«التكايا».. إرث سوداني يُستعاد بقوة في قلب الحرب

في بلد أنهكته حرب طاحنة وإفقار ممنهج، لم يجد السودانيون، سوى العودة إلى إرثهم التاريخي في التكافل الاجتماعي، كوسيلة لمواصلة الحياة في مواجهة الجوع والنزوح والحرب لمساعدة بعضهم البعض. وفي ظل استمرار هذه المحنة القاتلة ما كان إلا أن عادت هذه المؤسسة الشعبية التي كانت جزءًا من النسيج الاجتماعي والديني منذ قرون لتصبح طوق نجاة لملايين الآلاف من الأسر في خضم الأزمة.  

عقب اندلاع شرارة الحرب في العاصمة السودانية الخرطوم في 15 أبريل 2023، بدأ نزوح كثيف للمواطنين من العاصمة إلى القرى والأرياف، ومن ضمن هذه الأماكن التي كانت من هذه المحطات قرية السروراب، بالريف الشمالي لأم درمان، حيث تحولت مدرستها إلى مأوى للأسر النازحة. 

ومع واقع النزوح الذي اصطدمت فيه الأسر بفاجعة فقدان وغياب سبل العيش والعمل، في مواجهة مصاعب التكيف. في تلك اللحظة، وتحديدًا في مايو 2023،  بادر المصور مازن الرشيد وهو أحد سكان المنطقة، باطلاق مطبخ السروراب الخيري، وذلك من خلال  مبادرة عرض أعماله الفنية للبيع من أجل توفير احتياجات الأسر النازحة،ومع الوقت نما المطبخ وأصبح “تكية السروراب” بفضل الجهود التطوعية المختلفة، مادية وتشغيلية، لا سيما من النساء النازحات اللواتي يتحدرن من جغرافيات مختلفة، حيث كان لهن الدور الأكبر في تشغيل واستمرار عمل المطبخ،  رغم الصعوبات الجمة التي واجهنها.

صورة من مطبخ السروراب الخيري، تظهر فيها النساء وهنْ يعددن كِسرة الطعام

بعد السروراب امتد صدى الفكرة إلى الخارج حيث اجتمع طلاب وأطباء سودانيين، في جامعتي تورنتو ومونتريال بكندا وذلك للتفاكر سويًا حول ما يمكن أن يقدموه ويقدمنه للمواطنين المكتوين بنار الحرب داخليًا.

ومن لحظتها انخرطت المجموعة التي أطلقت على نفسها لاحقا اسم Sudan Solidarity collective  ويمكن ترجمتها إلى (مجموعة التضامن السوداني) في عمليات تواصل مختلفة مع غرف الطوارئ والمطابخ المركزية والتكايا في أنحاء مختلفة من البلاد، واختارت أن تدعم المطابخ والتكايا مادياً دون التدخل في طريقة عملها، حتى لا تصبح هناك شبهات تصاحب  صرف التبرعات.

ويأتي هذا الموقف من أن المجموعة لديها نقدها الخاص للطريقة التي تعمل بها منظمات العون الإنساني. بالإضافة إلى ذلك، أن عملها لم يكن  ينحصر على الدعم المادي فقط، بل التحدث عن حرب السودان في مستوًى مكبر، وربطها بالتقاطعات الإقليمية والدولية، وقضايا الإبادة في فلسطين وحراك السكان الأصليين في كندا.

صورة تظهر إحدى فعالية نظمتها المجموعة لإضاءة الوضع في السودان من خلال القصص

ضحى المرضي – إحدى عضوات المجموعة تقول في حديثها لـبيم ريبورتس: “التبرعات التي نجمعها، لا تأتي من منظمات أو مؤسسات، بل من أفراد 

يتضامنون مع السودان، سواء عبر التبرع مباشرةً أو تنظيم حملات دعم خاصة بهم، ومن ثم إرسال التبرعات إلينا”.

 فمن الفاشر إلى بري، ومن حي الوحدة غرب مدينة الأبيض إلى مطبخ السروراب في ريف أمدرمان الشمالي، لعبت التكايا والمطابخ المركزية، وما تزال، دورًا محوريًا في توفير احتياجات الطعام لملايين الأسر والنازحين منذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب الجارية، وما تسببت فيه من فقدان أغلبية المواطنين لمصادر رزقهم، خاصة العاملين والعاملات في القطاع غير الرسمي.

إرث طويل

لم يكن بروز التكايا وليد الأزمة الحالية؛ بل هو امتداد لتاريخ طويل من الممارسات الاجتماعية يستند إلى إرث طويل من أشكال الحياة الاجتماعية، والتي تخرج خلالها أماكن صنع الطعام (المطابخ) المرتبطة في معظم الأحيان بالفضاء الداخلي للبيوت والأسر إلى الشارع، وبرزت خلال الحرب كطريقة ونمط معيشي في إدارة المجتمعات المختلفة لمعيشها اليومي، الأمر الذي كان بمقدوره التخفيف عن المعاناة والمشقة التي يتكبدها الناس خلال الحرب.

وإن كانت هذه التكايا والمطابخ المشتركة تتلقى دعمًا من عدد من الجهات، مثل المنظمات الدولية، كبرنامج الغذاء العالمي، أو مبادرات وأجسام وطنية أخرى، إلا أن الجهد الأكبر وبذرتها هي إحدى طرق إدارة الناس لمعيشهم، لذلك فإن التكايا لا تتوقف على الدعم المادي فقط، بل تتعداه إلى سلسلة متكاملة من العمل التكافلي التطوعي وإدارته، وجزءاً من هذه السلسلة هي الأدوار المختلفة التي يلعبها السودانيين والسودانيات في بقاعٍ مختلفة، داخلياً وخارجياً في دعم عمل واستمرار هذه المطابخ والتكايا.

تاريخ ممتد

لمفهوم التكية وجود قديم في تاريخ المجتمعات السودانية، وقد ارتبطت بالإرث الصوفي وبالرغم من الاختلاف حول أصل تسمية “التكية” إلا أن كثيرٍ من الراجع تربطها بعض المصادر بالفعل “اتكأ” والذي يشير إلى الاعتماد والاستناد إلى الشيء.

 بينما تذهب مصادر أخرى على أن أصل التكية عثماني، ومن جانب آخر تذهب مصادر إلى الأصل الفارسي للتكية. 

وبغض النظر عن أصلها إلا أن التعريفات المختلفة للتكية تقدم ممارسة مشتركة، وهي تقديم العون والسند للفئات غير المقتدرة وعابري السبيل، من خلال توفير احتياجات الطعام والشراب، علاوةً على رعاية الزهاد واليتامى وكسوتهم وعلاج المرضى.

وفي السودان، يحضر هذا الإرث الديني للتكية، وذلك في ارتباطها بمؤسسة المسيد وتحفيظ القرآن، علاوةً على امتدادها العميق في بنية الطرق الصوفية، وهناك عدد من التكايا التي تحمل هذا الإرث، مثل تكية الطريقة الختمية بالخرطوم بحري، وتكية الزعيم الديني عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار بأم درمان. وبرغم شهرة هاتين التكيتين، إلا أنهما ليستا الوحيدتين، فهناك عدداً غير متناه من التكايا.

صورة من إحدى ليالي الصوفية، والتي تُظهر حلقة ذكرٍ ومديح

مخاطر

من بداية عملها، واجهت مبادرات المطابخ المركزية وغرف الطوارئ عدداً من المخاطر والتحديات المختلفة، بدءاً من التهديد العسكري والعنف والاعتقالات التي طالت عضوية هذه المبادرات في أماكن متفرقة في السودان، سواء من الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع. ففي مارس 2024، نفذت الدعم السريع حملة اعتقالاتٍ واسعة لمنسقي ومتطوعي المطابخ المركزية بمحلية شرق النيل، حينها كان عدد المستفيدين من المطابخ المختلفة 150 ألف مواطن. 

وعادةً ما يصاحب حملات الاعتقال والاحتجاز للعاملين والمتطوعين في المطابخ المركزية والتكايا باتهاماتٍ تشمل التواطؤ والعمل مع جهاتٍ معادية. 

من جانبٍ آخر، فإن التحدي الأكبر الذي واجه ويواجه عمل هذه المبادرات هو شح وقلة الموارد المادية أو البشرية، والذي يتقاطع مع العمليات العسكرية وإغلاق الطرق وصعوبة حركة البضائع والسلع الأساسية، مما يتسبب في غلاء الأسعار، وهو ما يحدث في مدينة الفاشر المحاصرة بولاية شمال دارفور، أو في مدينة الأبيض بشمال كردفان.

بالإضافة إلى ذلك، تواجه غرف الطوارئ والمطابخ صعوباتٍ بيروقراطية متعلقة بالإجراءات الرسمية؛ سواء تلك القادمة من منظمات العون الإنساني، أو المتعلقة بإجراءات وتقييدات داخلية من قبل الحكومة. 

فبعد استعادة الجيش السوداني ولاية الخرطوم التي كانت تسيطر الدعم السريع على معظم أجزائها طالبت حكومة ولاية الخرطوم بالتسجيل لدى مفوضية العمل الطوعي والإنساني.

 وأضافت أنها لن تسمح بممارسة أي نشاط من أي كيانات لا تتبع الإجراءات القانونية التي تنظم العمل الطوعي الإنساني، وهو الأمر الذي وضع قيوداً على سلاسة عمل المبادرات والمطابخ، وأدخلها في سلسلة من المتطلبات الرسمية.

 يضاف إلى ذلك توقف أو تقليل الدعومات من وكالات العون الإنساني، مثل برنامج الأغذية العالمي وغيرها، حيث يشير المتطوعون إلى المدة الزمنية الطويلة التي يحتاجها الدعم للوصول إليهم، علاوةً على إجراءات أخرى مرهقة، مثل تقديم التقارير المالية والتي تتطلب وقتاً في ظل واقع يومي متسارع ومتحرك.

 في مدينة بحري، تسببت هذه الإجراءات المعرقلة في معاناة  أكثر من 70 ألف شخص من الجوع، نسبةً لتوقف التكايا والمطابخ المجتمعية.

إدارة المجتمعات لنفسها

البنية الأساسية التي يستند عليها عمل التكايا والمطابخ المركزية وغرف الطوارئ هي بنية عمل وإدارة المجتمعات لنفسها بنفسها، ولذلك نلاحظ أن صعود هذه المبادرات أثناء الحرب، قد أعاد تعريف علاقة المجتمعات مع نفسها أو مع أجهزة الدولة، إذ برزت عدداً من المبادرات التي لا تقدم الطعام والشراب فقط، بل وكذلك تجارب التعليم الحرفي التشاركي والدعم النفسي واحتياجات فئوية مختلفة مثل غرف الطوارئ النسوية.

 علاوةً على تجارب الزراعة المنزلية وغيرها من أشكال استدامة الحياة خلال فترة عنوانها عدم اليقين، لتقدم كل هذه المبادرات المختلفة نقطة انطلاق مشتركة، تضع المعيشي واليومي للناس كنقطةً مرجعية، لذلك فهي تمثل حالة مربكة لكافة الأطراف العسكرية والسياسية، والتي تحاول عبر أشكالٍ مختلفة الاستثمار سياسياً في مجهودات هذه المبادرات، ما يجعل هذه الغرف والمبادرات تخرج في كثيرٍ من الأحيان لتنفي عن نفسها “محاولات بعض الكيانات السياسية والعسكرية استغلال اسم الغرف أو الزج بها في صراعات لا علاقة لها بها، سواء عبر بيانات مضللة، أو من خلال الإيحاء بدعم أو انتماء مزعومين”.

تستند غرف الطوارئ والتكايا والمبادرات المجتمعية المختلفة على إرث اجتماعي كبير وضخم، أعيد استدعاؤه والعمل على تطويره في سياق الحرب الحالية في سبيل مجابهة ما فرضته الرحب من واقع مأساوي ومحنة مشتركة يعشيها ملايين السودانيين، الذين انخرطوا في إدارة مواردهم وحياتهم منذ اندلاع الحرب الحالية، والتي يضاعف استمرارها من حجم التحديات الواقعة على هذه المبادرات، علاوةً على تقليم أجنحتها ومحاولة تدجينها، ما يطرح تساؤلاً حول أفق عمل هذه المبادرات في ظل التحديات والعنف اليومي.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع