مجاهد الدومة
في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي تغير كل شيء في مدينة الفاشر، بعدما توجت قوات الدعم السريع حصارها الممتد لنحو 550 يومًا باستيلاء دموي على آخر معقل رئيسي للسلطة المركزية في إقليم دارفور.
منذ ذلك اليوم تحولت الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور والعاصمة التاريخية للإقليم الذي أنهكته الحروب منذ أكثر من عقدين، إلى منطقة منكوبة. ونظر العالم إلى دماء سكانها من السماء عبر صور الأقمار الاصطناعية.
بعد ساعات من استيلاء قوات الدعم السريع بقيادة قائدها الثاني عبد الرحيم دقلو على الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني، أطلق مقاتلو الدعم السريع حملة عنف دموي داخل المدينة وفي معابر الخروج منها.
على مدى ثلاثة أيام متتالية، صوّر مقاتلوها بأنفسهم عمليات إعدام جماعي قاموا بها ضد رجال عزل في منافذ الخروج من المدينة، كما أعدموا أكثر من 450 شخصًا في مستشفى الولادة، حسبما أكدته منظمة الصحة العالمية، كما أن مقاتليها قد ظهروا في مقطع مصور من المستشفى السعودي وهم يمشون فوق أكوام من الجثث.
لم يكن لدى الفارين من الفاشر خياراتٍ كثيرة للنجاة، والفرار من الجحيم الذي تعيشه المدينة. فالطريق إلى محلية طويلة، وغيرها لم تكن سهلة، ومرصوفة بالترصد والقتل والتنكيل والتجريد من الممتلكات.
وتقع محلية طويلة الخاضعة لسيطرة حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد النور على بعد 55 كيلومترًا غربي مدينة الفاشر. والتي وصل إليها « في الأسبوع الأول لاجتياح قوات الدعم السريع الفاشر ما يفوق الـ 3038 شخص في شكل أفواج، علاوةً على أعداد كبيرة من الأفراد الذين وصلوا راجلين أو على الدواب». يقول الناطق الرسمي لمنسقية النازحين واللاجئين، آدم رجال، لـ«بيم ريبورتس».
وأكد رجال وقوع عشرات الانتهاكات ضد المدنيين في الطريق من الفاشر، من قتل وعنف جنسي وترهيب، ما يتطلب، بحسب ما ذكر، بالإضافة إلى تقديم المساعدة الطبية، ضرورة تقديم الدعم النفسي للناجين والناجيات.
وأضاف رجال «فحتى من خرجوا بصورة جماعية لم ينجوا ويصلوا كلهم بأمان إلى هناك، فوفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود، وصل حوالي 170 طفل إلى طويلة دون مرافقين».
كما وصل جزء من النازحين مصابًا بالأعيرة النارية، بالإضافة لمعاناة البعض من سوء التغذية وأمراضًا أخرى، حيث أحيل – وفق رجال – 450 من المرضى إلى مستشفى طويلة التي مكثوا فيها من يومين إلى ثلاثة من أجل التعافي.
وفي طويلة، تستقبل غرف الطوارئ والمبادرات المحلية الناجين من الفاشر بتوفير الوجبات للنازحين في المنطقة التي يوجد فيها خمسة مخيمات كبيرة، لكن غالبية النازحين من الفاشر متواجدين في مخيمي طويلة العمدة ودبة نايرة.
محلية طويلة ليست الجهة الوحيدة التي لاذ بها الفارون من الفاشر، فمع الاضطراب والتهديد المستمر لحياة الناس، كانوا يتلمسون كل شبرٍ من الأرض ينجيهم من المحرقة، لجأ الآلاف إلى منطقة قرني التي تسيطر عليها الدعم السريع، لكن بحسب شهاداتٍ كثيرة، كان الطريقُ «جحيماً»، جثث القتلى في كل مكان. كما فرت نحو 850 أسرة إلى مدينة الطينة على الحدود مع تشاد في ظروف إنسانية بالغة القسوة.
امتدت موجات النزوح شمالاً أيضاً إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية، والتي وصلها نحو 57 ألف نازح، أغلبهم من الفاشر، قاطعين مئات الكيلومترات عبر طرق صحراوية قاحلة وخطرة، بالإضافة إلى آخرين فروا من مدينة بارا بشمال كردفان والتي سيطرة عليها الدعم السريع بعد يوم واحد فقط من اجتياحها الفاشر.
الحياة مقابل المال
لكن كل هذا القتل والتنكيل لم يكن كافيًا لمقاتلي قوات الدعم السريع، الذين حولوا نزوح السكان إلى تجارة مدرة للأرباح، تمثلت في احتجاز المواطنين وإرسال مقاطع مصورة لذويهم لمقايضة حياتهم مقابل فدى مالية.
يظهر عباس الصادق، وهو دكتور بجامعة الفاشر، محاطًا بعدد من مقاتلي الدعم السريع يطلب من أحد زملائه الأساتذة إرسال مليوني جنيه سوداني في غضون 10 دقائق وإلا قتل، وبعدها يعلق، الزميل المخاطب، إسحاق هادي بأنه دفع المبلغ المطلوب وأن زميله قد أطلق سراحه.
كذلك ظهر عديد من المواطنين في الفاشر في مقاطع مصورة أخرى تحيط بهم عناصر من الدعم السريع وهم يخاطبون ذويهم طلبًا لإرسال فدى مالية من أجل إطلاق سراحهم، أو أن مصيرهم رصاصة قاتلة.
قال أحد ذوي أهالي الفاشر لـ«بيم ريبورتس» إنه دفع نحو 20 مليون جنيه سوداني لإخراج شقيقه وأحد أقربائه من المدينة. وأضاف «لا أعرف ماذا أفعل هناك الكثير من الأهل محتجزين، سأسرق بنكًا». أوقفنا الحديث معه بسبب انهياره وهو يردد «نعتبر الأهل هناك في عداد الموتى».
طلب الفدى المالية، ليست ممارسة جديدة وسط مقاتلي «الدعم السريع»، فقد اتبعوها سابقًا في عدد من المناطق التي سيطرت عليها بما في ذلك العاصمة الخرطوم، وولاية سنار، لكنها تبدت بصورة واسعة في ولاية الجزيرة خلال فترة سيطرتها عليها بين ديسمبر 2023 وحتى مارس وأبريل 2025.
ويحدد مقاتلو «الدعم السريع» مبالغ الفدى المالية بناء على المعلومات التي يتحصلون عليها والتي تشمل الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمختطف وذويه. كما أنها اتخذت سياسة جديدة في الفاشر متمثلة في الحصول على مبالغ للشباب بعد اتهامهم بالانتماء إلى الجيش والقوة المشتركة.
شملت ممارسات الفدى المالية العاملين الصحيين حسبما أكدته شبكة أطباء السودان، والتي قالت إن عناصر «الدعم السريع» أقدموا بعد سقوط الفاشر على اختطاف ستة من الكوادر الطبية وتواصلت مع ذويهم طالبة فدية مالية تبلغ 100 مليون جنيه سوداني للمختطف الواحد مقابل إطلاق سراحه.
مدينة من الجحيم
«الدعم السريع» تحتجز آلاف المواطنين داخل المدينة، علاوةً على منعها الذين حاولوا الفرار منها، خاصةً في طريق طويلة – الفاشر، حيث أظهرت صور الأقمار الاصطناعية تجمعات لأناس يرجح أنهم نازحون تحتجزهم «الدعم السريع».
كما حدد التقرير موقعين لمقابر جماعية، الأول بالقرب من مستشفى الأطفال السابق، أما الموقع الثاني؛ فحدد داخل مقبرة مسجد في حي درجة أولى بالفاشر، إذ أشارت الدلائل وصور الأقمار الاصطناعية إلى وجود مقابر جماعية، الأمر الذي يؤكد وجود ممارسات قتل ممنهج مستمرة داخل المدينة، علاوةً على قل جثامين أو أشخاص أحياء باستخدام مركبات نقل كبيرة داخل المدينة إلى جانب نقل ممتلكات منهوبة.
حدى ما يحدث في الفاشر، منذ 26 أكتوبر 2025، بمكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باعتبار ممارسات «الدعم السريع» جزء من هيكل ونمط عنف أشمل، ليس في الفاشر فقط، بل في إقليم دارفور بأكمله منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، الجرائم التي في حال ثبوتها قد تشكل – بحسب المدعي – «جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي – المُؤسِس للمحكمة».
الفاشر وإعادة ترسيم المشهد
الفاشر والمعروفة بفاشر السلطان نسبة للسلطان عبد الرحمن الرشيد الذي اتخذها عاصمة لسلطنته نهاية القرن الثامن عشر، اكتسبت أهمية كبرى منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، في كونها ملاذً لآلاف النازحين الفارين من أتون الصراع.
وطوال العام الأول من الحرب، كانت الفاشر بعيدةً كل البعد عن الاشتباكات المباشرة، علاوة على أن اتفاقًا رعته قياداتٍ أهلية لتوقيع هدنة ما بين الجيش و«الدعم السريع» نص على إعادة ترسيم وجودهما ما بين شرق وغرب المدينة، إلا أن هذا الاتفاق تصدع في أبريل 2024، وبدأت مرحلة جديدة من الحرب والحصار حول المدينة.
وازداد وضع الفاشر تعقيدًا بعد التغيرات الطارئة في المشهد العسكري والسياسي في البلاد خاصةً مع تشكيل تحالف السودان التأسيسي «تأسيس» بقيادة «الدعم السريع» وعدد من الحركات المسلحة والأجسام السياسية، أبرزها الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، حيث شكل «الدعم السريع» حكومته الموازية في إقليم دارفور الذي يسيطر على غالبية ولاياته، الأمر الذي حدا بقوات الدعم السريع إلى الاستماتة في السيطرة على المدينة، لتهيمن بذلك على معظم مساحة الإقليم.
حصار مميت
خلال 18 شهرًا من حصار الفاشر أعلنت المجاعة في مناطق حولها وتناقص عدد سكانها من أكثر من مليون شخص قبل اندلاع الحرب إلى نحو 260 ألف نسمة نصفهم أطفال قبل سقوطها بيد «الدعم السريع».
تسبب القتال والحصار في الفاشر في مقتل ما يزيد عن 14 ألف مدني، وبالإضافة إلى القصف المدفعي اليومي والمعارك العسكرية المباشرة في مواجهة الجيش السوداني والقوات المتحالفة معه، والتي استعصمت رفقة المواطنين داخل المدينة، استخدمت «الدعم السريع» التجويع سلاح حرب من خلال قطع إمداد الغذاء والدواء عن مواطني المدينة وهو ما أدى في نهاية المطاف وفق استراتيجية عسكرية إلى إفراغ المدينة من سكانها.
وقبيل استيلائها على الفاشر، رفضت قوات الدعم السريع الموافقة على أي هدنة تسمح بمرور ووصول المساعدات الإنسانية إلى المدينة التي عاش سكانها التجويع والوبائيات، لتكتمل حلقات المعاناة مع اجتياحها المدينة في السادس والعشرين من أكتوبر، معلنةً استيلائها على قيادة الفرقة السادسة مشاة التابعة للجيش السوداني، وسيطرتها على كل شبرٍ في المدينة تقرييًا، وسط عمليات تصفية للعزل وتنفيذ إعداماتٍ جماعية.
وقالت لجنة أطباء السودان أن «الدعم السريع» قتلت ما يقارب 1500 شخص خلال ثلاثة أيام فقط، بعد اجتياحها الفاشر، وهم المدنيون العزل الذين كانوا يحاولون الفرار من المدينة، كما أفادت تقارير بتعرض ما لا يقل عن 25 امرأة للاغتصاب، علاوةً على حرق عشرات القرى حول المدينة.
يثير ما يحدث تجاه المواطنين داخل مدينة الفاشر وفي طرق النزوح منها، منذ 26 أكتوبر الماضي، تفاعلاتٍ واسعة وحملات تضامنٍ شعبي من مختلف البلدان، علاوةً على صدور تقارير محلية وإقليمية ودولية ترصد الانتهاكات، بالإضافة إلى مسارات الدعم العسكري الذي تتلقاه «الدعم السريع» من دولٍ عدة؛ كالإمارات العربية المتحدة وكندا، الأمر الذي اتخذ منحاً تصاعدياً مع التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، التي طالب بوقف الدعم الخارجي بالمال والسلاح الذي تتلقاه «الدعم السريع».
حدى كل ذلك بمكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باعتبار ممارسات «الدعم السريع» جزء من هيكل ونمط عنف أشمل، ليس في الفاشر فقط، بل في إقليم دارفور بأكمله منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، الجرائم التي في حال ثبوتها قد تشكل – بحسب المدعي – «جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي – المُؤسِس للمحكمة».
وفي سعيها لمواجهة هذه التحركات، والحصول على اعترافات دولية، تعمل «الدعم السريع» في رفقة حلفائها في “تأسيس” إلى وضع كل الجرائم والانتهاكات في قالب التجاوزات الفردية لعناصرها الميدانية، بالإضافة إلى تشكيل لجان تحقيق، مثلما حدث في مواجهة عبد الله إدريس، المعروف بـ «أبو لولو»، والذي ظهر في عدة فيديوهات من خلال البث المباشر وهو ينفذ إعداماتٍ ميدانية في حق العزل. إلا أن تحالف تأسيس وصف عبر ناطقه الرسمي، علاء الدين نقد، الانتهاكات بأنها «إفرازات لهذه الحرب القميئة» مضيفاً أن هناك حملة تضليل كبيرة من قبل «جيش الحركة الإسلامية الذي أشعل الحرب ويرفض إيقافها» على حد قوله.
على الرغم من ذلك، فإن ما حدث ويحدث تجاه العزل والمدنين في مدينة الفاشر، من عمليات قتل جماعي وإعدامات وانتهاكات، يعيد إلى الأذهان نفس الممارسات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والجماعات المتحالفة معها في عدة مدن أخرى، كمدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، في مايو 2023، وود النورة بولاية الجزيرة، في يونيو 2024، وقرية جنقلي، بولاية سنار في أغسطس 2024. والتي أودت بحياة 15 ألف مدني في فترة وجيزة.