الكراهية في طي التضليل.. كيف يُستخدم التضليل في نشر خطاب الكراهية؟

في زمن الحرب، لا تقتصر أدوات الصراع على البنادق والدبابات، بل تمتد لتشمل سلاحًا آخر لا يقل فتكًا: المعلومات. ومع اشتداد النزاع المسلح في السودان، ظهرت على السطح حملات إعلامية ممنهجة تستخدم التضليل أداةً لتغذية خطاب الكراهية، عبر تأجيج المشاعر المناطقية، والتحريض على أساس عرقي، وتعميم الاتهامات ضد جماعات بأكملها. وفي تحول خطير، باتت بعض الخطابات تعيد رسم صورة الضحايا بوصفهم «أعداء»، مما يعمّق الانقسام المجتمعي ويبرر العنف. 

يستعرض هذا التقرير أبرز أنماط هذا الخطاب المضلل، وفق ما رُصد في عينة من المحتوى الرقمي المتداول، ويكشف كيف يمكن للكلمات أن تتحوّل إلى رصاص في ساحة الحرب الإعلامية.

خلفية الصراع: كيف غذّى التضليل نار الحرب؟

اندلعت شرارة الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023. وسرعان ما اتّسعت رقعتها لتشمل مناطق واسعة من البلاد، مخلّفةً وراءها آلاف القتلى وملايين النازحين داخليًا واللاجئين خارج الحدود. ومع استمرار القتال، تحولت المنصات الرقمية إلى ساحة موازية للصراع، لا تقل خطورة عن ميادين القتال. ولم تعد مواقع التواصل مجرد وسيلة لتبادل المعلومات، بل أضحت قناةً رئيسةً لبث التضليل ونشر خطاب الكراهية.

في هذا السياق، باتت حملات الكراهية وسيلة لتبرير العنف وتأجيج الصراعات المجتمعية، من خلال التحريض على التمييز أو العداء أو ممارسة العنف ضد أفراد أو جماعات على أساس عرقي أو ديني أو مناطقي. ويعتمد هذا الخطاب المسموم على تقنيات متنوعة للتضليل، من بينها التلاعب بالسياقات، وتزوير الحقائق، وإعادة نشر محتوى قديم على أنه حديث، بهدف خلق سرديات زائفة تكرّس الانقسام.

وبحسب تقرير صادر عن قسم «سوداليتيكا» (Sudalytica) التابع لـ«بيم ريبورتس»، فإن خطاب الكراهية والأخبار الزائفة يشكّلان، في السنوات الأخيرة، أحد أبرز التحديات التي تؤثر بعمق في المنصات الرقمية والمجتمعات التي تنشط فيها، لا سيما في ظل الحرب المستمرة في السودان منذ أبريل 2023. ويشير التقرير إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت –في غياب آليات ضبط فعّالة– فضاءً خصبًا لصناعة واقعٍ موازٍ لا يتقيد بالقيم الاجتماعية، مما يساهم في تطبيع خطاب الكراهية وتحويله إلى أداة فعالة للتأثير الاجتماعي وتعزيز التحيز والانقسام والعنف المجتمعي.

يُعرَّف خطاب الكراهية بأنه نوعٌ من الخطابات يستهدف أفرادًا أو جماعات على أساس العرق أو الدين أو الأصل الجغرافي أو النوع الاجتماعي أو أيّ انتماء آخر، بهدف الحطّ من كرامتهم أو التحريض على التمييز والعنف ضدهم. ويتميّز هذا الخطاب بقدرته الاستثنائية على إثارة المشاعر السلبية وتأجيج الصراعات، لا سيما عندما يُتداول في أوقات الأزمات والانقسامات السياسية أو المجتمعية.

غير أن تقرير«سوداليتيكا» يلفت الانتباه إلى أنّ تعريف خطاب الكراهية ما يزال محلّ جدل بين الباحثين والأكاديميين. فبحسب أستاذ السياسة ودراسات اللغة والاتصال ألكساندر براون، فإن المصطلح ليس واضحًا كما يبدو، بل هو غامض منهجيًا، ويُستخدم للإشارة إلى مجموعة غير متجانسة من الظواهر التعبيرية التي يصعب حصرها في تعريف موحّد. فيما يؤكد الأكاديمي القانوني روبرت بوست على هذا الطرح، مشيرًا إلى أنّ صياغة تعريفٍ لخطاب الكراهية تعتمد على السياق والهدف، موضحًا أربعة معايير رئيسة لفهمه، هي: نوع الضرر المحتمل، واللغة المستخدمة، وتأثير الخطاب في كرامة الأفراد، والأفكار التي ينطوي عليها.

ومن هذا المنطلق، يخلص تقرير «سوداليتيكا» إلى أنّ التعامل مع خطاب الكراهية لا يقتصر على الإدانة، بل يستوجب تفكيك أسبابه البنيوية، ومعالجة المظالم التاريخية، وترسيخ العدالة والمواطنة المتساوية، بما يساهم في بناء سردية وطنية جامعة ومناعة مجتمعية ضد التحريض والتضليل.

منهجية البحث وجمع البيانات

اعتمد هذا التقرير على تحليل نوعي لعينة من المحتوى الرقمي المتداول على منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما «فيسبوك» و«إكس»، وذلك خلال الفترة الممتدة من 31 ديسمبر 2023 وحتى 31 يناير 2025. واختيرت هذه الفترة نظرًا إلى ما شهدته من تصاعد لافت في الحملات الرقمية الموجهة وتكثيفٍ في استخدام خطاب الكراهية أداةً ضمن مسارات الصراع.

وركّزت عملية الرصد على المنشورات والصور ومقاطع الفيديو التي تحمل سمات التضليل، وتستهدف مجموعات سكانية أو إثنية أو مناطقية معينة بالتحريض المباشر أو غير المباشر. كما أُعطي اهتمام خاص للمحتوى واسع الانتشار أو الصادر عن حسابات مؤثرة، إلى جانب المواد التي ثبت زيفها من قبل منظمات تحقق مستقلة.

وواجهت عملية التوثيق تحديات عدّة، أبرزها السرعة الكبيرة التي ينتشر بها المحتوى المضلل، والتكرار المتعمد للمواد المُحرّضة بأشكال مختلفة، فضلًا عن صعوبة تتبّع المصادر الأصلية للعديد من الشائعات، في بيئة رقمية يغيب فيها التحقق المسبق وتفتقر إلى الضوابط التقنية الفعالة.

الكلمات المفتاحية

اعتمدت عملية الرصد على مجموعة من الكلمات المفتاحية التي استُخدمت لتحديد المحتوى الرقمي ذي الطابع التحريضي أو التضليلي، وتحليله. وشملت هذه الكلمات مصطلحات تُستخدم عادةً في سياقات الكراهية والتمييز، من بينها: «عرب دارفور»، و«عرب الشتات»، و«العطاوة»، و«أمكعوك»، وكذلك: «فلنقاي»، و«أبلداي»،  و«زرقة»، و«عبيد»، و«غرابة»، إلى جانب كلمات مثل: «من تشاد»، و«من النيجر»، و«استغلال النازحين»، و«الانفصال سمح»، و«فصل دارفور»، و«عنصرية»، بالإضافة إلى «جلابة»، و«دولة 56»، و«النهر والبحر»، و«أصحاب الامتيازات».

واختيرت هذه الكلمات لما تحمله من دلالات ترتبط بخطابات التحريض أو الوصم الجماعي، وقد ساعدت في تتبع أنماط الخطاب الموجّه في البيئة الرقمية، وتحديد المحتوى الذي يبرز توجهات عنصرية أو مناطقية أو جندرية متطرفة. كما شكّلت هذه المفردات أداةً منهجية لفهم كيفية إعادة إنتاج التحيز والعنف الرمزي في سياق النزاع السوداني.

أنماط الخطاب القائم على التضليل

ركّز هذا التحليل على رصد أنماط من الخطاب الرقمي الذي يحمل طابعًا عنصريًا أو جهويًا أو تمييزيًا في سياق الحرب السودانية، وذلك من خلال تحليل الكلمات والعبارات التي تُداولت بكثافة على المنصات الاجتماعية، والتي ارتبطت، على نحو مباشر، بإنتاج خطاب كراهية قائم على التضليل. وقد صُنفت هذه الأنماط على وفق الفئات الآتية:

  • الخطاب المناطقي: يُصور مناطق جغرافية بعينها، مثل ولايات غرب السودان وشماله،  بوصفها مصادر تهديد لأحد الأطراف المتحاربة، في إطار تعميم يكرّس الانقسام ويعزز النظرة التمييزية تجاه سكان هذه المناطق.
  • الخطاب الإثني أو العرقي: يتضمن استخدام تسميات أو أوصاف تُربط بفئات إثنية محددة وتنسب إليها سلوكيات عدائية أو تُهم بالخيانة، بهدف نزع الشرعية عنها وتشويه صورتها أمام الرأي العام.
  • الخطاب المرتبط بالنزوح: يُستهدف فيه النازحون من مناطق سيطرة «الدعم السريع» باتهامات بالتواطؤ أو الانتماء إلى العدو، وهو خطاب يغذّي ثقافة العقاب الجماعي ويضاعف من هشاشة الفئات المتضررة من الحرب.

واعتمدت هذه الفرضيات لرصد استخدام التضليل أداةً مركزية في نشر الكراهية، ضمن الخطاب الرقمي المتداول خلال الحرب، كونها تسلط الضوء على البنية العميقة لهذا الخطاب ودوره في تأجيج الصراع المجتمعي وتقويض فرص التعايش.

التحليل: كيف يُستخدم التضليل في صناعة خطاب الكراهية خلال الحرب في السودان؟

يعرض هذا القسم تحليلًا لأبرز أنماط الخطاب الذي رُصد، من خلال عينة رقمية جُمعت من منصات التواصل الاجتماعي؛ بهدف فهم كيفية استخدام التضليل أداةً لإعادة إنتاج الصراع في صورته الاجتماعية.

الخطاب المناطقي: الكراهية المسنودة بالجغرافيا

ظهر نمط واضح من خطاب الكراهية يستند إلى إعادة ترسيم البلاد نفسيًا ومجتمعيًا إلى مناطق «مقبولة» وأخرى «مشبوهة»، وذلك من خلال محتوى مضلل يعيد تعريف الوطنية على أساس الانتماء الجغرافي. في هذا السياق، تداولت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي صورةً لقرار مفبرك منسوبٍ إلى القائد العام للقوات المسلحة، يزعم مراجعة الجنسية السودانية لمواطني قبائل محددة في غرب السودان. وتضمن القرار المزعوم إيقاف جميع المعاملات الرسمية لحاملي الجنسية السودانية من هذه القبائل، في خطوة توحي بوجود تصنيف مناطقي على مستوى الدولة.

كما جرى تداول تصريحٍ مفبرك آخر منسوبٍ إلى مساعد القائد العام للجيش ياسر العطا، يزعم أن جهة عسكرية انضمت حديثًا إلى القوات المسلحة تمرّر إحداثيات مواقع الجيش إلى «الدعم السريع»، لتُستهدف بالطائرات المسيّرة، في إشارة ضمنية إلى «اختراق داخلي» مرتبط بجغرافيا أو انتماء مناطقي معين.

في الاتجاه نفسه، استُخدم مقطع فيديو مجتزأ للعطا، نُشر مع تصريح يهدف إلى التضليل جاء فيه: «إذا نحن توافقنا معهم عرب الوسط والشمال والشرق أوكي، وإذا لم نتوافق معهم يفصلوا ويشيلوا دارفور ونصف كردفان وجبال النوبة والجزء الأكبر من الأنقسنا ويعملوا دولة العطاوة، ومرة الجنيد ومرة شنو، معليش الأخ من المحاميد…». والمقطع أُقتطع من سياقه، إذ كان العطا يتحدث عن «مؤامرة»، لا عن موقفٍ رسميٍّ للدولة، لكن تداول المقطع مجتزأً من سياقه الأصليّ غذّى مشاعر الكراهية وأثار حفيظة عدد كبير من المتابعين.

لاحقًا، استُخدم الخطاب نفسه لترويج مزاعم عن انشقاقات داخل الجيش السوداني، إذ انتشرت صورتان مُفبركتان منسوبتان إلى صفحة «الجزيرة – السودان»، تُظهران أخبارًا مفبركة عن خلافات داخل المؤسسة العسكرية والحركات المسلحة بسبب تصريحات العطا. وتحقق فريق المرصد من الصور، وتبيّن زيفها، إلا أن توقيت نشرها بعد المقطع المضلل، ساهم في تعزيز انتشار الشائعة لدى الجمهور وتصديقهم لها. ويتضح هنا أن حملات التضليل لم تكن عشوائية، بل نُفذت ضمن تسلسل زمني مدروس يراعي تصعيد التأثير النفسي عبر التوقيت والسياق.

وفي السياق نفسه، تُداول مقطع فيديو لقائد «درع السودان» أبو عاقلة كيكل، ينتقد فيه «اتفاق جوبا للسلام»، وادعى متداولو الفيديو أنه مقطع حديث، في محاولة للإيحاء بوجود تصدع في معسكر الجيش والقوات المساندة له. فيما أظهر التحقق، أنّ المقطع قديم، يعود إلى ما قبل الحرب في مارس 2023، ما يوضح محاولة للتضليل عبر إعادة تدوير محتوى قديم لإثارة الانقسام.

الخطاب الإثني: عندما يصبح التضليل أداة لشرعنة العنف العرقي

يتحول التضليل إلى أداة فاعلة في إنتاج خطاب إثني متطرف عندما تلصق صفات، مثل «المرتزقة» أو «العبيد»، بمجموعات محددة، أو تصوير قبائل بأكملها وكأنها «عدو داخلي». وفي منشورات متعددة، نُسب إلى القوات النظامية ارتكاب تصفيات على أساس قبلي، وتداولت مقاطع مجتزأة لتعزيز هذه السردية.

وفي حين ادّعي منشور أنّ «الجيش السوداني صفّى أبناء الرزيقات في سنار على أساس قبلي». نسب منشور آخر إلى القائد العام للجيش القول بأن «الجيش يحارب مجتمعات متمردة»، وأنه حدد قبائل عرب دارفور، مع أنّ البرهان لم يذكرهم في مقطع الفيديو.

كما استُخدم مع مقطع فيديو آخر عنوان يقول: «البطاحين دقوا النحاس»، لتصوير جماعة إثنية بعينها وكأنها تحرض على العنف. وتبيّن أنّ الفيديو كان قديمًا، يعود إلى يناير 2022.

خطاب النزوح: تأطير الضحية في خانة الخطر

مع التوسع الكبير في حركة النزوح جراء الحرب، سعت بعض حملات التضليل إلى تصوير النازحين، لا بوصفهم ضحايا يستحقون الحماية، بل وكأنهم تهديدٌ أمنيٌّ وثقافيّ. وفي محتوى متداول، يُصوَّر النازحون وكأنهم «مجرمون متخفون» أو «أدوات إثنية للسيطرة على مناطق محددة»، وغالبًا ما يوصفون بأنهم «متعاونون مع الدعم السريع».

وما تكشفه هذه الأنماط من الخطاب هو أن التضليل لم يكن مجرد أداة لإرباك الرأي العام أو تزييف الوقائع، بل تحول إلى عنصر فاعل في منظومة الحرب النفسية؛ فقد وُظّف في إنتاج خطاب كراهية يحمل تبعات مادية ملموسة على الأرض: تهجير قسري، وقتل على الهوية، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وتعميق الانقسامات بين مكونات المجتمع السوداني. ولم تُستخدم الكلمات لوصف الواقع، بل لصياغته من جديد على أسس العنف والتمييز العرقي والمناطقي. ومع كل منشور مضلل، كانت تُطلق رصاصة جديدة تصيب الوعي الجمعي، وتُراكم آثارها في مسار الصراع.

أُنتج هذا التقرير من قِبل فريقٍ من المشاركين في البرنامج التدريبي الخاص بـ«الشبكة السودانية لتدقيق المعلومات».

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع