تقترب الحرب في السودان من إكمال عامها الثاني في الوقت الذي تواصل فيه حملات التضليل والدعاية الحربية نشاطها الرامي إلى خلق حالة من الضبابية في الأفق العام، ونشر محتوى يتوافق مع أهدافها في جو ملغم بالمعلومات المضللة، مما يوسع نطاق انتشاره ويعزز قابلية تصديقه. ومنذ ديسمبر 2024، شهد السودان العديد من الأحداث السياسية والعسكرية المهمة والمؤثرة، فيما نشط فاعلون في حملات لنشر الشائعات والمعلومات المضللة، بما يخدم أهدافهم السياسية، مستغلين التطورات السياسية والميدانية في الحرب الدائرة بين الجيش السوداني و«الدعم السريع».
يستعرض «مرصد بيم» في هذا التقرير أبرز أشكال التضليل خلال الأشهر الثلاثة الماضية –من ديسمبر 2024 حتى فبراير 2025– ويبيّن كلَّ شكلٍ على حدة، مع ذكر أمثلة على تلك الأشكال من التحقيقات التي أجراها المرصد، كما يشرح التقرير شبكات السلوك الزائف المنسق التي نشطت خلال الفترة الماضية.
الفاعلون في حملات التضليل:
أشارت الدراسات والتقارير التي عمل عليها «مرصد بيم» إلى ضلوع جهات داخلية وخارجية، بفعالية، في عمليات التضليل في الفضاء الرقمي السوداني. وحددت الدراسات الفاعلين الداخليين في أربع فئات، وهي: «جهات داعمة للدعم السريع، وجهات داعمة للجيش وجهاز المخابرات العامة، وجهات ذات توجه إسلامي، وجهات تناهض الحكم العسكري». فيما أشارت الدراسة إلى أنّ الفاعلين الأجانب في الفضاء الرقمي السوداني، هم: «روسيا والإمارات ومصر وإثيوبيا». وتعمل جميع هذه القوى على نشر معلومات زائفة ومضللة بشأن الأوضاع في السودان.
1. نشر معلومات مضللة بشأن الجيش ووضعه الميداني:
اندلع الصراع المسلح في السودان وانطلقت معه حملات التضليل الداعمة أو المستهدفة لأحد طرفي النزاع. وظهرت حملات تضليل ممنهجة تستهدف الجيش السوداني بوصفه أحد طرفي النزاع وأحد الفاعلين الرئيسيين في الساحة السودانية، إذ تصاغ المعلومات المضللة وتُنسب إلى الجيش لأهداف عديدة، منها خلق حالة من التشويش ونشر الذعر بين المواطنين. وفي هذا السياق، تُداول في ديسمبر 2024، تصريح مضلل منسوب إلى المتحدث الرسمي باسم الجيش السوداني العميد نبيل عبد الله، يوصي فيه المواطنين بالابتعاد عن مواقع تجمعات عناصر «الدعم السريع» لتفادي ضربات الجيش الجوية. وأثار هذا التصريح الكثير من الرعب والفوضى وسط المتلقين، قبل أن يتبيّن أنه مضلل؛ إذ نُشر للمرة الأولى في مارس 2024، ولكن أعيد نشره من جديد في سياق حديث لإثارة الذعر بين المواطنين.
ونشرت بعض الحملات المناهضة للجيش معلومات مضللة بشأن تقهقره في مواقع معينة، إذ تداولت العديد من الحسابات، خلال يناير 2025، صورةً تتضمن شعار قناة «الجزيرة»، مع خبر عن مقتل العشرات من جنود القوات المسلحة السودانية وأفراد كتيبة «البراء بن مالك» في مدينة بحري شمالي الخرطوم. وتبيّن أنّ الخبر مفبرك ولا أساس له من الصحة، بيد أن انتشاره أحدث حالة من القلق بشأن وضع الجيش الميداني وأثار الشكوك بشأن تقدمه في بحري.
2. معلومات مضللة استهدفت قوات الدعم السريع:
على ذات النسق الذي تعمل به حملات التضليل في استهداف الجيش، تعمل حملات مشابهة على استهداف «الدعم السريع» بوصفه أحد طرفي النزاع وفاعلًا عسكريًا وسياسيًا رئيسًا. وتصاغ العديد من المعلومات المضللة والمفبركة وتنسب إلى فاعلين في «الدعم السريع»، لتحقيق أهداف معينة. وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، نُشرت العديد من المعلومات المضللة بشأن تقهقر «الدعم السريع» في مناطق عديدة داخل الخرطوم وخارجها، بالتزامن مع التقدمات التي أحرزها الجيش في بعض المواقع في مدينتي الخرطوم والخرطوم بحري، مما سهّل تصديق هذه الشائعات. وقد تداولت العديد من الحسابات، خلال يناير 2025، تصريحًا منسوبًا إلى الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع الفاتح قرشي، يعلن فيه عن انسحاب قواتهم من مدينة الخرطوم نحو غربي البلاد، متهمًا بعض قادتهم في الخرطوم بـ«الخيانة العظمى». وتبيّن أن التصريح مفبرك، ومع ذلك لقي رواجًا واسعًا. ومشكلة مثل هذا المحتوى المضلل أن بعض المواطنين قد يتعاملون معه على أنه صحيح، ويتخذون بناءً على ذلك قرارات بالتحرك نحو مناطق ما تزال تحت سيطرة «الدعم السريع»، مما قد يشكّل خطرًا مباشرًا على حياتهم.
وتركز حملات التضليل في نشاطها على تناول موضوع الدعم الخارجي لقوات الدعم السريع عبر منافذ في حدود السودان الغربية. ويصاغ هذا النوع من المعلومات المضللة بهدف جذب الانتباه إلى الدعم الذي تتلقاه قوات الدعم السريع من جهات خارجية، وكذلك بهدف إظهار تفوق الجيش ميدانيًا وقدرته على رصد إمدادات السلاح والذخيرة والوقود، والقضاء عليها قبل وصولها إلى أيدي قوات الدعم السريع. وفي هذا السياق، تداولت العديد من الحسابات على منصتي «فيسبوك» و«إكس» مقطع فيديو تظهر فيه شاحنات محترقة في منطقة صحراوية، على أنها شاحنات كانت في طريقها إلى «الدعم السريع» قبل أن يقصفها سلاح الجو التابع للجيش السوداني. ولكن تبيّن أن الفيديو قديم، ولا صلة له بالسودان، بيد أنه انتشر انتشارًا واسعًا، حسب ما يوضح الرسم البياني أدناه المأخوذ من أداة Meltwater وهي أداة لرصد وتحليل المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي.
3. معلومات مضللة استهدفت قوى خارجية فاعلة في الشأن السوداني:
هناك الكثير من القوى الفاعلة في الشأن السوداني، لا سيما عقب اندلاع الحرب في السودان، إذ تبادر الكثير من القوى الدولية والإقليمية بطرح حلول للصراع الدائر في السودان منذ 2023. ويلاحظ في هذا السياق أن كثيرًا من حملات التضليل استغل تلك المبادرات في تحقيق أهدافها التضليلية، إذ تصاغ الكثير من المعلومات المضللة وتُنسب إلى جهات خارجية فاعلة، مما يجعل تصديق هذه الشائعات يسيرًا وانتشارها واسعًا. وعلى سبيل المثال، بدأت العديد من المعلومات المضللة في الانتشار، عقب تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، إذ استخدمت حملات التضليل تغير الإدارة الأمريكية، لمصلحتها، عبر صياغة العديد من المعلومات المضللة، وكان من ضمنها تصريح منسوب إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يشير إلى أنّ «البرهان هو الرئيس الشرعي ويحق له تمثيل السودان في الأمم المتحدة». وكان التصريح مفبركًا، بيد أنه لقي انتشارًا واسعًا لأنه تزامن مع إصدار إدارة ترامب الكثير من القرارات الجديدة، مما ساعد في انتشاره وعزز قابلية الجمهور لتصديق التصريح. ولاحظ المرصد أن أغلب جهود التضليل بشأن القوى الخارجية كانت داعمة للجيش السوداني. ومثال ذلك التصريح الذي تداولته العديد من الحسابات على منصة «فيسبوك» على لسان المتحدث باسم الجيش الأمريكي، بأن «الدعم السريع» تمتلك «أكبر ترسانة حربية في تاريخ التمرد»؛ مشيرًا إلى حجم العتاد الحربي الذي تمتلكه، بالإضافة إلى الأموال والموارد العينية والشركات. وأضاف –بحسب الادعاء– أنّ «الجيش السوداني خاض معارك تاريخية يجب أن تُدرّس في الكليات الحربية». وهو تصريح مفبرك، لكنه متوافق مع تحركات الجيش في مواقع عديدة في الخرطوم وتحقيقه انتصارات، مما زاد من حجم تداوله.
وتلاقي بعض المبادرات الخارجية الرامية إلى إيقاف الحرب في السودان رفضًا من بعض القوى، مما يعزز من نشاط حملات التضليل في نشر معلومات مضللة بشأنها وتشكك في جدواها ومدى قبولها من قبل المواطنين. ويذكر أنه بعد عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في ديسمبر 2024، التوسط بين السودان والإمارات لإنهاء الحرب في السودان، وبالتزامن مع زيارة نائب وزير الخارجية التركي إلى السودان، في مطلع يناير 2025، وسط ترحيب سوداني رسمي بالمبادرة التركية، انتشر نصّ تصريح منسوبٍ إلى أردوغان، يقول فيه إن «المبادرة التركية لا تلقى قبولًا في أوساط السودانيين، مع أن الإدارة السودانية وافقت عليها مبدئيًا من قبل»، ويشير فيه إلى أنه لا يضمن نجاح هذه المبادرة. وتبيّن أن التصريح مفبرك، ولكنه لقي انتشارًا واسعًا.

4. معلومات مضللة استهدفت قوى سياسية:
القوى السياسية من أبرز الفاعلين في الشأن السوداني داخليًا، لذا نجد أن حملات التضليل تستهدفهم على نحو مباشر وواضح، لا سيما وأن أهداف تلك القوى السياسية لا تتوافق، في كثير من الأحيان، مع أهداف حملات التضليل؛ لذا تعمل الحملات على استهدافهم من خلال المعلومات المضللة. وعلى سبيل المثال، انتشر، خلال الفترة الماضية، تصريح منسوب إلى نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني خالد عمر يوسف، يقول فيه إنهم يشهدون «برهانًا جديدًا يختلف تمامًا عن السابق» –في إشارة إلى قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان– لافتًا إلى أنه لا يطمع من وراء هذا التصريح في أيّ منصب. واتضح أن التصريح مفبرك، ومع ذلك لقي التصريح انتشارًا واسعًا، ويبدو أنه نُشر بغرض التضليل ليظن المتلقي أن بعض القوى السياسية تغير موقفها حيال الجيش، وتقف إلى جانب قادته.
وفي السياق نفسه، تداولت العديد من الحسابات تصريحًا منسوبًا إلى وزير المالية جبريل إبراهيم، يقول فيه إن جميع معسكرات «الدعم السريع» في الخرطوم ستُوزع، بعد الحرب، على «القوات المشتركة» للحركات المسلحة بالتساوي. وتبيّن أن التصريح مفبرك، ولكنه لقي انتشارًا واسعًا، كما أظهر التصريح المفبرك أن الحركات المسلحة ربما يكون لها مطالب في حال انتهاء الحرب بانتصار الجيش.

5. معلومات مضللة بشأن الانتهاكات ضد المدنيين:
منذ اندلاع الصراع في السودان في أبريل 2023، وُثقت العديد من الانتهاكات ضد المدنيين. ولكن تضمنت مسألة الانتهاكات وتوثيقها فيما بعد العديد من أشكال التضليل، إذ تصاغ معلومات مضللة بشأن وقوع انتهاكات في منطقة محددة في السودان، وتُنسب إلى أحد طرفي النزاع من أجل تجريمه. ويجدر لفت الانتباه إلى أن المعلومات المضللة بشأن الانتهاكات والأوضاع الإنسانية شديدة الخطورة، لأنها تصرف –إلى حد ما– الانتباه عن الانتهاكات الحقيقية التي تقع على المدنيين. ورصد فريق المرصد، خلال فبراير 2025، انتشار صورة امرأة معلقة على شجرة مع طفلين في منطقة ما، على أساس أنّها توثق إعدام امرأة تنتمي إلى قبيلة «الزغاوة» مع طفليها على يد عناصر من «الدعم السريع» في منطقة «حجر أبيض» بولاية غرب دارفور. وتبيّن أن الصورة مضللة وليست من السودان، ولكنها لقيت انتشارًا واسعا، نظرًا إلى ارتباطها بالانتهاكات ضد المدنيين.
6. معلومات مضللة بشأن كوارث طبيعية:
تعد المعلومات المتداولة بشأن الكوارث الطبيعية من أكثر أنواع المعلومات المضللة إثارةً للقلق، لا سيما في سياق السودان، حيث ما تزال الحرب محتدمة بين طرفي النزاع، ويعاني الناس أوضاعًا إنسانية وصحية كارثية؛ لذا تلقى الشائعات بشأن الكوارث الطبيعية انتشارًا واسعًا نظرًا إلى مخاطبتها مخاوف الناس وهواجسهم. وفي هذا السياق، انتشر، خلال فبراير 2025، ادعاء يفيد بأن وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» حددت السودان ضمن تسع دول معرضة للاصطدام بالكويكب «2024 YR4» خلال العام 2032، مما أثار القلق وسط السودانيين، لا سيما مع تداوله من حسابات تحظى بقبول ومصداقية لدى السودانيين، مثل حساب العربية السودان. وتبيّن أنّ الخبر مضلل، إذ لم تذكر «ناسا» اسم السودان ضمن الدول المهددة بالاصطدام، إلا أن الخبر لقي انتشارًا واسعًا وتصديقًا من قبل المتلقين.

شبكات سلوك زائف منسق:
كشف فريق المرصد، في فترة الأشهر الثلاثة الماضية أيضًا، عن شبكة تضليل معقدة تتكون من خمس صفحات رئيسة، على رأسها صفحة باسم «سما السودان»، وتدار معظمها من تركيا وسوريا. وتنشط هذه الصفحات في تقديم معلومات مضللة لمصلحة الجيش السوداني بالإضافة إلى مهاجمة «الدعم السريع» وقوى سياسية مدنية، فيما تعمل مجموعة كبيرة من الحسابات على تضخيم محتوى الصفحة وتوسيع نطاق انتشاره؛ إذ لقيت انتشارًا واسعا في الفضاء الرقمي السوداني. وعملت الشبكة على نشر معلومات مضللة تتماشى مع أهدافها، وكان «مرصد بيم» قد تحقق من جزء كبير منها قبل أن يشرع في كتابة تقرير مفصل عن نشاطها التضليلي.
