ميلاد جديد للخرطوم بعد نحو عامين من انزلاقها في أتون حرب مدن مدمرة

كأن العالم ولد لتوه اليوم في الخرطوم عاصمة السودان بالنسبة لملايين السودانيين، بعد نحو عامين، من حرب مدن دامية بين الجيش والدعم السريع فقد فيها الآلاف أرواحهم ودُمرت أجزاء كبيرة من المدينة التاريخية والتي بنيت على مدى مئتي عام في نسختها الحديثة.  

كان على الملايين من سكان الخرطوم بدايةً من صباح السبت الخامس عشر من أبريل 2023 إحدى أكثر اللحظات قسوة في تاريخها الحديث، الانتظار حتى 26 مارس 2025 ليضع ذلك اليوم حدًا لأبشع كوابيسهم غير المنتظرة على الإطلاق.

منذ ذلك السبت البعيد وقد تغيرت الحياة في الخرطوم تحت وطأة الصراع والذي استخدمت فيه كافة أنواع الأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية، يومًا بعد يوم، ليفر معظم سكانها وتبقى قلة من أولئك الملايين الذين كانوا شهودًا على حربٍ أحرقت القلوب قبل غاباتها الإسمنتية.

في 26 سبتمبر 2024  بدأت إرهاصات تغُّير المعادلة العسكرية لصالح الجيش عوضًا عن الدعم السريع عندما عبرت قوات الأول الجسور النيلية إلى مدينتي الخرطوم وبحري قادمة من أم درمان، قبل أن تصل إلى أوجها في الصباح الباكر من يوم الأربعاء 26 مارس 2025 بإعلان الجيش سيطرته على كامل المدينة عبر اجتياح بري من داخلها وخارجها. لا لتصبح الخرطوم وحدها خالية من الدعم السريع، وإنما ولايتي النيل الأبيض والجزيرة، أيضًا، ما عدا بعض الجيوب للدعم السريع في أم درمان والخرطوم. 

ومنذ مساء الثلاثاء بدأ الجيش في إعلان بدء سيطرته على مناطق استراتيجية في شرق الخرطوم لتكتمل عمليته العسكرية البرية واسعة النطاق بالسيطرة على كامل أحياء المدينة، وسط هروب جماعي لقوات الدعم السريع نحو جسر خزان جبل الأولياء في أقصى الجنوب الغربي للخرطوم. 

لكنه بطبيعة الحال لم يكن منفذًا منجيًا لقوات الدعم السريع حيث كانت قوات درع السودان المتحالفة مع الجيش، بالإضافة إلى قوات من جهاز المخابرات العامة في طريقها إلى اقتحام الخرطوم من تلك الجهة. وبالفعل، تمكنت خلال من الوصول إلى جبل الأولياء والسيطرة على معسكر طيبة التابع لقوات الدعم السريع وكامل منطقة جبل الأولياء العسكرية بما في ذلك قاعدة النجومي الجوية، بالإضافة إلى استعادة معسكر الاحتياطي المركزي، والتصنيع الحربي جنوب الخرطوم. 

وبث الجيش السوداني مقطعًا مصورًا في حساباته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر المئات من جنود الدعم السريع وهم يعبرون جسر خزان جبل الأولياء سيرًا على أقدامهم، بالإضافة إلى بعض المركبات، كما تظهر آثار حريق على الضفة الغربية  للجسر. 

كذلك أظهرت صور ومقاطع فيديو فرار قوات الدعم السريع وترك عشرات المركبات مصطفة على مقربة من الجسر محملة بأغراض مدنية.

وفي يوم تغيّرت فيه موازين القِوى العسكرية، لم ينتظر قائد الجيش السوداني، عبدالفتاح البرهان، كثيرًا، حيث هبطت طائرته في مدرج مطار الخرطوم للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب ليتوجه من المطار على عجالة إلى القصر الرئاسي معلنًا «تحرير الخرطوم». 

وقال الناطق الرسمي باسم الجيش، نبيل عبدالله، في بيان إن البرهان تفقد قواته في مطار الخرطوم قبل أن يزور القصر الجمهوري، مشيرًا إلى أن طائرته هي أول رحلة يستقبلها المطار منذ اندلاع الحرب.

ومع كل هذا التراجع العسكري لها، لم تعلق الدعم السريع من جهتها، على هروب قواتها من الخرطوم تحت ضغط نيران الجيش على الفور، لكنها اليوم قالت في بيان إن قواتها لم تخسر أي معركة – دون أن تشير إلى الخرطوم – وإنما أعادت تموضعها وانفتاحها على جبهات القتال بما يضمن تحقيق أهدافها العسكرية. 

وفي أقصى الجنوب الغربي، أعلنت قوات درع السودان عن سيطرتها على معسكر طيبة أكبر معسكرات الدعم السريع بالخرطوم، ونشرت مقطع فيديو لقائدها، أبو عاقلة كيكل، وهو  يتجول في محيط المعسكر. وقال كيكل: «طيبة الكلاكلة جبل أولياء جميعها تحت سيطرة الجيش».

من جانبه، قال قائد الجيش من داخل القصر الرئاسي «الخرطوم الآن حرة.. انتهت.. الخرطوم حرة».

استقبال عاطفي من سكان الخرطوم للجيش

في المقابل، كان استقبال سكان أحياء الخرطوم للجيش بعد نحو عامين، عاطفيًا للغاية، تصدرته الزغاريد والدموع  والهتافات.  

وبدايةً من صباح يوم الجمعة الماضي بدأ الجيش في فرض سيطرته على وسط العاصمة السودانية الخرطوم بما في ذلك القصر الرئاسي ومركز المدينة الحيوي، قبل أن يكملها اليوم بالسيطرة على كامل الخرطوم بما في مطار الخرطوم الدولي.

والأربعاء ظهر مواطنون في أحياء بري والجريف غرب والصحافة والنزهة والكلاكلة شرقي وجنوبي الخرطوم في مقاطع فيديو مصورة وهم يحتفلون بسيطرة الجيش على المنطقة.

«مافي بيان كلو في الميدان»

لجان المقاومة في أحياء الخرطوم المختلفة أعلنت عن سيطرة الجيش على مناطقها، وقالت لجان أحياء البراري الأربعاء إن القوات المسلحة السودانية داخل أراضي البراري والزغاريد تملأ الشوارع، بينما قالت لجان مقاومة الديوم الشرقية: «مافي بيان كلو في الميدان».

بينما قال تجمع ثوار الصحافة إن المنطقة خرجت عن بكرة أبيها لاستقبال قائد سلاح المدرعات، اللواء نصر الدين عبدالفتاح الذي كان حضورًا مع القوات التي مشطت شوارع الصحافة.

وفي الكلاكلة جنوبي الخرطوم قالت لجان مقاومة الكلاكلة القبة إنها «تحيي كل الذين لم يستطيعوا مغادرة ديارهم وصمدوا واستبسلوا في ظل طغيان ـ الجنجويد ـ وجبروتهم وكل من كان ينادي من قبل 4 سنين بـ (الجنجويد ينحل ومافي ميليشيا بتحكم دولة)».

 وأضافت: «ونحيي كل الذين شاركوا من أبنائنا بمعسكرات القوات المسلحة لحماية البلاد من العدوان الخارجي والداخلي».

أيضاً في جنوب العاصمة بث أفراد من الجيش مقاطع فيديو من كوبري الصينية المركزي وهي من أكبر مراكز الثقل العسكري للدعم السريع.

توترات سبقت اندلاع الحرب

وفي 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وذلك بعد توترات بين الطرفين استمرت لأسابيع أبرزها فشل الاتفاق على دمج الدعم السريع خلال ورشة الإصلاح الأمني والعكسري والتي عقدت في قاعة الصداقة بالخرطوم في مارس 2023. 

كما كان وصول مئات المركبات العسكرية التابعة للدعم السريع إلى محيط مطار مروي وقاعدة مروي الجوية في يوم الأربعاء 12 أبريل 2023 العلامة الأبرز لتصاعد التوترات إلى درجة غير مسبوقة، أكدها بيان للجيش في اليوم التالي، محذرًا من احتمالية اندلاع حرب. 

وفي يوم الخميس نفسه وصلت عشرت المدرعات التابعة للدعم السريع إلى الخرطوم قادمة من قاعدة الزرق بولاية شمال دارفور، بينما مثل يوم الجمعة اللحظة قبل الأخيرة لاندلاع الحرب في صباح السبت 15 أبريل في قلب العاصمة السودانية الخرطوم والتي تغيرت منذها. 

وفي صباح 15 أبريل 2023 سيطرت الدعم السريع على مطار الخرطوم الدولي والقصر الرئاسي وكافة الوزارات والمرافق الاستراتيجية بوسط العاصمة.

وباستعادة الجيش السوداني الخرطوم ما عدا بعض الجيوب في أم درمان وفي الخرطوم نفسها التي يجري فيها الجيش عمليات تمشيط واسعة، يكون قد تبقى للدعم السريع إقليم دارفور ما عدا أجزاء من شمال دارفور بما في ذلك عاصمتها الفاشر وأجزاء كذلك من شمال وجنوب وغرب كردفان والنيل الأزرق. 

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع