الفاشر: عمليات قتل جماعي وتطهير عرقي من «منزل إلى منزل» بيد «الدعم السريع»

28 أكتوبر 2025 – رغم التحذيرات الدولية والأممية لقوات الدعم السريع والتي دعتها إلى فتح ممرات آمنة للمدنيين الفارين من الفاشر وذلك بعد اجتياحها وسيطرتها على المدينة يوم الأحد، إلا أن تقارير أممية ومحلية ودولية أشارت إلى ارتكابها انتهاكات واسعة النطاق شملت عمليات القتل الجماعي والتطهير العرقي من منزل إلى منزل. كما وثقت مقاطع مصورة انخراط عناصرها في عمليات قتل جماعي علنية عبر إعدامات ميدانية نكّلت فيها بالسكان بما في ذلك النساء أثناء محاولتهم الفرار من المدينة. 

وقال مختبر الأبحاث الإنسانية التابع لمدرسة الصحة العامة في جامعة ييل الأمريكية في تقرير نشره اليوم إنه حصل على أدلة تؤكد ارتكاب قوات الدعم السريع عمليات قتل جماعي وتطهير عرقي من منزل إلى منزل بعد سقوط مدينة الفاشر في يدها يوم الأحد. كما أكد المختبر وجود أجسام متطابقة مع تقارير عن جثث متراكمة على السواتر الترابية التي تطوّق بها مدينة الفاشر.

وقال مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك إنه يجب على قوات الدعم السريع أن تتخذ بشكل عاجل خطوات ملموسة لوقف ومنع الانتهاكات ضد المدنيين في الفاشر بما في ذلك العنف ذو الدوافع القبلية والهجمات الانتقامية، مجددًا دعوته للدول الأعضاء ذات النفوذ للتحرك بشكل عاجل لمنع ارتكاب فظائع واسعة النطاق.

وصباح اليوم أعلنت تنسيقية لجان المقاومة في الفاشر بأن من تبقى داخل المدينة من المدنيين قد قتل غالبيتهم، مشيرة إلى أن الباقين من السكان مصيرهم مجهول بمن في ذلك أعضاء التنسيقية والمتطوعين.

وكانت قوات الدعم السريع قد سيطرت يوم الأحد على مقر الفرقة السادسة مشاة الواقعة في وسط مدينة الفاشر وهي كانت آخر معقل رئيسي للجيش في إقليم دارفور. في وقت أعلن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في كلمة مصورة إن القيادة في الفاشر ولجنة الأمن قدرت مغادرة المدينة، وقال «وافقناها على أن يذهبوا إلى مكان آمن حتى يجنبوا بقية المواطنين وبقية المدينة الدمار».  

وأظهر مقطع فيديو نشره عناصر من قوات الدعم السريع أمس تناثر جثث عشرات العسكريين وسط سيارات محترقة في أحد السواتر الترابية التي أقامتها خلال الأشهر الماضية والتي وصفها مختبر البحوث الإنسانية التابع لجامعة ييل الأمريكية في سبتمبر الماضي بأنها بمثابة «صندوق قتل» حول المدينة.

ووثقت شهادات ومقاطع مصورة عمليات قتل جماعي في الفاشر لعناصر من قوات الدعم السريع بدأت مع اجتياحها المدينة يوم الأحد بعد عام ونصف العام من بدء حصارها للمدينة، بما في ذلك حرق عشرات القرى حولها واستخدام التجويع كسلاح حرب والقصف اليومي بالمدفعية والمسيرات لتجمعات النازحين والأعيان المدنية، بما في ذلك المستشفيات في استراتيجية عسكرية هدفت إلى إفراغ المدينة من سكانها حيث تقلص عددهم من أكثر من مليون شخص قبل الحرب إلى نحو 260 ألف حتى شهر أغسطس الماضي.  

وبينما يوثق مقاتلو قوات الدعم السريع بأنفسهم عمليات القتل الجماعي في الفاشر قالت عدة مصادر من أهالي المدينة لـ«بيم ريبورتس» إن عمليات إبادة صامتة تجري هناك بحق السكان مع انقطاع وسائل الاتصال منذ يوم الأحد.

