
«الكبتاجون» في السودان: إنتاج في مناطق «الدعم السريع» وحملة إماراتية لصرف الأنظار إلى الجيش
أطلقت حسابات إماراتية على منصة «إكس» حملة إعلامية تهدف، فيما يبدو، إلى تصوير السودان وكأنه بؤرة جديدة لصناعة مخدر «الفينيثالين» أو «الكبتاجون» في العالم، متهمةً الحكومة السودانية بالتورط في تصنيعه. ومن ضمن تلك الحسابات حساب باسم «Majed»، نشر تقريرًا مصورًا بعنوان «Sudan’s Captagon Mirage: State Manipulation Amid a Growing Drug Hub»، يزعم أنّ قاعدة بيانات مصادرة «الكبتاجون» التابعة لمعهد «نيو لاينز» أفادت بأن «السودان يتحول بسرعة إلى مركز لإنتاج الكبتاجون».
ويذكر التقرير أن مخدر «الكبتاجون» يُصنّع في مصانع قادرة على إنتاج آلاف الحبوب في الساعة. ويشير إلى أن الحكومة السودانية ضبطت شحنة واحدة في الخرطوم تضم 10 ملايين حبة، ولكنه يزعم أن تلك الضبطية كانت تغطية لنشاطها في تصنيع «الكبتاجون» الذي قالت إنه «لا يُهرّب فقط، بل يُستهلك من قبل المقاتلين في الحرب»، لما له من تأثير في تقليل الجوع والخوف وزيادة اليقظة.
وأضاف حساب «Majed» أن الفوضى في السودان شكلت قاعدة لتصنيع المخدر، وأن «الحكومة السودانية المدعومة من جماعة الإخوان المسلمين تُمكّن هذا النشاط لتمويل حربها الخاصة» – حسب زعمه. ومن ثم عملت العديد من الحسابات على نشر هذا الفيديو وتداوله بكثافة، لربطه بتقرير معهد New Lines Institute «نيو لاينز» الأمريكي الذي تحدث عن نشاط تصنيع «الكبتاجون» في السودان.

وبالتزامن، نشر حساب آخر باسم «Rauda Altenaij» مقطع فيديو آخر يروّج فيه سردية أن تقارير إعلامية كشفت أن السودان أصبح «مركزًا جديدًا لتجارة المخدرات في إفريقيا، في ظل اتهامات للجيش السوداني، بقيادة جماعة الإخوان المسلمين، بالتعاون مع كارتل Clan del Golfo الكولومبي، أحد أكبر مافيات المخدرات في العالم».
ونسَبَ الفيديو إلى تقارير إعلامية مجهّلة مزاعم بشأن «استخدام ميناء بورتسودان لتهريب الكوكايين والأسلحة والبشر إلى أوروبا وإفريقيا، بإشراف كتيبة البراء بن مالك»، لافتًا إلى أنّ «بورتسودان تحوّلت إلى قاعدة لجريمة دولية منظمة، تجمع بين أساليب طالبان وعصابات المخدرات، وسط وجود مرتزقة من تيغراي إلى جانب مقاتلين جهاديين من أفغانستان وسوريا واليمن، بينهم مطلوبون دوليًا».
ويشير التقرير إلى أنشطة أخرى تتعلق بـ«تهريب أسلحة إيرانية وصينية إلى إفريقيا»، مما يجعل من بورتسودان «قاعدة جديدة لتنظيم القاعدة، في وقت يُتهم فيه الجيش السوداني بإدارة شبكة عابرة للحدود تُصدّر الفوضى وتنسق مع أخطر الكيانات الإجرامية عالميًا» – بحسب المقطع الذي كرر نسبة معلوماته إلى «تقارير إعلامية» دون أن يسمّي تقريرًا واحدًا أو يحدد أيّ مصدر واضح للمعلومات التي أوردها. وتجدر الإشارة إلى أنّ حساب «Rauda Altenaij» شارك مقطع الفيديو الذي نشره حساب «Majed» أيضًا بشأن صناعة «الكبتاجون» في السودان.



