22 مارس 2025 – على مدى نحو عامين لم يطلق قطار نيالا صافرته التي بدأت انطلاقتها الأولى في بدايات ستينات القرن الماضي، ليمثل انقطاع الصافرة، مؤشرًا لانقطاع الحياة والحكايات التي تدور في مسافة تتجاوز الألف كيلومتر مربع، في مواطن كثيرة يمر بها القطار في رحلته إلى العاصمة السودانية الخرطوم.
كان كل ذلك، على رأسه ذاكرة القطار المنقطعة، نذيرًا، بأن نيالا البحير خلف الجبيل، لن تعود كما كانت، لتدخل في دورة حرب مدمرة في الفترة من أبريل إلى أكتوبر 2023 لتفرض قوات الدعم السريع سيطرتها عليها بعد استيلائها على قيادة الجيش في المدينة.
منذها حاولت قوات الدعم السريع إدارة المدينة الاستراتيجية بما في ذلك إنشاء إدارة مدينة لتطبيع الحياة فيها، لكن لغة السلاح والفوضى كانت أكثر قوة لتنزلق في أتون عالم فوضوي شيدته العصابات المسلحة والسيولة الأمنية على عجل، ما حول المدينة والتي تعد من أكبر مدن البلاد، إلى منطقة غير تلك التي عرفها أهلها على مدى عقود من الزمن.
لتصبح خريطة الحياة فيها تتمثل في نهب المواطنين في الطرقات والأسواق وسط أحياء مهجورة وسلاح في كل مكان، وبخلاف ذلك تشهد نيالا مشاكل معقدة في القطاعات الخدمية على رأسها القطاع الصحي. كما تعاني المدينة من ضربات سلاح الجو التابع للجيش السوداني.
«الوضع الصحي في نيالا قاس.. ارتفعت رسوم الخدمات الصحية المقدمة، مثل عمليات الولادة والعمليات القيصرية والتي وصلت من 350 ألف جنيه سوداني إلى 600 ألف جنيه سوداني»، يقول مصدر من نيالا لـ«بيم ريبورتس».
ويضيف «أما مقابلة الطبيب تكلف 15 ألف جنيه في المستشفيات الخاصة، بينما تكلف 5 آلاف جنيه في المستشفى التعليمي».
ويشير إلى أن كل المستشفيات العاملة في هي مستشفيات خاصة، موضحًا أن المستشفى الوحيد الذي يعمل بصورة عمومية هو مستشفى نيالا العام، والذي بدأ عمله قبل سنة، عبر رعاية منظمة أطباء بلا حدود، بالإضافة إلى تسيير عمل المرافق الصحية من خلال الرسوم المحصلة من الخدمات.
معيشيًا، يقول المصدر أن الوضع المعيشي في المدينة يشهد استقرارًا وصفه بـ النسبي في أسعار السلع الأساسية، بعد ارتفاعها بشكلٍ كبير في فترة الخريف الماضي نسبة لصعوبة الحركة وتدفق السلع والبضائع. لكن من جانب آخر، أشار أحد مواطني نيالا، إلى أن السلع شهدت ارتفاعًا خلال الأيام القليلة السابقة لشهر رمضان.
بيانات تُوضح آخر تحديثات أسعار السلع:
البند | السعر بالجنيه السوداني |
جوال السكر زنة 50 كيلو | 175 ألف |
ملوة البصل | 4 ألف |
ملوة التبلدي | 10 ألف |
كيلو العدس | 6 ألف |
كيلو لحم البقر | 7.5 ألف |
كيلو لحم الضأن | 11 ألف |
كيلو لبن البدرة | 15 ألف |
جوال الفحم | 12 ألف |
برميل المياه | 3 ألف |
أوضاع مأساوية في مخيم كلمة
تشهد مخيمات النازحين في ولاية جنوب دارفور وعلى رأسها مخيم كلمة شرقس مدينة نيالا أوضاعًا إنسانية كارثية، حيث يواجه النازحون خطر الموت جوعًا بسبب نقص حاد في الغذاء وانهيار سبل العيش.
وأدت الحرب المستمرة إلى توقف توزيع حصص الغذاء التي كان يقدمها برنامج الأغذية العالمي، كما توقفت مهن القطاع غير الرسمي التي كانت تشكل مصدر دخل أساسي للنازحين لتغطية احتياجاتهم اليومية.
ويُعتبر مخيم “كلمة” من أكبر مخيمات النزوح في المنطقة، حيث تزايدت أعداد النازحين بشكل كبير منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023. ومع سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة نيالا في أكتوبر 2023، أصبحت المدينة والمخيمات المحيطة بها تعاني من عزلة شبه كاملة، مما حال دون وصول المساعدات الإنسانية الضرورية.
الوضع خارج العاصمة نيالا
يقول الصحفي مصعب محمد، إن الأوضاع المعيشية في نيالا أفضل من الأوضاع الأمنية والصحية بكثير. لكن الوضع خارج نيالا وفي أريافها ومخيمات النزوح يبدو أكثر صعوبة وقسوة، فمع التوغل من مدينة نيالا شمالاً، يختلف الوضع بالكامل في محلية ميرشنج وقراها التي تشكلت إثر موجات النزوح الكبيرة إبان الحرب في دارفور في العام 2003.
وتعاني المنطقة من تدهورٍ حاد في القطاع الصحي من قبل الحرب الجارية، ليزيد الوضع من صعوبة الحال ويضاعف ما تعيشه المنطقة. ومع استمرار النزاع المسلح وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، أصبحت الظروف الصحية أكثر صعوبة، مما ينذر بكارثة صحية وبيئية قد تهدد حياة المئات من المواطنين.
وتسببت الحرب في انقطاع الإمداد الدوائي عن المنطقة، مما ترك معظم الصيدليات والمرافق الصحية فارغة، بدون أدوية أو مستلزمات طبية. حتى القليل المتبقي من الأدوية المتوفرة أصبح باهظ الثمن، بحيث لم يعد في إمكان معظم سكان المنطقة شراؤه.
وقال مواطن تحدث لـ”بيم ريبورتس” من محلية مرشنج إن ” الأزمة الصحية جاءت في وقت حرج، حيث تزامنت مع موسم الخريف، الذي يشهد انتشار الأمراض الطفيلية والمعدية مثل الملاريا والإسهالات المائية، مما عقد الوضع الصحي الهش في المنطقة”.
وأثرت الحرب على قرى شمال ولاية جنوب دارفور بشكلٍ كبير، خاصةً فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والأمنية. فمع اعتماد القرى على الزراعة بشكلٍ أساسي، إلا أن الوضع الأمني حد بصورة كبيرة من حركة الناس في الأراضي الزراعية.
ويوضح المواطن أن الانتهاكات التي يتعرض لها مواطنو القرى تتفاوت من الضرب والنهب، إلى اغتصاب النساء، الأمر الذي جعل من المنطقة فضاء معزولًا، وأصبح الناس غير قادرين على ممارسة أنشطتهم الاقتصادية اليومية.
سيطرة الدعم السريع وتصاعد العنف
شهدت ولاية جنوب دارفور، وخاصة مدينة نيالا، تصاعدًا حادًا في العنف منذ أن سيطرت قوات الدعم السريع على المدينة في أكتوبر 2023، وذلك بعد انسحاب الجيش السوداني من المدينة.
وقد سبق ذلك اشتباكات عنيفة دارت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أغسطس 2023، أسفرت عن مقتل 137 شخصًا، بينهم 54 طفلًا و47 امرأة، ونزوح آلاف الأهالي نحو محليات تلس، قريضة، ورهيد البردي، بالإضافة إلى ولاية شمال دارفور.
وفي ديسمبر 2023، عادت نيالا إلى صدارة الأحداث العسكرية بعد أن شن الطيران الحربي التابع للجيش السوداني غارات جوية مكثفة استهدفت مقر قيادة الفرقة 16 مشاة وعددًا من الأحياء الشرقية للمدينة. أدى القصف إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بين المدنيين، وتدمير أجزاء كبيرة من البنية التحتية، مما تسبب في حالة من الهلع الجماعي وتهجير آلاف الأسر.
أما في المناطق الريفية شمال ولاية جنوب دارفور، فقد أثرت الحرب بشكل كبير على الحياة اليومية للسكان الذين يعتمدون بشكل أساسي على الزراعة. إلا أن تدهور الأوضاع الأمنية حد من حركة المواطنين في الأراضي الزراعية، وتعرض الكثيرون لانتهاكات خطيرة تتراوح بين الضرب والنهب وصولًا إلى الاغتصاب، مما جعل المنطقة معزولة وغير قادرة على ممارسة أنشطتها الاقتصادية المعتادة.
هذه التطورات جعلت جنوب دارفور واحدة من أكثر المناطق تأثرًا بالصراع الدائر، حيث يعاني السكان من ويلات الحرب التي طالت كل جوانب حياتهم، بدءًا من انهيار الخدمات الصحية والتعليمية، وصولًا إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية، مما يضع المنطقة على حافة كارثة إنسانية كبرى.