وطالب حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي أمس الإثنين بحماية المدنيين والإفصاح عن مصير النازحين وإجراء تحقيق مستقل في الانتهاكات والمجازر التي تقوم بها مليشيا الدعم السريع بعيدًا من الأنظار.

كما أكد مناوي سقوط الفاشر، لكنه قال إن ذلك لا يعني التفريط بمستقبل دارفور لصالح جماعات العنف أو مصالح الفساد والعمالة، وشدد قائلًا «كل شبر سيعود لأهله».

وفضلًا عن مواجهة جميع سكان الفاشر مصيرًا غامضًا، لا يبدو واضحًا بالمقابل مصير آلاف المتطوعين في المدينة، بما في ذلك الأطباء والطواقم الصحية ومتطوعي مبادرات المطابخ المجانية التكايا، مقابل ادعاء قوات الدعم السريع في بيان أصدرته أمس الإثنين حماية المدنيين في المدينة بعد تأكيد سيطرتها عليها. 

وقالت شبكة أطباء السودان، في بيان أمس الإثنين إن تقارير فرقها الميدانية أشارت إلى إقدام قوات الدعم السريع على قتل عشرات المواطنين العُزّل على أساسٍ إثني واصفة ما حدث بجريمة تطهير عرقيّ.

وأضافت المجموعة أن أعداد الضحايا يفوق العشرات في ظل صعوبة الوصول إلى المناطق المنكوبة بسبب الانفلات الأمني الكامل الذي تسببت فيه الدعم السريع

كما قالت مجموعة محامو الطوارئ الحقوقية أمس الإثنين إن قوات الدعم السريع ارتكبت مجازر في مدينة الفاشر، بما في ذلك عمليات تصفية جماعية بحق مواطنين مدنيين وأسرى من الجيش والمجموعات المتحالفة معه، قبل أن تدعو الآلية الأممية المعنية بالسودان والمنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية إلى التحرك العاجل للتحقيق في هذه الانتهاكات وتقديم المسؤولين عنها للمساءلة الجنائية.

في المقابل، تركزت ردود الفعل السياسية المحلية بشأن ما يجري في الفاشر في مناشدة المجتمع الدولي، إذ دعت اللجنة الوطنية لفك حصار الفاشر (حكومية) الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العامة لجامعة الدول العربية ورئيس الاتحاد الأفريقي وكل المنظمات الدولية والإقليمية إلى رفع حصار الفاشر. 

بينما طالب تحالف «صمود»، في بيان أمس المنظمات الدولية والإقليمية والمجتمع الدولي بالضغط على -أطراف الحرب- لوقف الانتهاكات وفتح الممرات الإنسانية الآمنة، محذرًا من تحول الحرب إلى صراع انتقامي.  

في وقت يعاني سكان الفاشر من موت صامت رغم وعود أطلقها مجلس وزراء الحكومة الموازية بقيادة الدعم السريع يوم الأحد بالتعاون مع المنظمات الإنسانية في الفاشر وحماية المدنيين، إذ حملتها الأطراف الدولية مسؤولية سلامة سكان الفاشر.

مطالبات أممية ودولية وإقليمية بفتح ممرات إنسانية للمدنيين

وفي ردود فعل المجتمع الدولي، أشار وكيل الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، توم فليتشر، إلى ورود تقارير عن وقوع إصابات بين المدنيين وسط تصاعد القتال في الفاشر معربًا من قلقه جراء القصف المكثف والهجمات البرية التي اجتاحت المدينة، وأضاف «مع توغل المقاتلين في المدينة وقطع طرق الهروب أصبح مئات الآلاف من المدنيين محاصرين ومرعوبين – يتعرضون للقصف ويتضورون جوعًا ويفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى الغذاء أو الرعاية الصحية أو الأمان».

وشدد المسؤول الأممي على ضرورة السماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن وسريع ودون عوائق إلى جميع المدنيين المحتاجين، مشيرًا إلى أن لديهم لديهم إمدادات منقذة للحياة جاهزة، قبل أن يذكر أن الهجمات المكثفة جعلت من المستحيل عليهم إيصالها المساعدات. 

وأكد على ضرورة محاسبة المسؤولين عن انتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان مُذكرًا أطراف النزاع بالتزاماتهم بموجب القانون الإنساني الدولي، والمنصوص عليها في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2736 (2024).

