عقب اشتعال الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023، توسّع نطاقُها إلى ولايات عديدة من البلاد، مما ساهم في تفاقم الوضع الإنساني. ومع محاولات «الدعم السريع» توسيع نطاق سيطرتها على المدن والولايات، وسعي الجيش السوداني إلى استعادة السيطرة عليها، اشتدت الأحوال سواءً على المواطنين الذين تأثرت حياتهم بتداعيات الحرب والمعارك بين الطرفين، وما يعقبها من حملات اعتقال وتعذيب وتنكيل بالمواطنين.
وفي يوليو 2024، أعلنت قوات الدعم السريع عن سيطرتها على مدينة «الدندر» الإستراتيجية الرابطة بين ولايتي سنار والقضارف. وتقع المدينة في ولاية سنار شرقي السودان على الجهة الغربية من نهر الدندر.
وتُعدّ بوابة للسياح الراغبين في زيارة «حديقة الدندر» الوطنية. وظلت المدينة تحت سيطرة قوات الدعم السريع حتى 23 أكتوبر 2024، يوم أعلن الجيش عن استعادته السيطرة على مدينة «الدندر» عقب معارك ضارية ضد قوات الدعم السريع. وبعد سيطرة الجيش على المدينة، تصاعدت أصوات تندد بأعمال عنف يُقال إنها ارتكبت ضد مواطنين من قبل الجيش السوداني والقوات المساندة له.
وفي السياق، تحدثت العديد من التقارير عن ارتكاب الجيش السوداني لمجازر جنوبي ولاية سنار، وقتل مئات المدنيين وسجن العشرات، تحت ذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع، وأنهم حواضن قبليّة لهذه القوات، في بلدتي «الدندر» و«السوكي»، وذلك وسط تكتم شديد وقطع شامل للاتصالات في المنطقة.
فيما نقلت بعض التقارير بيانًا عن «تجمع شباب الهوسا في السودان»، قال فيه إن «قوات تقاتل مع الجيش ارتكبت مجزرة بحق المدنيين في مدينة الدندر وقرى شرق سنار، حيث قتلت أكثر من 350 شخصًا، معظمهم من قبيلة الهوسا، بذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع».
منهجية التحقق
رصد فريق التحقيق العديد من مقاطع الفيديو التي توثق حالات تعذيب من مدينة «الدندر» عقب بسط الجيش سيطرته على المدينة، بالإضافة إلى بيانات بشأن حالات تعذيب وقتل قيل إنها وقعت على مواطنين من قبل أفراد من الجيش، مما دفع الفريق إلى توزيع منهجية العمل على التحقيق كالآتي:
- حفظ أكثر مقاطع الفيديو تداولًا بشأن الانتهاكات، وتحليلها.
- تحديد المواقع الجغرافية والتحقق منها عبر مطابقة الأدلة البصرية.
- تحليل صور الأشخاص المحتمل تورطهم في عمليات التعذيب لتحديد هويتهم.
واعتمد التحقيق كذلك، في مراحل التحليل المختلفة، على المصادر المفتوحة التي استقى منها الفريق المعلومات المرتبطة بالحادثة وتوقيتها والمعلومات التي انتشرت بشأنها.
توزيع حوادث الانتهاكات
توزعت مواقع حوادث العنف بين قسم الشرطة بوسط مدينة «الدندر» وقسم «شرطة الحياة البرية» وشملت الانتهاكات: الاعتقال والاحتجاز القسري والتعذيب.
الاعتقال: بعد أن بسط الجيش سيطرته على مدينة «الدندر»، تُداولت معلومات بشأن تنفيذ الجيش والقوات المساندة له اعتقالات في صفوف المواطنين بتهمة الانتماء إلى «الدعم السريع» أو معاونتها؛ إذ رصد فريق التحقيق مقاطع فيديو توثق الحادثة، نُشرت في الرابع والسادس من نوفمبر الماضي – مما يعني أنها حديثة ولم تُنشر قبل سيطرة الجيش على المنطقة.
- الفيديو الأول: نُشر في الرابع من نوفمبر 2024، بعنوان «الدندر تستباح بواسطة الجيش». وتضمن المقطع إساءات لفظية من أفراد يرتدون أزياء عسكرية للجيش السوداني ضد مجموعة من الأشخاص بملابس مدنيّة، وتوجّه إليهم تُهم بالتعاون مع «الدعم السريع»، وتُمارس عليهم ضغوط للاعتراف بأنهم «دعّامة» (أي يتبعون «الدعم السريع»). وتُظهر أدلة صوتية في الفيديو أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا محتجزين في مقر «شرطة الحياة البرية» بـ«الدندر»، كما يظهر في الفيديو شكل مميز لجدار البناية المهدمة خلف الأشخاص المحتجزين، والذي يُطابق، من خلال تحليل الفيديو، مشاهد لقسم «شرطة الحياة البرية»، مما يرجح أنه المكان الذي احتجز فيه هؤلاء المواطنين.

كما بحث فريق التحقيق في خرائط «جوجل» لتحديد موقع المبنى الظاهر في الفيديو والجدار المهدم خلف المواطنين الجالسين على الأرض فيما تتعامل معهم قوات ترتدي زي الجيش، وتبيّن أن مقطع الفيديو التقط في قسم «شرطة الحياة البرية» في «الدندر»، إذ لاحظ الفريق في صور القسم الجدار نفسه الذي ظهر في مقطع فيديو الانتهاكات، وفقًا للإحداثيات: (13°08’02″N 36°09’03″E).

تحصل فريق التحقيق أيضًا على فيديو آخر يُظهر مجموعة المعتقلين بملابس مدنية، فيما تعتدي عليهم قوة ترتدي زي القوات المسلحة السودانية لفظيًا، مع تقييدهم على الأرض وعصب أعينهم.

كتيبة «البراء بن مالك»
بدء وسم «الدندر تنتهك» في الانتشار على مواقع التواصل، مع محتوى يوثق حالات اعتقال لمواطنين وتعذيبهم. ونشر حساب على «فيسبوك»، في تمام الساعة 1:06 من صباح يوم الخميس الموافق 31 أكتوبر 2024، مقطع فيديو يظهر فيه شخص يرتدي بنطالًا من الزي الرسمي للقوات المسلحة مع قميص أسود، ويذكر خلال حديثه في المقطع كلمة «براؤون» في إشارة إلى كتيبة «البراء بن مالك» التي تقاتل إلى جانب الجيش السوداني.
ويبدأ المقطع بصورة شخص يجلس على الأرض ويتعرض مع آخرين –يرتدون جميعًا ملابس مدنية– للتعذيب والضرب من قبل أشخاص يرتدون زي القوات المسلحة السودانية.
وفي الثانية السادسة عشرة من الفيديو، تظهر في الخلفية بناية بطراز معماري مختلف. وبتحليل شكل البناية في الصورة رقم (4)، ومقارنته مع مقاطع فيديو أخرى من المنطقة نفسها، توصل فريق التحقيق إلى أنه مقر قسم الشرطة بوسط مدينة «الدندر» شمال غرب «سوق الدندر الكبير».

وحدد الفريق الموقع الجغرافي للمنطقة على خرائط «جوجل»، عبر البحث عن اسم القسم في الخرائط، كما هو موضح في الصورة رقم (5) – (13.335316,34.090586).

وفي الثانية السابعة والخمسين من مقطع الفيديو، تظهر مشاهد من داخل قسم الشرطة. ولمزيدٍ من التحقق قارن فريق التحقيق المشهد مع مقاطع فيديو أخرى، ولاحظ الأعمدة الداخلية المميِّزة للبناية، وتوصل إلى أنه «قسم شرطة الدندر»، كما يظهر في الصورتين (6) و(7). وداخل هذه البناية احتُجز عدد كبير من المواطنين، ووصفوا بـ«الجاهزية» في إشارة إلى أنهم ينتمون إلى قوات الدعم السريع.


الأدلة الصوتية
حوى الفيديو رقم (3) العديد من الأدلة الصوتية والمرئية منها:
- ظهور أشخاص بملابس مدنية يتعرضون للتعذيب.
- طلب هؤلاء الأشخاص العفو عنهم من القوة التي تعذّبهم دون أي استجابة، بل اتهامهم بمساندة «الدعم السريع» وإحضار «الرزيقات» (قبيلة ينتمي إليها بعض أفراد «الدعم السريع») إلى المنطقة.
- تصريح أحد المسلحين في الفيديو، خلال إهانة المحتجزين لفظيًا، بأنهم ينتمون إلى كتيبة «البراء بن مالك» المساندة للجيش السوداني.

التعاون مع «الدعم السريع»
برزت في الآونة الأخيرة، ظاهرة اعتقال المواطنين وتعذيبهم، وأحيانًا تصفيتهم بتهمة التعاون مع «الدعم السريع» أو التخابر لمصلحتها، مما فاقم معاناة كثير من المدنيين، خصوصًا أولئك الذين يقطنون في مناطق تحت سيطرة «الدعم السريع». وفي حالات الفوضى التي تصاحب الحرب يصعب إثبات هذه التهمة أو التأكد من صحتها، مما يزيد من احتمال أن يُعاقب كثيرٌ من الأبرياء على أساس تُهم يصعب –إن لم يكن يستحيل– إثباتها عليهم.
ولاحظ فريق التحقيق، على سبيل المثال، في مقطع الفيديو الثالث الذي يظهر فيه أشخاص يعرّفون أنفسهم بأنهم ينتمون إلى كتيبة «البراء بن مالك» فيما يحتجزون شخصًا على أساس أنه شيخٌ يعقد زيجات لعناصر «الدعم السريع»، ولا يُعرف طبيعة المخالفة القانونية التي قد تترتب على عقد مثل هذه الزيجات –إن صحت التهمة، مما يشير إلى أنّ تُهم كثيرة يصعب إثباتها أو تأكيد مخالفتها للقانون، تُتخذ ذرائع لتهديد المواطنين وانتهاك حقوقهم.
الجانب القانوني
تصاعدت الكثير من الأصوات المنددة بعمليات الاعتقال والاحتجاز التعسفي والتعذيب بحق المواطنين في «الدندر»، لا سيما في غياب أيّ سند قانوني لتلك الاعتقالات، إذ لم يُقدّم المحتجَزون في قسم «شرطة الدندر» أو في «شرطة الحياة البرية» إلى أيّ محاكم نظامية، ولم تكن هناك أيّ إجراءات قانونية لإثبات انتمائهم إلى قوات الدعم السريع، ومع ذلك تعرضوا للضرب والتعذيب. وفيما يلي توضيح للجوانب القانونية المتعلقة بعمليات التعذيب والاعتقال التعسفي خارج نطاق القانون.
تعريف الاحتجاز التعسفي
يُعرف الاحتجاز التعسفي بأنه توقيف أي شخص أو احتجازه تعسفيًا أو حرمانه من حريته من قبل أي جهة أمنية أو عسكرية بالمخالفة للقانون ودون امتثال للمعايير الدولية الضامنة للعدالة الإجرائية، بما في ذلك مدة الاحتجاز ومكانه وجهة الاحتجاز وسلامة إجراءات التوقيف والاحتجاز وتمتع المحتجز بحق التواصل مع محاميه وأسرته وحقه في معرفة سبب الاحتجاز وحقه في معرفة التهمة رسميًا، بالإضافة إلى حقه في الدفاع القانوني وبقائه تحت سلطة القضاء الطبيعي.
وتنص المادة التاسعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه «لا يجوز إخضاع أحد للاعتقال التعسفي أو حجزه أو نفيه»، فيما تنص الفقرة الأولى من المادة التاسعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن «لكل فرد الحق في الحرية والأمان على شخصه. لا يجوز إخضاع أحد للقبض أو الاحتجاز التعسفي. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ووفقًا للإجراءات التي ينص عليها القانون».
ومن هنا يتضح أن الانتهاكات وعمليات الاعتقال التي نفذتها قوات ترتدي زي القوات المسلحة السودانية وعرفت نفسها بأنها تتبع للجيش السوداني، في منطقة «الدندر»، هي عمليات خارج نطاق القانون، إذ لم يُعرض الذين اعتقلوا على محكمة نظامية ولم يُعاملوا وفقًا للإجراءات المنصوص عليها في القانون.
ووفقًا لما سبق، يمكننا القول إن أفعال القوات المحسوبة على الجيش السوداني، من احتجاز قسري وتعذيب، تُخالف القانون الدولي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومع محدودية المعلومات الواردة من المنطقة وغياب المصادر الموثوقة، لم يتمكن فريق التحقيق من الوصول إلى معلومات بشأن مصير الأشخاص المحتجزين، وما إن أفرج عنهم أم ما زالوا قيد الاحتجاز.