التحليل والتفنيد:
في هذا الجزء من التقرير، نحلل السرديات التي تبنّتها هذه الحسابات، بالتفصيل، ولكن قبل ذلك، نوضح الإطار العام الذي نسجت فيه الحسابات سرديّتها المضللة؛ ففي 12 أغسطس 2025، نشر معهد «نيو لاينز» (وهو مؤسسة بحثية أمريكية غير حزبية تركز على الشؤون الدولية) تقريرًا بعنوان: Sudan’s Emergence as a New Captagon Hub أو «ظهور السودان بوصفه مركزًا جديدًا للكبتاجون»، أوضح أنه مع تراجع إنتاج «الكبتاجون» في سوريا بعد سقوط بشار الأسد، برز السودان بوصفه بؤرة جديدة لصناعة «الكبتاجون».
وعزا التقرير تصاعد النشاطات المرتبطة بهذا المخدر إلى خصائص الحرب الأهلية، بما فيها: النزاع، وانهيار الدولة، وموقعها الجغرافي القريب من أسواق الخليج. واستغل حساب «Majed» هذا التقرير، بدرجة كبيرة، في المقطع المصوّر الذي نشره، بل اختار له عنوانًا يشبه، إلى حد بعيد، عنوان تقرير «نيو لاينز».
ولكن يلاحظ أن صاحب المقطع تلاعب، على نحو واضح، بمحتوى التقرير الأصلي، إذ أن التقرير لم يذكر شيئًا عن ضبط الحكومة السودانية شحنات من «الكبتاجون» للتغطية على نشاطها في تصنيع المخدر – كما زعم الحساب، بل ذكر أن السودان شكّل مركزًا لتجارة «الكبتاجون» لعقدٍ من الزمان على الأقل. وقد أشارت نتائج البحث الذي أجراه المعهد إلى 19 حادثة ضبط لمخدر «الكبتاجون» في البلاد بين عامي 2015 و2025، أربعة منها كانت عمليات ضبط لمختبرات.
كما ذكر تقرير المعهد أن الأنشطة المرتبطة بـ«الكبتاجون» داخل السودان شهدت طفرة، خاصةً على صعيد الإنتاج، منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وعدّ هذا التصاعد إشارةً إلى تحوّل مهم في الخريطة الجغرافية لإنتاج «الكبتاجون». كما أشار التقرير إلى ضبط ثلاثة مختبرات خلال هذه الفترة، وقال إن هذا العدد يُضاهي ما رُصد في مراكز إنتاج ناشئة أخرى، مثل العراق والكويت وتركيا.
ونوّه المعهد بعمليات ضبط واسعة النطاق، قال إنها وقعت في الخرطوم خلال فترة سيطرة «الدعم السريع» على المدينة، بالإضافة إلى «سجل هذه القوات الحافل بالأنشطة غير المشروعة». ورجّح التقرير أن تنتقل أنشطة إنتاج «الكبتاجون» مع «الدعم السريع» غربًا، في ظل تراجعها أمام الجيش السوداني، لتتمركز في معاقلها في دارفور وعلى طول طرق التهريب التي تربط السودان بالأسواق الإقليمية.
وحذّر التقرير من أن هذه التطورات تشكل تهديدًا بإطالة أمد الحرب في السودان، من خلال توفير مصدر دخل مربح لـ«الدعم السريع»، قبل أن يصل إلى خلاصة أن «إنتاج الكبتاجون قد بدأ يندمج في اقتصاد الحرب السوداني»، ما يُبرز «علاقة جديدة آخذة في التشكل بين هذه التجارة والصراع العسكري في البلاد» – بحسب تقرير المعهد الأمريكي.

وأشار التقرير أيضًا إلى ضبط معملين رئيسيين لإنتاج «الكبتاجون» في شمال الخرطوم، في مناطق كانت خاضعة لسيطرة «الدعم السريع» خلال مراحل مبكرة من الحرب، وتحديدًا حتى مارس 2024. وتوصّل التقرير –بالاستناد إلى هذه الضبطيات– إلى أن عمليات إنتاج واسعة بهذا الحجم لم يكن من الممكن أن تتم دون موافقة ضمنية على الأقل من قوات الدعم السريع، خاصةً أن المنشأتين كانتا تقعان في أحياء مُحصّنة خاضعة لنقاط تفتيش تابعة لها.

ولكن حساب «Majed» تعمّد إغفال كل هذه الحيثيات التي أوردها المعهد الأمريكي في تقريره، بهدف التضليل. كما تجاهل المقطع الذي نشره الحساب الأجزاء التي أشار فيها تقرير «نيو لاينز»، بوضوح، إلى الدور المباشر لقوات الدعم السريع في إنتاج «الكبتاجون»، وسعى –بدلًا من ذلك– إلى ربط النشاط بالحكومة السودانية حصريًا.
