيل، لذلك بالتأكيد لن يتمكن أحد من سداد الدين”. يقول عضو اتحاد مشروع سندس الزراعي بالولاية الشمالية،مأمون الفكي، لـ(بيم ريبورتس).

 

لم يقف القطاع الزراعي بمعزل عن بقية القطاعات التي تأثرت بالتوجه الاقتصادي الحديث للسودان، حيث كان له نصيبُ متعاظم من الضغط الناجم عن السياسات التي أقرتها حكومة السودان الانتقالية، في فبراير 2021، بتحرير اقتصادي اقتضى رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء والسلع الاستهلاكية، بدواعي قطع الطريق أمام الفساد في بعض القطاعات وإنعاش بعضها . 

وبالنسبة للمزارعين، فإن التكاليف قد ارتفعت بشكل عام للمشاريع الزراعية، إلا أن الأسعار تتفاوت حسب أنظمة الري؛ وكان للمشاريع المروية بولايتي نهر النيل والشمالية التأثير الأعظم، نسبة لاعتمادها على مضخات الديزل، في المقابل كان التأثير أقل على المشاريع التي تعتمد على التوليد الكهربائي كمشروع الجزيرة.

الجدير بالذكر أن ارتفاع الأسعار كان له أثراً بالغاً في ارتفاع تكاليف النقل والتوزيع، علاوة على ارتفاع تكلفة مدخلات الزراعة من تهيئة للتربة وحصاد وعمالة.

سياسات تزداد شراسة

لم يتوقف الأمر، بالنسبة للمزارعين، على رفع الدعم المحروقات، فمع انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر 2021، بدا واضحاً أن حكومة الأمر الواقع ستنتهج ذات السياسات ولكن بصورة أشرس وأوسع، عبر فرض الضرائب على جميع القطاعات ورفع الدعم عن مزيد من السلع.

كان اتجاه وزارة المالية متوقعاً نسبة لتوقف المانحين الدوليين عن تمويلهم للسودان، فخسارة السودان للتعهدات المالية التي قدرت بأكثر من 4 مليارات دولار من دول وصناديق اقتصادية دولية كان لابد أن يقابل بحلول فورية، ولم تخف موزانة العام 2022 اعتمادها، على  الإيرادات الداخلية التي تمثلت في الضرائب وحدها  في سبيل تغطية عجزها المقدر بنحو 40%.  

احتجاجات وإغلاق

في يناير 2022، نفذت حكومة الأمر الواقع زيادة في تعرفة الكهرباء وصلت الى 600% وفور تنفيذ القرار طُبقت الزيادة مباشرة على استهلاك القطاع الزراعي.

أطلق هذا القرار شرارة الاحتجاجات في أوساط سكان المناطق التي تمثل فيها الزراعة عصب الحياة للمواطنين والوسيلة الوحيدة لكسب عيشهم، وبتنفيذ قرار مفاجئ في خضم الموسم الشتوي، أصبح المزارعون بين خيار إيقاف مشاريعهم التي لم تُهيأ لاستقبال هذه الزيادة أو الاحتجاج حتى إلغاء التعرفة الجديدة للكهرباء. حيث أغلقوا في 9 يناير طريق شريان الشمال القاري (الذي يربط بين السودان ومصر) وأُعِدت مذكرة قدمها المحتجون إلى والي الولاية، حيث حوت المذكرة مطالب بتقليل تعرفة الكهرباء إلى جانب مطالب أخرى تمس المزارعين بالمنطقة.

وعود مجهضة

أقرت السلطات بتجميد مؤقت في تعرفة الكهرباء لأصحاب المشاريع الزراعية، كما قدمت الكثير من الوعود لسكان المنطقة، بسبب أن إغلاق الطريق كان مكلفاً لحكومة الأمر الواقع التي تواجه في الأصل احتجاجات متفرقة في مناطق السودان المختلفة. وبالرغم من أن الحراك وجد تضامناً واسعاً من كافة أنحاء السودان، وكان له تأثيراً مباشراً على حكومة الأمر الواقع وأجهزتها، إلا أن الحكومة تنصلت عن تلك الوعود لاحقاً.

السجون في انتظارهم

 تواصلت سياسات رفع الدعم وفرض الجبايات والضرائب، كما استمر الارتفاع في تكاليف مدخلات الزراعة من تقاوٍ وأسمدة وجازولين طوال العامين المنصرمين، الأمر الذي أدخل المزارعين بمختلف قطاعاتهم الزراعية، في تعقيداتٍ عديدة ضاعفت العبء الاقتصادي الذي يعاني منه جميع مواطني السودان وقطاعاته.

وألقت السلطات، خلال الأشهر السابقة، القبض على عدد من المزارعين المعسرين والمتخلفين عن سداد قروض البنك الزراعي والجهات الزراعية الممولة، في الوقت الذي يرى فيه المزارعون أن الموسم الزراعي كان فاشلا ومكلفاً، نسبة لشح الأمطار في قطاع الزراعة المطرية، علاوة على ارتفاع تكاليف مدخلات الزراعة ذاتها.

ويوضح مأمون في هذا السياق قائلاً:” فوجئنا فور حصاد القمح،  بأنه يباع في السوق بنصف السعر المحدد للمزارعين من البنك الزراعي، ولاحقاً علمنا أن الدولة حصلت على منحة قمح خارجية أدت لانخفاض أسعاره”.

وكانت حكومة الأمر الواقع قد استقبلت في نوفمبر 2022 شحنة قمح بميناء بورتسودان، قُدرت بـ 52,521 طن، مقدمة من المملكة العربية السعودية.

ويضيف مأمون:”يعمل المزارعون وفق السعر الذي يحدده البنك الزراعي، والغالبية يعتمدون على نظام الاستدانة من البنك الزراعي لشراء مدخلات الزراعة، فيما تطمئنهم الوعود الحكومية بشراء المحاصيل. والآن، بعد انخفاض أسعار القمح إلى نصف التكلفة المبذولة للإنتاج، فإن المزارعين تعرضوا للخسارة، ولم تف الدولة بشراء المحاصيل وأصبح المزارعون يواجهون أزمة حصادهم الخاسر والعجز عن سداد ديون البنك الزراعي وانتهى الأمر ببعضهم في السجون”.

سياسات مغايرة :

وخلال الفترة 2012 -2021 أبدت حكومة السودان الانتقالية اهتماما واضحا بالقطاع الزراعي، و في الفترة التي سبقت انقلاب 25 اكتوبر شهد السودان أحد أنجح مواسم زراعة القمح منذ أعوام. 

في 8 مارس 2021 وجه رئيس وزراء حكومة السودان الانتقالية، عبد الله حمدوك، بزيادة سعر شوال القمح من المزارعين قائلا “ما يحكمنا في السياسة السعرية لمحصول القمح ليس فقط أن يكون السعر مجزياً، بل أن يكون محفزاً للإنتاج». وأضاف لذلك قررنا رفع السعر التأشيري لجوال القمح من 10000 جنيه إلى 13500 جنيه”.

وشهد موسم القمح 2021 إنتاجا غير مسبوق في محصول القمح حيث بلغت جملة المساحة المزروعة بالقمح هذا الموسم 510 آلاف فدان، وسط توقعات أن يغطي الإنتاج أكثر من 60 في المائة من احتياجات الاستهلاك الداخلي.

مهددات المناخ

تقدر ثلث مساحة السودان باعتبارها أراضٍ صالحة للزراعة، في حين يشكل الجزء المستغل للزراعة منها 25% فقط، وتهدد هذه المساحة المتواضعة، ونظيرتها غير المُستغلة آفة التغير المناخي، التي أصبحت من أهم القضايا الشاغلة لدول عدة في العالم. لكن وبرغم المخاطر التي في انتظاره لا تقع قضية تغير المناخ بين هموم السودان الحالية، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول مستقبل موارد البلاد الطبيعية، والتي تعتبر احتياطي محتمل قابل للتطوير في المستقبل، ضمن سردية إمكانية أن يصبح السودان سلة غذاء عالمية وفي أقل الفروض سلة إقليمية ولمواطنيه قبلاً.

يتمظهر التغير المناخي في أشكال عدة، يواجه السودان منها حالياً السيول والفيضانات، وفي مناطق أخرى متفرقة يواجه نقيضها من موجات جفاف وارتفاع مطرد في درجات الحرارة . 

على الرغم من خطورة قضايا التغير المناخي وتأثيره المباشر على الاقتصاد والوضع الاجتماعي في البلاد، إلا أنه في خضم صراع سياسي متواصل وانهيار اقتصادي، تدخل هذه القضية ضمن موضوعات الترف السياسي ويتغذى هذا المفهوم على الفكرة العامة بأن السودان إحدى الدول الأقل نموا ولا يصنف بين الدول الصناعية، ما يجعل نسبة الانبعاثات ضئيلة جدا مقارنة بدول أخرى، وفي حقيقة الأمر، فإن ذلك لا يلغي كون السودان متأثرا ضمن بقية الدول.

 

وتشير تقارير إلى أن مناطق شاسعة في السودان قد تصبح غير قابلة للحياة البشرية، و بالنسبة للزراعة في السودان، فيمكن التكهن بمدى الضرر الذي سيقع على القطاع إذا ما استمر التجاهل الرسمي للقضية.

وفي نوفمبر 2021 حذر تقرير صادر بعد انعقاد مؤتمر (كوب 26) المرتبط بالمناخ في غلاسكو أن 65 دولة متأثرة بتغير المناخ على رأسها السودان ستشهد انخفاضا في إجمالي ناتجها المحلي بمعدل 20% خلال العقود الثلاث المقبلة.

وخلال العقد الأخير شهدت مواسم الزراعة المطرية بالخريف تذبذباً في كميات الأمطار مما أربك عملية الزراعة، التي تعتمد بشكل كامل على توقع كميات الأمطار وتوقيت دخول الخريف الذي يتطلب استقراراً مناخياً لنجاحه.

انعدام الأمن الغذائي

شهد القطاع الزراعي خلال العقود الثلاثة الأخيرة تدميراً وفساداً طال كافة المشاريع الزراعية بالسودان، بما في ذلك فقدان أكبر المشاريع الزراعية في السودان (مشروع الجزيرة) لأكثر من 85% من شبكة ريّه التصميمية، وهو المشروع المعتمد في الأساس على الري الانسيابي. 

وتهدد تداعيات إنهيار القطاع الزراعي الأمن الغذائي في السودان، وأعلنت الأمم المتحدة في تحديثها الأخير أن عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في تزايد مستمر، وبحسب إحصاءاتها تشير الأمم المتحدة إلى أن 4 ملايين امرأة وطفل دون السن الخامسة يحتاجون إلى مساعدات إنقاذ وتغذية خلال العام 2023، كما تشير التقديرات إلى أن ربع سكان السودان (11.7 مليون شخص) يواجهون الجوع الحاد.

وبينما تتسع فجوة انعدام الأمن الغذائي، في المقابل يواجه القطاع الزراعي تدهوراً مستمراً، ليغلق بذلك الأبواب أمام التعويل عليه لسد الفجوة الغذائية بالبلاد. وحتى الآن لا يبدو أن حكومة الأمر الواقع تستشعر عواقب الانهيار الذي يعاني منه القطاع الزراعي، إذ ما تزال مستمرة في سياساتها بالتضييق على المزارعين، من خلال فرض الجبايات والزيادات المطردة في مدخلات إنتاجهم، الأمر الذي سيؤدي بالتأكيد إلى عزوف مزيد من المزارعين عن العمل بالزراعة لاستحالة قدرتهم على مجاراة هذه السياسات.

ويعتمد اقتصاد السودان بشكل كبير على القطاع الزراعي، حيث يسهم القطاع الزراعي بشقيه المروي والمطري بنحو 44% من إجمالي الناتج القومي بالبلاد.  وبحسب المنظمة العالمية للغذاء والزراعة (الفاو)، فإن عدد الأشخاص الذين يعملون بالزراعة يبلغ نحو 65% من سكان السودان.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع