منذ أواخر أكتوبر الماضي، تعيش مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، على صفيح ساخن؛ مع سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة بعد حصار خانق استمر 18 شهرًا. وأعقب ذلك انهيار شبه كامل لمؤسسات الدولة، وفرار آلاف السكان، فيما تحوّلت الشوارع إلى أطلال متأثرةً بالدمار والنهب والعنف. وتقلصت قدرة المستشفيات، وخلت أسواق المدينة إلا من أصوات الرصاص والنازحين الباحثين الأمان.
ومع تواتر الشهادات على انتهاكات جسيمة ارتكبتها قوات الدعم السريع ضد المدنيين في الفاشر ومحيطها، وموجة الإدانات الدولية والضغوط الحقوقية المتصاعدة، رصد «مرصد بيم» حملة رقمية منسقة على منصة «إكس»، روّجت مزاعم بأن جماعات إسلامية متطرفة استهدفت مواطنين مسيحيين في السودان. وتقود الحملة حسابات إماراتية وأخرى إسرائيلية، إلى جانب حسابات شخصيات مُصنّفة ضمن اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا.
لاحظ فريق المرصد نشاط هذه الحسابات على منصة «إكس»، التي تركزت على نشر محتوى بشأن الأوضاع في مدينة الفاشر، على نحو منسق، ولكن في سياق بدا مخالفًا تمامًا للواقع؛ حيث تبنت سردية مضللة بصورة واضحة، وعمدت إلى تصوير ما يجري في المدينة على أنه نتاج هجوم جماعات إسلامية متطرفة على المواطنين المسيحيين. في هذا التقرير نوضح أهداف هذه الحملة وتكوينها ونحلل المحتوى المضلل الذي نشرته.
أهداف الحملة:
- تحويل الاتهام من «الدعم السريع» إلى جماعات إسلامية.
- تصوير الأزمة في السودان، ولا سيما الفاشر، وكأنها قضية دينية لكسب تعاطف خارجي.
- إغراق الفضاء بمحتوى مزيف لتشويش الإعلام.
- استغلال صور ومشاهد مؤثّرة لإثارة العواطف.
- نشر المواد عبر حسابات خارجية لزيادة الانتشار.
هندسة الرواية: كيف بُني الخطاب؟
أظهرت تحليلات فريق المرصد أنّ حساب باسم «أمجد طه» هو مهندس سردية هذه الحملة. وصاحب الحساب إماراتي الجنسية. يعرّف نفسه بأنه خبير في الشؤون الإستراتيجية في الشرق الأوسط. ونشر المرصد من قبل تقريرًا عن شبكة سلوك زائف منسق، يقودها الحساب، كانت تنشر محتوى مشابهًا، وتتهم الجيش باستهداف المسيحيين في السودان.
يأتي نشاط حساب «أمجد طه» هذه المرة في إطار جهود مختلفة، إذ يحاول – ضمن حسابات أخرى – نشر محتوى يقدّم سردية مغايرة تهدف إلى تحويل نظر المتلقي – غير السوداني بالأخص – بعيدًا عن انتهاكات «الدعم السريع» في مدينة الفاشر.
مع تصاعد وتيرة الأحداث في الفاشر، شرع حساب «أمجد طه» في نشر محتوى جديد عن الجماعات الإسلامية في السودان، إذ نشر الحساب مزاعم عن استعداد بريطانيا لمنح الجنسية لجهاديّ سوداني، بينما «يُذبح المسيحيون في السودان ونيجيريا على أيدي جماعات إسلامية متطرفة».
زعم حساب «أمجد طه» كذلك أنّ «الجيش الإسلامي السوداني قتل مليوني مسيحي وهجّر ثمانية ملايين واغتصب 15 ألف امرأة، في حين يهاجم اليساريون الإمارات التي تُقرع فيها أجراس الكنائس بحرية وتضم أكثر من 40 كنيسة ويعيش فيها المسيحيون بسلام». وأضاف: «في الإمارات، المعابد اليهودية آمنة والديانات تتعايش».
وفي منشوره، ركّز حساب «أمجد طه» على طرح نقطتين أساسيتين، هما: وجود جماعات إسلامية متطرفة في السودان تستهدف المسيحيين، وإبراز ذلك للعالم، والثانية أن الإمارات، على العكس، تدعم التنوع وتعايش الأديان. لكن اللافت أن الإحصائيات التي قدّمها الحساب بشأن أعداد القتلى المسيحيين والنازحين في السودان لم تُعضد بأيّ تقارير موثقة أو تُسند إلى أيّ مصادر موثوق بها.
عقب ذلك تحول الحساب من الاتهامات المعمّمة للجيش السوداني والجماعات الإسلامية المنضوية تحته – على حد وصفه – إلى التركيز على الفاشر. وبالتزامن مع إعلان قوات الدعم السريع عن سيطرتها على المدينة، نشر الحساب مزاعم عن تورط أفراد الجيش السوداني بـ«قيادة الإخوان المسلمين» في «أكل قلب إنسان بعد قتل رجل وأطفاله في الفاشر»، حسب وصفه. وأضاف: «يرتدي ملابس مصنوعة في تركيا ويحمل أسلحة تركية، ويستخدم طائرات مسيّرة إيرانية، وقد منح إرهابيي حماس (6 آلاف) جوازات سفر سودانية».
ولم يقدّم الحساب أيّ أدلة أو صور أو معلومات موثقة تدعم هذه السردية. فيما أعادت العديد من الحسابات الإسرائيلية والإماراتية نشر المحتوى الذي ينشره، وعقد مقارنة بين ما يحدث في السودان وما يحدث في غزة، مشيرةً إلى أن حماس تقتل الإسرائيليين، فيما تقتل الجماعات الإسلامية في الجيش السوداني المسيحيين، وكل ذلك بـ«دوافع دينية» – حسب زعمها.
ولاحظ فريق المرصد أنّ حسابات ضمن هذه الحملة أعادت توظيف بعض الصور التي انتشرت عقب تصاعد وتيرة الانتهاكات ضد المدنيين في الفاشر على أنها توثق تلك الانتهاكات – أعادت توظيفها لتبدو وكأنها توثق انتهاكات من قبل الجماعات الإسلامية ضد المسيحيين. ونشر حساب باسم «Nima Yamini» هذه الصور، معلقًا عليها بمقطع مصوّر يقول فيه إنها صور «ذبح مسيحيين في السودان، ولا يتكلم عنها أحد لأنه لا وجود لإسرائيل هناك، لكي تلام على ما يحدث»، على حد تعبيره.
كما ذكر الحساب أن «المجازر العنيفة التي ارتكبتها الجماعات الإسلامية بحق المسيحيين في السودان فظيعة إلى درجة أنه يمكنك أن ترى الدماء من الفضاء، عبر صور الأقمار الصناعية». وشارك صورة جوية ملتقطة عبر الأقمار الصناعية، لتعضيد مزاعمه.
ومن الجدير بالذكر، أن تصريحات مشابهة كان قد أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، على منصة «تروث سوشيال» الأسبوع الماضي، اتهم فيها الحكومة النيجيرية باضطهاد المسيحيين، مما أثار حفيظة السيناتور النيجيري علي ندومي ممثل جنوب بورنو عن حزب المؤتمر التقدمي في نيجيريا، الذي رفض التصريحات، ووصفها بـ«الجاهلة والمضللة»، مؤكدًا أن العنف في نيجيريا عشوائي يطال المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء.
دومينيك تارتشينسكي: اليمين المتطرف يشارك في الحملة
نشر حساب باسم «Dominik Tarczyński MEP» صورة من الصور التي نُشرت في سياق انتهاكات الفاشر، قائلًا: «السودان: إبادة المسيحيين على يد الإسلاميين». فيما أعاد حساب «أمجد طه» وحسابات أخرى نشطة في الحملة، نشر المحتوى نفسه لضمان انتشاره.
وتبين للمرصد أن صاحب الحساب دومينيك تارتشينسكي، هو سياسي بولندي وعضو في البرلمان الأوروبي منذ العام 2020 عن حزب القانون والعدالة (PiS) اليميني المحافظ. ويُعرف بمواقفه المتشددة ضد المهاجرين، خاصةً من الدول ذات الأغلبية المسلمة، إذ صرّح مرارًا بأن بولندا لم ولن تستقبل لاجئين مسلمين، معتبرًا ذلك حماية لهوية البلاد. في حين دفعت هذه التصريحات وغيرها مراقبين إلى تصنيف تارتشينسكي ضمن السياسيين الأوروبيين الذين يتبنون خطابًا معاديًا للإسلام.



واتضح لفريق المرصد الرابط ما بين اليمين المتطرف المعادي للإسلام ونشاط هذه الحملة. وهو ما تجلى في منشور آخر على حساب باسم «Tommy Robinson» يتضمن صورة امرأة وطفلها، وصورة أخرى يزعُم أنها لأسيرة إسرائيلية، معلقًا: «اختلفت الأماكن، لكن الإيديولوجيا واحدة»، في إشارة إلى إيديولوجيا الجماعات الإسلامية.
ومع البحث، تبيّن أنّ صاحب الحساب تومي روبنسون، هو ناشط بريطاني مثير للجدل، اشتهر بمشاركته في تأسيس حركة رابطة الدفاع الإنجليزية (EDL)، وهي حركة مصنفة ضمن اليميني المتشدد، تركز على مهاجمة الإسلام والمسلمين في بريطانيا وأوروبا.
وينشط روبنسون في تنظيم مسيرات وتظاهرات ونشر محتوى إعلامي على وسائل التواصل الاجتماعي يبرز خطاب الإسلاموفوبيا. ومن المهم الإشارة إلى أن القاسم المشترك بين هذين الحسابين ليس فقط العداء للإسلام، ولكن الدعم الكامل لإسرائيل، وهو ما برز بدرجة كبيرة في التنسيق مع بقية حسابات الحملة التي شاركت محتوى الحسابين، إلى جانب مشاركة حساب «إسرائيل بالعربية» محتوى الحملة.
قوات الدعم السريع «الإسلامية»
وفي الوقت الذي تروّج فيه الحملة وجود جماعات إسلامية متطرفة داخل الجيش السوداني، تُتداول سردية في بعض الأوساط السياسية والإعلامية، تقول إن قوات الدعم السريع نفسها مرتبطة وتعبر عن جماعة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي. رغم تناقض هذا الادعاء مع الخطاب الرسمي الذي تتبناه قوات الدعم السريع نفسها، إذ تصف خصومها – وعلى رأسهم الجيش السوداني – بأنهم امتداد للحركة الإسلامية وتنظيم الإخوان المسلمين، وتقدّم نفسها بأنها قوة تحارب «الدولة العميقة الإسلامية» التي حكمت السودان لعقود.
أوضح مثال على هذا الخلط هو مشاركة حساب «Leo Housakos» في الحملة، وهو سياسي كندي وعضو في مجلس الشيوخ الكندي عن مقاطعة «كيبيك»، واللافت في مشاركة السيناتور ليو هوساكوس أنه أكد «إبادة المسيحيين في السودان»، لكنه وجّه أصابع الاتهام إلى قوات الدعم السريع «الإسلامية» بدلًا عن «الجماعات الإسلامية في الجيش» كما تصفهم الحملة، في انحراف واضح عن سرديتها والأطراف التي تستهدفها.
وتجدر الإشارة إلى وضوح الارتباط بين خطاب اليمين متمثلًا في هوساكوس، وميله إلى نقد الأصوات المعارضة للحرب الإسرائيلية في غزة، وهو ما أشار إليه بالقول: «الأصوات التي اتهمت إسرائيل بارتكاب إبادة، تصمت الآن عن الحديث عما يجري في السودان».
تفنيد السردية والمحتوى الذي رافقها
تدّعي حسابات الحملة أن الحرب الدائرة في السودان حرب دينية تستهدف المسيحيين، ولكن هذا الطرح يفتقر إلى أيّ أدلة موثقة ولا يستند إلى تقارير ميدانية أو حقوقية معتمدة. وعليه، فإنّ تصوير الحرب وكأنّها «استهداف للدين المسيحي» يُعدّ تضليلًا للرأي العام.
ويُذكر أنّ تقارير حقوقية أشارت إلى أنّ الاستهداف المتكرر لدور العبادة في السودان خلال الحرب الجارية، لم يقتصر على ديانة بعينها، بل شمل المساجد والكنائس على حدٍّ سواء؛ فقد وثّقت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة حوادث قصف مساجد في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، في تقريرها المقدّم إلى مجلس حقوق الإنسان في الثامن من سبتمبر الماضي. وقالت إنها تلقت مزاعم موثوقة بشن هجمات مماثلة على أماكن عبادة أخرى من قِبل كلا الطرفين المتحاربين، بما في ذلك قصف قوات الدعم السريع لكنائس في الفاشر، وقصف القوات المسلحة السودانية لمساجد وكنيسة معمدانية في «ود مدني» والخرطوم.
وأضاف التقرير: «تشير هذه الشهادات إلى أن أماكن العبادة أصبحت ضحايا مباشرة للعمليات العسكرية والصراع المسلح، ما يعكس الطبيعة الشاملة للعنف الذي طال المدنيين من مختلف المعتقدات، دون تمييز ديني واضح».
الصورة والتقنية في خدمة التضليل
وعلى الصعيد نفسه، لاحظ فريق المرصد أنّ «الأدلة البصرية» التي استخدمتها الحسابات النشطة في هذه الحملة، كانت جميعها مضللة ومأخوذة من سياقات مختلفة. فعلى سبيل المثال، تداولت الحسابات صورة امرأة تحتضن طفلها فيما تظهر ظلال بنادق في الصورة، والتي انتشرت على أساس أنها توثق تعرض امرأة وطفلها للقتل على يد «الدعم السريع» في الفاشر. ولكن أثبتت تحقيقات المرصد أنّ الصورة مجتزأة من مقطع فيديو مولّد بالذكاء الاصطناعي، نشره حساب باسم «khoubaib.bz» على «إنستقرام»، مما يبيّن مساعي الحملة إلى استخدام المحتوى البصري الذي انتشر عقب سقوط الفاشر في يد «الدعم السريع»، وإعادة تدويره على نحو يصرف الأنظار عن انتهاكات «الدعم السريع» ويحولها إلى إدانة الجيش.
وتداولت حسابات الحملة كذلك صورة امرأة معلقة على شجرة مع طفلين، على أنهم ضحايا القتل الممنهج ضد المسيحيين في السودان، ولكن الصورة مضلِّلة ولا صلة لها بالسودان، إذ تحقق منها «مرصد بيم» من قبل، وتوصّل إلى أنها نُشرت في 18 فبراير 2025 على منصة «إكس»، على أنها حادثة في تشاد، فيما تُداولت، بعد يوم واحد، في سياق أحداث عنف في جمهورية مالي. وكانت الصورة نفسها قد تداولت على نطاق واسع، في سياق مضلل، عقب سيطرة «الدعم السريع» على الفاشر.
وانتشرت خلال الأيام الماضية صور أقمار أصطناعية من مدينة الفاشر، تُظهر بقعًا حمراء ، في مواقع شهدت معارك بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، حللها مختبر الأبحاث الإنسانية التابع لجامعة «ييل» الأمريكية، مرجحًا أنها تشير إلى وقوع مجازر وعمليات قتل جماعي بعد سيطرة «الدعم السريع» على المدينة. وتداولتها وسائل إعلام دولية، مثل «الجزيرة الإنجليزية» و«أسوشيتد برس».
ورغم قوة المؤشرات البصرية، أكدت تلك التقارير أنّ الصور وحدها لا تكفي لإثبات أنّ البقع الحمراء الظاهرة في الصورة هي دماء، من دون تحقيق ميداني مستقل. ومع ذلك تلقفت حسابات الحملة هذه الصور، ونشرتها مدعيةً أنها أدلة توثق المجازر بحق المسيحيين في السودان على يد الجماعات الإسلامية، وأخرجتها بالكامل من سياقها الأصلي، بهدف تضليل الجمهور وإثارة تعاطف الرأي العام.
تكشف هذه الحملة التي قادتها حسابات داعمة للإمارات وإسرائيل لترويج رواية «استهداف المسيحيين في السودان» على يد جماعات إسلامية متطرفة في الجيش السوداني، عن تضليل مركّب؛ وتبيّن كيف يمكن حرْف صور ومقاطع فيديو متداولة في المنصات الرقمية عن سياقها بالكامل، وخلق «رواية بديلة» من العدم، بالاستناد إلى صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي أو مقتطعة من سياقها الأصليّ.
كذلك، وضح سلوك إعادة النشر والمشاركة في ترويج سردية الحملة عبر حسابات من دول مختلفة إلى تشابك الخيوط من الإمارات وإسرائيل إلى اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا الشمالية، بهدف توجيه الرأي العام نحو قراءة مضللة لطبيعة الصراع في السودان، بدلًا من نقل الواقع الميداني بدقة.
قائمة ببعض الحسابات التي شاركت في الحملة:
الاسم | الرابط |
أمجد طه | |
Tommy Robinson | |
Dominik Tarczyński MEP | |
Nima Yamini | |
Mario Nawfal | |
Senator Leo Housakos | |
Vivid | |
Robin | |
American AF | |
Eyal Yakoby |