ومع أنّ تقرير المعهد لفت، بالفعل، إلى ضلوع كلٍّ من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في «أنشطة مشبوهة»، وإلى تهريب بعض شحنات «الكبتاجون» عبر ميناء بورتسودان شرقي البلاد، مما يشير إلى احتمال حدوث عمليات رشوة أو فساد وسط القوات المحلية أو موظفي الجمارك؛ لكن يظهر، بوضوح، تلاعب الحسابات الإماراتية بالتقرير وتشويهها للحقائق عبر النقل المخل وإضافة تفاصيل غير مذكورة في التقرير، مع تضخيم غير مسنود بأي أدلة أو مصادر موثوقة لدور الإخوان المسلمين وشبكات إيرانية في عمليات التهريب.
أما فيما يتعلق بمقطع الفيديو الذي نشره حساب «Rauda Altenaij»، فيلاحظ أنه بدأ بعبارة «تشير تقارير إعلامية مثيرة للجدل» دون تعيين أيٍّ من هذه التقارير أو ذكر أسماء المؤسسات الصحفية أو البحثية التي نشرتها، مما أضعف سردية الحساب. ومن ثم عرّج الفيديو على مزاعم شراكة بين الجيش السوداني وكارتل «Clan del Golfo»، قائلًا إنّ كتيبة «البراء بن مالك» تحمي خطوط تهريب المخدرات عبر البحر الأحمر، دون تقديم أيّ دليل ملموس أو مرجعية موثقة بشأن هذه الشراكة المزعومة.
دعاية و حملات تضليل مصدرها الإمارات:
منذ ما قبل اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023، رصَد «مرصد بيم» حملات متواصلة من التضليل والدعاية الصادرة من الإمارات، اتخذت أشكالًا متعددة، وتكثّفت مع تصاعد الصراع. وتخدم هذه الحملات مصالح متداخلة، من أبرزها تلميع صورة الإمارات وإظهار أدوارها بوصفها «إيجابية» خلال الحرب، وفي الوقت ذاته ترويج سرديات «الدعم السريع» على حساب الجيش السوداني.
كما ركّزت على تشويه صورة القوات المسلحة عبر ربطها بجماعة الإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة. ولتحقيق هذه الأهداف، لجأت إلى أساليب متعددة، مثل التضليل الإعلامي، والبروباغندا الموجهة، وشبكات الحسابات الزائفة المنسّقة، بالإضافة إلى ما كشفه المرصد عن شبكة تضليل إماراتية – إسرائيلية مشتركة نشطت على منصة «إكس» لترويج روايات مماثلة تهاجم الجيش السوداني وتعيد إنتاج سرديات تخدم مصالح خارجية.
وتميزت هذه الحملة باستخدام شخصيات إعلامية، وإنتاج مقاطع فيديو عالية الجودة، واعتماد اللغة الإنجليزية في محتواها، بما يكشف عن سعيها إلى استهداف الرأي العام الغربيّ والدولي إلى جانب الجمهور المحلي والإقليمي.
الخاتمة:
تكشف الحملة التي أطلقتها حسابات إماراتية على منصات التواصل الاجتماعي عن نمط متكرر من توظيف معلومات مجتزأة من تقارير بحثية، لأغراض التضليل، وذلك من خلال اجتزاء الوقائع وإعادة صياغتها لخدمة سرديّات سياسية موجّهة.
وفيما أورد تقرير معهد «نيو لاينز» الأمريكي معطيات دقيقة بشأن تصاعد نشاط إنتاج «الكبتاجون» في السودان، خاصةً في فترة سيطرة «الدعم السريع» على بعض مناطق الخرطوم – تعمّدت الحسابات المروّجة تجاهل هذه التفاصيل الجوهرية، موجّهةً أصابع الاتهام، حصريًا، إلى الحكومة السودانية والجيش، مع إقحام أطراف، مثل جماعة الإخوان المسلمين وشبكات تهريب دولية، دون تقديم أيّ دلائل موثقة. ويكشف تجاهل هذه الحسابات دور «الدعم السريع» –الذي أشار إليه تقرير المعهد على نحو صريح– في صناعة «الكبتاجون»، محاولةً واضحة لإعادة تشكيل الوقائع ضمن إطار دعائي.