شهد نهر النيل، خلال العام الجاري، ارتفاعًا ملحوظًا في منسوب المياه، نتيجة الأمطار الغزيرة على الهضبة الإثيوبية وزيادة التصريف من سد «النهضة» الإثيوبي، مما دفع عدة دول، خاصةً السودان ومصر، إلى إطلاق تحذيرات من فيضانات محتملة. وفي السودان، تجاوز منسوب النيل في العاصمة الخرطوم «منسوب الفيضان» –أي 16.50 مترًا– ليصل إلى نحو 16.64 مترًا، مما دفع وزارة الري والموارد المائية إلى إعلان «الإنذار الأحمر» في عدد من الولايات، بما فيها النيل الأبيض والخرطوم، تحسبًا لفيضانات قد تهدد الأرواح والممتلكات.
أما في مصر، فقد أعلنت وزارة الموارد المائية والري أنها تتابع بدقة إيرادات النيل، محذرةً من أن الشواهد تشير إلى فيضان «فوق المتوسط» هذا العام، مع اتخاذ إجراءات احترازية لحماية الأراضي الزراعية والمنشآت الحيوية.
ومطلع الشهر الجاري، رفعت السلطات السودانية مستوى التحذير إلى الدرجة القصوى، بسبب ارتفاع منسوب المياه في الشريط النيلي، خصوصًا في منطقة «جبل أولياء» جنوب العاصمة الخرطوم. وحذرت وحدة الإنذار المبكر بوزارة الري من فيضانات نتيجة زيادة الوارد المائي من النيلين الأزرق والأبيض، داعيةً المواطنين إلى تجنب المناطق المنخفضة والوديان، وحماية المحاصيل والحيوانات من خطر الانجراف.
وشملت التحذيرات ولايات: النيل الأزرق، وسنار، والجزيرة، والخرطوم، ونهر النيل، والنيل الأبيض، مع تنبيه خاص لسكان ضفاف النيل، لاتخاذ إجراءات وقائية لحماية الأرواح والممتلكات. وأظهرت مقاطع مصوّرة أحياء في الجزيرة وجبل أولياء و«أبو روف» وقد غمرتها مياه النيل، فيما أعلنت غرفة الطوارئ في «جبل أولياء» أنّ المياه اجتاحت الحواجز في مناطق، مثل العسّال وطيبة الحسناب والشقيلاب والكلاكلات، مهددةً الأحياء السكنية بالغرق، وسط جهود محدودة للحد من حجم الكارثة.
وفي خضم هذه الأحداث، شرعت مجموعة من الحسابات السودانية وغير السودانية على مواقع التواصل الاجتماعي، في نشر محتوى مضلل بشأن فيضان النيل ومناطق حدوثه، مما فاقم حالة الذعر التي يعيشها المواطنون. ويوضح هذا التقرير أبرز أشكال التضليل المتداول بشأن فيضان نهر النيل في السودان.
تضليل محلي:
رصد «مرصد بيم» محتوى مضللًا، شمل مقاطع فيديو وصورًا قديمة، بالإضافة إلى صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي، نشرتها حسابات على منصة «فيسبوك»، مدعيةً أنها توثق كارثة الفيضانات التي اجتاحت السودان. ولقيت هذه المنشورات رواجًا كبيرًا على منصات التواصل الاجتماعي وانتشارًا واسعًا وسط مستخدميها، نظرًا إلى حالة الذعر التي يعيشها المواطنون. وفي ساعات تصدّرَ وسم «#فيضان» مواقع التواصل الاجتماعي، مما فاقم انتشار المحتوى المضلل. وزاد انتشار العديد من الصور ومقاطع الفيديو الجديدة التي توثق فيضان النيل، في الوقت نفسه، المشهدَ تعقيدًا؛ فأصبح من الصعب التمييز بين المحتوى الصحيح وذلك المضلل.
وعلى سبيل المثال، نشر حساب على «فيسبوك»، الإثنين، الموافق 1 أكتوبر الجاري، مقطع فيديو يُظهر تدفق المياه بكثافة في أحد شوارع العاصمة السودانية الخرطوم، مدعيًا أنه يوثق فيضان نهر النيل في الخرطوم. وانتشر المقطع انتشارًا واسعًا، وتداولته حسابات أخرى عديدة، وصدّقه العديد من المتابعين، نظرًا إلى ظهور أماكن بارزة ومعروفة في الخرطوم ضمن المقطع المصوّر. ولكن تبيّن، من خلال البحث والتقصي الذي أجراه فريق المرصد، أنّ المقطع قديم، نُشر في أغسطس 2020، ولا صلة له بالفيضان الحالي للنيل.

وعقب ذلك، رصَد فريق المرصد محتوى مضللًا بشأن فيضانات في مناطق أخرى خارج العاصمة الخرطوم، بما في ذلك ما نشرته بعض الحسابات عن اجتياح «فيضانات ضخمة» ولاية النيل الأزرق وتهديدِها الشريط النيلي. وساهم تداول الادعاء مع صورةٍ زُعم أنها توثق الفيضان، في زيادة انتشار الادعاء. ولكن توصّل فريق المرصد، عبر البحث العكسي عن الصورة المرفقة مع الادعاء، إلى أنّها قديمة، نُشرت خلال فيضانات اجتاحت البلاد في سبتمبر 2020.

وفي السياق نفسه، استغلت بعض الحسابات خطورة الموقف في منطقة «جبل أولياء» جنوب العاصمة الخرطوم، لا سيما عقب إعلان غرفة الطوارئ بمحلية «جبل أولياء» أن مناطق ضفاف النيل الأبيض بالمحلية تواجه خطرًا حقيقيًا جراء ارتفاع منسوب المياه. ونشرت هذه الحسابات محتوى مضللًا بشأن الفيضانات في المحلية، مع صورةٍ تبيّنَ، من خلال الفحص الذي أجراه فريق المرصد، أنها مولّدة بالذكاء الاصطناعي.



تضليل من حسابات مصرية:
عقب اجتياح الفيضانات العديد من مناطق السودان، لاحظ فريق المرصد أنّ مجموعة من الحسابات المصرية بدأت في نشر محتوى يغلب عليه السخرية، مع ادعاء أنّ كارثة الفيضانات نتيجة لعدم وقوف السودان إلى جانب مصر في ملف سد «النهضة» الإثيوبي. ولتعزيز الادعاء، نشرت العديد من الحسابات المصرية محتوى مرئيًا مضللًا، مما فاقم حالة التوتر في أوساط المتلقين. ويستعرض هذا القسم من التقرير أبرز أشكال التضليل الذي تداولته الحسابات المصرية.
الأسبوع الماضي، نشر حساب باسم «مصر علي مر الزمان» منشورًا ذكر فيه أن السودان يشهد فيضانًا «غير مسبوق» تسبب في كارثة إنسانية وبيئية خطيرة، نتيجة فتح إثيوبيا بوابات سد «النهضة» على نحو مفاجئ ودون تنسيق مع السلطات السودانية، مما أدى إلى تدفق هائل للمياه تجاوز قدرة السدود السودانية على الاستيعاب، خصوصًا في ظل توقف التوربينات عن العمل في وقت يكافح فيه المواطنون لنقل ممتلكاتهم ومواشيهم إلى مناطق مرتفعة، فيما تعاني البلاد حربًا أهلية تعيق الاستجابة لأيّ كارثة –بحسب تعبيره.
وأرفَق الحساب مع منشوره صورةً تُظهر مواطنين عالقين وسط حي مغمور بالمياه، على أنها صورة حديثة توثق فيضان النيل في هذه الأيام. ومن خلال البحث العكسي عن الصورة، تبيّن أنها قديمة، نُشرت من قبل في العام 2020.


وفي السياق، زعم حسابٌ آخر أنّ سودانيين شاركوا في بناء سد «النهضة» عبر شراء سندات مالية طرحتها إثيوبيا لتجاوز تحديات في تمويل بناء السد، وأطلقوا حملة في السودان باستخدام وسم «#إثيوبيا_أخت_بلادي» خلال فترة بنائه. وأشار الحساب إلى أن أكثر السودانيين مساهمةً في بناء السد هم سكان المناطق القريبة من الحدود الإثيوبية، قائلًا إنها أشد المناطق تضررًا بالفيضانات اليوم. وشارك الحساب مجموعة من الصور التي زعم أنها توثق هذه الأضرار. وتبيّن، من خلال البحث العكسي، أنّ الصور المرفقة جميعها قديمة، إذ نُشر بعضها في سبتمبر 2020، فيما نُشر بعضها الآخر في أغسطس 2022.

كما نشر حساب آخر باسم «أخبار تهمك من هنا وهناك» مقطع فيديو يظهر فيه أشخاص وهم يحاولون عبور منطقة مغمورة بالمياه، مع النص الآتي: «وسط ذعر السودانيين فيضان نهر النيل يجتاح مناطق في جنوب الخرطوم». وتبيّن، من خلال البحث العكسي الذي أجراه فريق مرصد عن مقطع الفيديو، أنه قديم، نُشر في أغسطس 2022، ولا صلة له بالفيضان الحالي للنيل.

وتجدر الإشارة إلى أنّ وزارة الري والموارد المائية السودانية أصدرت، في أواخر سبتمبر الماضي، بيانًا بشأن فيضان النيل في العام الجاري، أوضحت فيه أنّ التغيّرات المناخية أدت إلى تأخر موسم الأمطار وارتفاع كبير في مناسيب النيل، نتيجة أمطار غزيرة على الهضبة الإثيوبية وزيادة تصريف سد «النهضة» منذ 10 سبتمبر الماضي، مما تسبب في ضغط هيدرولوجي كبير.
وقالت الوزارة إنها تتابع الوضع باستمرار عبر غرفة عمليات طارئة، وأن فرِقها تعمل على تنظيم المناسيب وتخفيف آثار الفيضان، منوهةً بأنّ وصول منسوب المياه إلى «مستوى الفيضان» في أيّ محطة لا يعني بالضرورة غرق المنطقة بالكامل. كما أشارت إلى بدء انخفاض الوارد من النيل الأزرق، متوقعةً تحسنًا تدريجيًا في المناسيب، ومؤكدةٍ التزامها بإبقاء المواطنين على اطلاع دائم، لضمان سلامتهم.