كما أفادت الأمم المتحدة أمس بتلقيها تقارير تفيد بأن قوات الدعم السريع تنفذ فظائع بعد سيطرتها على أجزاء واسعة من مدينة الفاشر المحاصرة، في شمال دارفور ومدينة بارا بولاية شمال كردفان، وحذرت من تصاعد خطر وقوع مزيد من الانتهاكات والفظائع واسعة النطاق ذات الدوافع القبلية في الفاشر.

وأظهرت مقاطع فيديو متعددة ومقلقة تلقاها مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عشرات الرجال العزل يتعرضون لإطلاق نار أو ملقين قتلى ومحاطين بمقاتلي قوات الدعم السريع الذين يتهمونهم بأنهم مقاتلون تابعون للجيش السوداني.

كما أفادت تقارير، وفقًا للمكتب، باحتجاز مئات الأشخاص أثناء محاولتهم الفرار من بينهم صحفي. وأوضحت أنه بالنظر إلى الوقائع السابقة في شمال دارفور، فإن احتمالية وقوع عنف جنسي ضد النساء والفتيات بشكل خاص عالية للغاية.

وأعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أيضًا تلقيه تقارير عن وقوع العديد من الوفيات بين المدنيين، بمن فيهم متطوعون إنسانيون محليون، نتيجة للقصف المدفعي الثقيل في الفترة من 22 إلى 26 أكتوبر، مشيرًا إلى صعوبة تقدير عدد الضحايا المدنيين في هذه المرحلة، نظرا لانقطاع الاتصالات والعدد الكبير من الأشخاص الفارين، وفقا لمكتب حقوق الإنسان.

وأشار إلى أنه تلقى أيضًا تقارير مقلقة عن إعدام خمسة رجال بإجراءات موجزة من مقاتلي قوات الدعم السريع لمحاولتهم إدخال إمدادات غذائية إلى المدينة التي تخضع لحصار قوات الدعم السريع منذ 18 شهرًا.

واليوم الثلاثاء أدان السكرتير التنفيذي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية «إيقاد» ورقنه جبيو في بيان، العنف في الفاشر وحث على وقف فوري لإطلاق النار لحماية المدنيين في السودان.

وأعرب جبيو عن قلقه العميق إزاء تدهور الوضع في الفاشر، بشمال دارفور، في أعقاب التقارير التي تفيد بأن قوات الدعم السريع سيطرت على المدينة، مؤكدًا على إدانته بشدة جميع أعمال العنف ضد المدنيين.  

ودعا إلى ضرورة إنهاء معاناة المدنيين في السودان، موضحًا أن على جميع الأطراف واجب أخلاقي وقانوني باحترام القانون الإنساني الدولي وحماية الأرواح والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.

كذلك دعا السكرتير التنفيذي لإيقاد الشركاء الإقليميين والدوليين إلى التحرك بسرعة لدعم الجهود الإنسانية وتعزيز الحوار من أجل سلام شامل ودائم في السودان، مضيفًا أن «إيقاد على أهبة الاستعداد لدعم جميع الجهود الصادقة التي تُنهي القتال وتضمن حماية المدنيين».

وكانت الأمم المتحدة قد حذرت منتصف الشهر الحالي من أن أكثر من 260 ألف مدني، نصفهم من الأطفال، يعيشون أوضاعًا بالغة الخطورة في مدينة الفاشر، في ظل تدهور غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية. كما بين التقرير وقتها إقامة أكثر من 30 كيلومترًا من الحواجز العسكرية حول الفاشر، مما أدى إلى محاصرة المدنيين وتعطيل الإمدادات. 

وكان فليتشر قد صرح في يوليو الماضي أنه أجرى محادثات مباشرة مع كبار المسؤولين في الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بهدف تأمين هدنة إنسانية لإغاثة المدنيين في الفاشر لكن رغم إعلان مجلس السيادة وقتها عن موافقته على هدنة لأسبوع لم تصل أي إمدادات إلى الفاشر بعدها.

كما انضمت وزيرة الدولة البريطانية لشؤون التنمية الدولية جيني تشابمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قد طالبت يوم الأحد على لسان كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون الأفريقية مسعد بولس قوات الدعم السريع بحماية المدنيين وعمال الإغاثة وفتح ممرات إنسانية.

وقالت الوزيرة البريطانية إنهم يتابعون بقلق التقارير بالتقدم الملحوظ لقوات الدعم السريع في الفاشر مشددًة على أنه من الضروري أن تبذل قوات الدعم السريع وتحالفها «تأسيس» قصارى جهدهما للوفاء بالتزاماتهما بحماية المدنيين وضمان المرور الآمن والالتزام بالقانون الإنساني الدولي.

الفاشر تحت الأضواء

وأصبحت مدينة الفاشر عاصمة دارفور التاريخية في لحظة فارقة من أزمنة السودانيين القاسية، محط أنظار السودانيين منذ مايو 2024 عندما بدأ حصار الدعم السريع حيث يشير (مؤرخون فاشريون) إلى أن نشأتها تعود إلى نهايات القرن السابع عشر وتميزت بأنها كانت عاصمة لسلطنات متعددة وفي العهد الحديث كانت عاصمة لمحافظة دارفور قبل الحكم الإقليمي في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري. ثم توسعت لاحقًا وازدادت كثافتها السكانية بسبب النزوح إليها من القرى المجاورة لها هربًا من المجاعات والحروب.

وكانت مدينة الفاشر، البالغ مساحتها 802 كيلومترات مربع، تحتضن ربع سكان إقليم دارفور البالغ عددهم نحو 6 ملايين نسمة، بحسب آخر إحصاء سكاني.

وتعد الفاشر موقعًا إستراتيجيًا عسكريًا للجهة التي تسيطر عليها، حيث تقع جغرافيًا في ملتقى طرق ثلاث دول مجاورة للسودان: تشاد، وليبيا، ومصر.

كما يمكن الوصول للمدينة بسهولة من مدن شمال السودان مثل الدبة بالولاية الشمالية، نظرًا لقربها الجغرافي من تلك المناطق. وبالتالي، فهي تعتبر المدخل الوحيد لقوافل المساعدات الإنسانية القادمة من ميناء بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، ومن ثم تُنْقَل المساعدات منها إلى بقية أرجاء الإقليم، بالإضافة إلى احتوائها على مطار دولي.

وتعرضت المدينة لأولى هجماتها في مايو 2023 خلال الشهر الأول من الحرب وتواصلت الهجمات في نفس الشهر واشتدت في سبتمبر ونوفمبر من نفس العام بالتزامن مع هجمات أخرى كانت تشنها قوات الدعم السريع على مدن إقليم دارفور.

وفي بدايات نوفمبر 2023 أضحت الفاشر ملجأ لعشرات الآلاف من النازحين المهجرين من عواصم دارفور التي سقطت في يد الدعم السريع.

وفي الشهر نفسه نوفمبر 2023 بدأت تحذيرات واشنطن من هجوم وشيك واسع النطاق لقوات الدعم السريع على المدينة، وهو ما دفع عدد من قادة الحركات المسلحة إلى إعلان الانحياز في القتال إلى جانب الجيش وتشكيل قوة مشتركة لحمايتها باشتداد المعارك في نوفمبر.

وشملت القوى قوات حركة جيش تحرير السودان، بقيادة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة وزير المالية، جبريل إبراهيم، بالإضافة إلى رئيس حركة تحرير السودان، مصطفى تمبور وحركات مسلحة أخرى.  

وقتها تمكنت القوات المختلفة بالإضافة إلى الجيش من صد هجمات مختلفة على مدى أشهر حتى شهر أبريل 2024 حيث كثفت فيه الدعم السريع هجماتها وبدأت حصارًا مدروسًا على الفاشر بإحراقها أكثر من 40 قرية بالقرب من المدينة الاستراتيجية لتبدأ حصارًا محكما في مايو 2024 استمرّ حتى لحظة سقوط المدينة أمس الأحد بعد أكثر من 265 معركة بحسب تصريحات سابقة لقادة في القوة المشتركة.

وتعيد الأحداث الجارية في الفاشر منذ يوم الأحد واللحظات العصيبة التي يعيشها المدنيون هناك إلى الأذهان عمليات القتل الجماعي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والجماعات القبلية المتحالفة معها في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، في عام 2023 والتي أودت بحياة 15 مدني في فترة وجيزة.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع