من أغسطس إلى نوفمبر: كيف ساهمت أنشطة التضليل في إرباك الجمهور وتشويه الحقائق؟

شهد المشهد الإعلامي السوداني، بين منتصف أغسطس ومنتصف نوفمبر 2025، موجات متصاعدة من المعلومات المضللة، في ظل استمرار الصراع المسلح وصعوبة الوصول إلى مصادر موثوق بها للمعلومات. في هذا السياق، تحوّلت شبكات التواصل الاجتماعي إلى فضاء رئيس لتداول الأخبار، ما جعلها بيئة خصبة لانتشار المعلومات المضللة، سواء عن قصد أو نتيجة ضعف الوعي وعدم التحقق قبل النشر.

يهدف هذا التقرير إلى رصد أبرز أنماط التضليل التي انتشرت خلال هذه الفترة، وتحليلها، مع تتبّع مساراتها، وتقديم قراءة للاتجاهات العامة للتضليل. ويعتمد التقرير على منهجية تجمع بين الرصد اليومي للمنصات الرقمية، والتحقق من المحتوى عبر أدوات متخصصة، ليقدّم في النهاية صورة شاملة عن ديناميات التضليل خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

أهداف التضليل:

  1. رفع المعنويات أو إضعاف الخصم.
  2. إرباك المتابعين وتشويه الحقائق الميدانية.
  3. التأثير في الرأي العام المحلي والدولي والتغطية على أحداث أو جرائم حقيقية.
  4. استهداف قوى سياسية معينة.
  5. دعاية حربية من خلال شبكات السلوك الزائف المنسق.
  6. إشاعة الذعر بين المواطنين.

رفع المعنويات أو إضعاف الخصم في النزاعات

خلال الحرب الجارية في السودان منذ أبريل 2023، نشطت حملات التضليل على نحو مكثف، لدعم طرفي النزاع، واستخدمت هذه الحملات أدوات رقمية متطورة وحسابات وهمية وصفحات تدار من خارج البلاد، لنشر أخبار كاذبة ومقاطع فيديو مفبركة تهدف إلى التأثير في الرأي العام المحلي والدولي.

ومن ضمن الأهداف التي سعت هذه الحملات إلى تحقيقها كان رفع معنويات الحلفاء وإضعاف معنويات الخصم. وعملت حسابات داعمة للجيش وأخرى داعمة لـ«الدعم السريع» على تحقيق هذا الهدف، من خلال التضليل.

وعلى سبيل المثال، تداولت حسابات على «فيسبوك»، في أغسطس الماضي، مقطع فيديو تظهر فيه مركبات عسكرية تسير في منطقة سهلية، وادعت أنه يوثق تقدّم متحرك «الصيّاد» التابع للقوات المسلحة السودانية نحو إقليم كردفان. وكان الهدف من هذا المحتوى إظهار القوة العسكرية للجيش وسيطرته الميدانية، لرفع الروح المعنوية لداعميه؛ لكن بالبحث عن أصل المقطع المتداول، توصّل فريق المرصد إلى أنه مضلل، إذ تبيّن أنه قديم، نُشر في سبتمبر 2024.

وكذلك استخدمت حسابات داعمة لـ«الدعم السريع» الأسلوب نفسه؛ إذ نشرت حسابات على «فيسبوك» صورتين تُظهران طائرات مروحيّة، وادعت أنهما توثقان وصول الدفعة الأولى من طائرات قتالية من النوعين «AH-64E Apache Guardian» و«Aérospatiale SA342L Gazelle»، مجهزة بصواريخ «Hot ATGM»، لتشكيل القوات الجوية لحكومة تحالف «السودان التأسيسي» الذي تهيمن عليه «الدعم السريع». وبالبحث العكسي عن الصورتين، توصّل فريق المرصد، إلى أنهما نُشرتا في يناير 2025، مع النص الآتي: «المغرب يستعد لاستلام أولى طائراته المروحية من طراز أباتشي AH-64E».

إرباك المتابعين وتشويه الحقائق الميدانية

لاحظ فريق المرصد حالة من الارتباك والتشويش بشأن الحقائق الميدانية في ظل الحرب في السودان، إذ أصبحت المعلومات المتداولة عن سير المعارك والسيطرة الميدانية محلّ شكٍّ وتساؤل مستمرين. فكل طرف من أطراف النزاع يسعى إلى توظيف أدوات الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي لبناء سردية تخدم مصالحه وتُظهر تفوقه العسكري والسياسي، مما أدى إلى تضارب كبير في الأخبار والتقارير القادمة من الميدان. 

وفي هذا السياق، رصد فريق المرصد حسابات عديدة، نشرت، خلال الفترة من أغسطس إلى سبتمبر 2025، معلومات مضللة ومغلوطة عن الوقائع الميدانية، من بينها صورتان تُظهران حريقًا وحطامًا في منطقة يبدو أنها تعرضت للقصف، تداولتهما حسابات على منصة «فيسبوك»، مدعيةً أنها توثق «ضربات عنيفة وموجّهة ودقيقة جدًا» شنّها الجيش السوداني على مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور غربي السودان، ومقرّ الحكومة التي أعلن عنها تحالف «تأسيس» بقيادة «الدعم السريع». وتوصّل فريق المرصد إلى أنّ الصورتين كانتا مولّدتين بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ومع ذلك لقيتا انتشارًا واسعًا، مما خلق حالة من التشويش.

التأثير في الرأي العام المحلي والدولي والتغطية على أحداث حقيقية

يُعَدّ التأثير في الرأي العام المحلي والدولي والتغطية على أحداث أو جرائم حقيقية من أكثر أهداف التضليل شيوعًا في سياق الحرب السودانية؛ فقد استُخدمت حملات إعلامية موجَّهة لتشويه الحقائق وتقديم سرديات بديلة، لا سيما على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تُضخ كميات هائلة من المعلومات المضللة، بهدف صرف الأنظار عن الانتهاكات والجرائم على الأرض. 

وفي الفترة الأخيرة، لا سيما عقب سقوط مدينة الفاشر تحت سيطرة «الدعم السريع»، برزت حملة دعائية خارجية، قادتها حسابات مرتبطة بالإمارات وإسرائيل، روجّت روايات مزعومة بشأن «استهداف المسيحيين في السودان» على يد «جماعات إسلامية متطرفة في الجيش السوداني»، عبر تحريف صور ومقاطع فيديو متداولة في المنصات الرقمية عن سياقها الأصلي –وهو انتهاكات الفاشر– وخلق «رواية بديلة» من العدم، بالاستناد إلى صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي أو مقتطعة من سياقها الأصليّ.

واتضح من خلال مساهمة حسابات من دول مختلفة في مشاركة محتوى الحملة وإعادة نشره، تشابك الخيوط بين الإمارات وإسرائيل واليمين المتطرّف في أوروبا وأمريكا الشمالية، بهدف توجيه الرأي العام نحو قراءة مضللة لطبيعة الصراع في السودان، بدلًا من نقل الواقع الميداني بدقة.

استهداف الفاعلين في الشأن السوداني

لم تعُد حملات التضليل تقتصر على تشويه الوقائع أو تبرير الانتهاكات، بل تحوّلت إلى آلية إستراتيجية لتوجيه الرأي العام والتأثير في الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين؛ فقد استُهدِف مختلف الفاعلين في الشأن السوداني، سواء القوى السياسية والمدنية داخل البلاد أو الأطراف الخارجية المنخرطة في إدارة الملف السوداني، وذلك من خلال بثّ محتوى دعائي مكثف يهدف إلى إعادة تشكيل التصورات والمواقف تجاه أطراف النزاع.

وفي هذا الصدد، رصد فريق المرصد كثيرًا من التصريحات المفبركة التي نُشرت في الآونة الأخيرة، منها تصريح نُسب إلى كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والإفريقية مسعد بولس، وجاء فيه إنهم سمحوا للبرهان بإطلاق أيّ تصريحات يراها مناسبة مقابل الالتزام ببنود التسوية الجارية. وتُداول هذا الادعاء عقب انتشار أنباء غير مؤكدة عن هدنة مرتقبة بين الجيش السوداني و«الدعم السريع» بوساطة أمريكية، ولكن تبيّن أن التصريح كان مختلقًا بالكامل.

ومن أمثلة هذا النوع من التضليل أيضًا التصريح الذي تداولته حسابات على منصتي «فيسبوك» و«إكس» منسوبًا إلى فولكر بيرتس الممثل الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة «يونيتامس» التي انتهت مهمتها في السودان في فبراير 2024، وجاء فيه أنّ «حملة الصور المفبركة كانت لتغطية انسحاب الجيش من الفاشر» غربي السودان، وتوصّل فريق المرصد إلى أنّه مختلق بالكامل أيضًا.

ونالت القوى السياسية المحلية الفاعلة في الشأن السوداني نصيبًا من التضليل، إذ صيغت العديد من البيانات والتصريحات المفبركة، ونُسبت إلى بعض القوى السياسية، من بينها صورتان تداولتهما العديد من الحسابات على منصتي «فيسبوك» و«إكس»، إحداهما تحمل شعار «الحدث السوداني» والأخرى تحمل شعار قناة «الحدث»؛ وفي حين تتضمن الأولى تصريحًا منسوبًا إلى القيادي في تحالف «صمود» خالد عمر يوسف، يقول فيه إن المجتمع الدولي دعا إلى تصنيف قوات الدعم السريع «مليشيا إرهابية» بعد خلافات على مناصب في «حكومة تأسيس»، تتضمن الصورة الأخرى تصريحًا منسوبًا إلى رئيس التحالف عبد الله حمدوك، يقول فيه إنه لا يعترف بـ«حكومة تأسيس» وأن ثمة خلافات بين أعضائها. وتوصلت تحقيقات المرصد إلى أنّ التصريحين مختلقيْن، ولكنهما لقيا –مع ذلك– انتشارًا واسعًا.

شبكات السلوك الزائف المنسق وحملات تضليل

رصَد فريق المرصد أنشطة حسابات داعمة لقوات الدعم السريع وأخرى للجيش السوداني ضمن شبكات سلوك زائف منسّق، وحملات تضليل على منصّات التواصل الاجتماعي، لنشر رسائل موجّهة وصور ومقاطع فيديو مفبركة أو مقتطعة من سياقها الأصليّ. ووفقًا لما رصده فريقنا، فإن العديد من الحسابات الوهمية تُضخِّم سرديات تُظهِر القوة العسكرية والانتصارات الميدانية، وتستهدف خلق صورة مغلوطة ومضللة، مع توظيف مواد معدّلة بصريًا أو من معارك قديمة وتقديمها على أنها حديثة. 

وفي هذا السياق، نشر «مرصد بيم»، في نوفمبر 2025، تحليلًا موسّعًا لحسابات صحفي يمني يدعى أنيس منصور، على «فيسبوك» و«إكس»، بعد رصده محتوى مكثّفًا عن السودان، منذ مارس 2024، إذ تنشر حسابات منصور محتوى داعمًا للجيش السوداني وقائده البرهان والقوات المساندة للجيش، ومعاديًا لـ«الدعم السريع» والإمارات، مع رفض واضح لأيّ حلول تفاوضية لإنهاء الحرب.

وكشف المرصد عن استخدام حسابات منصور–الرسمية والاحتياطية– محتوى مضللًا، من صور ومقاطع فيديو مقتطعة من سياقها الأصلي أو مولّدة بالذكاء الاصطناعي، لتعزيز الصورة العسكرية للجيش والإيحاء بتقدّمه الميداني على «الدعم السريع». كما رصد فريقنا شبكة من الحسابات والصفحات المؤيدة، مثل صفحتي «السعادة» و«محطات متحركة» وحسابي «Omar Shikh» و«نور الهدى خالد»، تعمل على تضخيم محتوى منصور من خلال نشره في مجموعات كبيرة على «فيسبوك»، على نحو منسّق ومنظّم، لتعزيز انتشاره، ما يضع نشاطه ضمن نمط واضح من التضليل الممنهج الداعم لأحد أطراف الحرب في السودان.

وضمن نشاطه في رصد الأنشطة الرقمية المريبة، رصد فريقنا حملة تضليل تقودها حسابات إماراتية على منصة «إكس»، تهدف إلى ترويج صورة مضللة عن السودان بوصفه مركزًا ناشئًا لصناعة مخدر «الكبتاجون» وتجارته، وذلك عبر مقاطع فيديو وتقارير مفبركة تستند جزئيًا إلى تقرير لمعهد «نيو لاينز» الأمريكي، لكنها تتعمد تزييف محتواه وتوجيه الاتهامات نحو الحكومة السودانية والجيش، مع ربطهما، من دون أدلة، بجماعة الإخوان المسلمين وكارتل «Clan del Golfo» الكولومبي وشبكات تهريب دولية، متجاهلةً الإشارة الصريحة التي وردت في تقرير «نيو لاينز» إلى أنّ نشاط إنتاج «الكبتاجون» تركّز، بدرجة أساسية، في مناطق كانت تحت سيطرة «الدعم السريع»، وأن مختبرات رئيسة ضُبطت داخل أحياء محصنة خاضعة لها.

وتضمنت مقاطع أخرى نشرتها حسابات الحملة مزاعم غير موثقة عن تحوّل بورتسودان إلى قاعدة للجريمة المنظمة وتهريب السلاح والمخدرات، مستندةً إلى تقارير إعلامية مجهولة المصدر. 

ويُظهر تحليل «مرصد بيم» أن هذه الحملة أتت ضمن نمط دعائي واسع سبق رصده في حملات إماراتية، وأحيانًا إماراتية–إسرائيلية مشتركة، يستهدف الجيش السوداني وتصويره حليفًا لجماعات متطرفة، بينما تُعاد صياغة الوقائع لإبعاد الشبهات عن «الدعم السريع». وتشير هذه الأنشطة إلى أنّ هذه الحملات جزءٌ من جهود منظمة لتوظيف معلومات مجتزأة بهدف إعادة تشكيل السردية الإعلامية بشأن الحرب في السودان.

إشاعة القلق بين المواطنين

يُعدّ إشاعة القلق بين المواطنين من أكثر أهداف حملات التضليل شيوعًا، إذ تعتمد الجهات التي تدير هذه الحملات على نشر معلومات مضللة بشأن قضايا تمسّ حياة الناس مباشرةً. وتستغل هذه الحملات حساسية الجمهور تجاه الأخبار العاجلة وغياب المعلومات الموثوق بها، في تقديم روايات مقلقة ومربكة للجمهور.

ويُستخدم هذا الأسلوب لخلق بيئة يسهل توجيهها سياسيًا واجتماعيًا، إذ يتحول الخوف إلى أداة ضغط فعّالة، ما يكشف إلى أيّ حدّ يمكن أن يؤثر التضليل في استقرار المجتمعات ويعطّل قدرتها على اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق.

وفي هذا الإطار، نشرت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب تحذير صدر عن وحدة الإنذار المبكر بوزارة الزراعة والري من ارتفاع منسوب النيلين الأزرق والأبيض – نشرت مقطع فيديو مروّع يُظهر تدفق المياه بكثافة في أحد شوارع العاصمة السودانية الخرطوم، مدعيةً أنّ المقطع يوثق فيضان نهر النيل في حي «النخيل» بمدينة أم درمان، وانتشر المقطع انتشارًا واسعًا، لكن توصّل فريق المرصد إلى أنه قديم نُشر في العام 2024.

وتشير هذه الأمثلة مجتمعةً إلى اتساع حملات التضليل التي شهدتها الأشهر الثلاثة الماضية، ومدى تنوّع أساليبها بين نشر محتوى مفبرك ونقل مجتزأ أو محرّف للتقارير واستغلال القضايا الحساسة لإثارة القلق وسط المواطنين، بالإضافة إلى شبكات السلوك الزائف المنسّق التي تعمل على تضخيم الروايات المضللة لخدمة توجهات سياسية معينة. وعمل المرصد على تتبّع هذه الأنشطة وتحليلها وكشف مصادرها، للمساهمة في تعزيز الوعي الرقمي وتمكين الجمهور من التمييز بين المعلومات الموثوق بها والدعاية الموجّهة.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع