Tag: اتفاق جوبا للسلام

في الذكرى الثانية لتوقيعه.. كيف أصبح مستقبل اتفاق سلام جوبا على المحك؟

“انقلاب 25 أكتوبر ومشاركة بعض قادة الحركات في تخطيطه وتنفيذه، وضع الاتفاق في أزمة سياسية يستحيل معها إيجاد مخرج أو تنفيذ أي مستوى من مستوياته. بل ويجعل وضعية ممثلي الحركات المسلحة في السلطة بعد الانقلاب وضعية غير قانونية”. يقول عضو مجلس السيادة السابق، وأحد كبار مفاوضي الحكومة الانتقالية في اتفاق سلام جوبا، محمد حسن التعايشي.

في 3 أكتوبر 2020م، وقعت الحكومة الانتقالية وفصائل الجبهة الثورية المسلحة، اتفاق سلام جوبا، في جنوب السودان، والذي تضمن 5 مسارات، بما في ذلك مناطق لم تشهد نزاعات مسلحة.

وحازت الفصائل المسلحة المتمركزة في إقليمي دارفور والنيل الأزرق، غرب وجنوب شرقي البلاد، بموجب هذا الاتفاق، على نسبة 25 في المائة من السلطة المركزية والإقليمية ومقاعد افتراضية في المجلس التشريعي الانتقالي الذي لم يتشكل، حتى انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

خلفيات ما قبل التوقيع

قبيل توقيع اتفاق سلام جوبا بيومين، وتحديداً في 1 أكتوبر 2020م، غادر غالبية مسؤولي الحكومة الانتقالية، الخرطوم إلى مدينة جوبا، للاحتفال بتوقيع الاتفاق، الذي شهدته قيادات إقليمية ودولية، على أمل إنهاء واحدة من الحروبات الأهلية المعقدة التي عرفتها البلاد، بدايةً من إقليم دارفور في 2003م، وجنوبي كردفان والنيل الأزرق (المنطقتين) في 2011م.

ومع أن البلاد، شهدت تاريخياً توقيع عشرات اتفاقيات السلام، على مرّ الحقب ما بعد الاستقلال، بين الحكومة وفصائل مسلحة، غالبيتها فشل ولو بعد حين، إلا أن قطاعاً واسعاً من السودانيين، أبدى أمله في أن يضع اتفاق السلام هذه المرة نهايةَ لحقبة الحروب الأهلية التي ظلت تضرب البلاد منذ عام 1955م، وأودت بحياة الملايين.

الأمل الرئيسي الذي ساور السودانيين، كون الاتفاق، يأتي في ظل صفحة جديدة بعد إطاحة النظام البائد، الذي تسبب في تلك الحروب، وذلك رغم القلق والمخاوف والتحفظات، من أن الاتفاق، ضُمنت فيه مناطق لم تشهد نزاعات مسلحة، وعدم شموله لفصائل مسلحة رئيسية بكل من دارفور وجنوبي النيل الأزرق وكردفان (المنطقتين).

اتفاق بدون سلام

عقب توقيع اتفاق الوثيقة الدستورية بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري المحلول، الذي نجم عنه تشكيل مجلس السيادة الانتقالي في أغسطس 2019م، والحكومة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، تم الإعلان عن أنه في غضون  فترة 6 أشهر سيتم توقيع سلام نهائي وشامل، مع الفصائل المسلحة، باعتبار أن السلام يتصدر أولويات مهام الفترة الانتقالية العشرة التي كان حمدوك اتخذها برنامجاً لحكومته.

لكن، منذ توقيع اتفاق السلام في 3 أكتوبر 2020م، بمدينة جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان، قتل مئات المدنيين وحرقت منازل ودمرت مزارع ونزح عشرات الآلاف مجدداً في دارفور خلال هجمات متواترة لمليشيات مسلحة، فيما تلقي سلطة الأمر الواقع باللائمة دائماً على مجهولين.

ومع تواتر أعمال العنف هناك، تم تشكيل قوات مشتركة لحماية المدنيين في دارفور قبل عدة أشهر مكونة من ألفي جندي، فيما كان اتفاق السلام قد نص على تشكيل قوة مشتركة قوامها 12 ألف جندي من قوات الفصائل المسلحة والقوات الحكومة السودانية.

يتساءل المتحدث الرسمي باسم منسقية النازحين واللاجئين، آدم رجال، ما إذا كانت مطالب وتطلعات النازحين، قد تحققت بعد مرور سنتين على توقيع اتفاق سلام جوبا. يجيب رجال بنفسه، ويقول لـ(بيم ريبورتس): “بالطبع لم يتحقق أي مطلب من مطالب النازحين، أو حقوقهم، بل بالعكس زادت المعاناة والانتهاكات والجرائم، خاصة بعد انقلاب 25 أكتوبر”.

ورأى رجال، أن اتفاق سلام جوبا يمثل امتداداً لاتفاقيات السلام التي كان يعقدها نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، باعتباره سلاماً جزئياً. قبل أن يدعو إلى توحد السودانيين على كيفية إسقاط انقلاب 25 أكتوبر، ومن ثم إقامة سلطة مدنية لديها برنامج وشرعية من الشعب السوداني، لوضع لبنة أساسية لبناء السودان على أسس جديدة وقومية تمثل جميع السودانيين، بعيداً عن أي انتماءات، حسبما قال.

اتفاق سلام جوبا، الذي حوى 8 برتوكولات رئيسية و273 بنداً، لا يواجه معضلة عدم التنفيذ وحسب، وإنما يواجه تساؤلات حول مشروعيته نفسها.

“كل نص من نصوص الاتفاق يستوجب التزامًا صارمًا بالفترة الانتقالية ودستور الفترة الانتقالية، مثلما تربط الاتفاقية بين قضايا الانتقال الديمقراطي وقضايا السلام”. يوضح التعايشي في تصريح صحفي نشره بصفحته الرسمية على فيسبوك بمناسبة اليوم العالمي للسلام.

بين سبتمبر 2019، وأكتوبر 2020م، تنقل التعايشي كثيراً بين عاصمتي السودّانين، الخرطوم وجوبا، حيث كان ضمن قيادة الوفد الحكومي التفاوضي مع فصائل الجبهة الثورية المسلحة.

يقول التعايشي “يجب أن نؤكد أن السلام كعملية وكقيمة ليس هو التزامًا نصيًا فحسب، بل هو اتساق وإيمان نظري وسياسي وأخلاقي”. مضيفاً “أن المأزق الذي يواجه اتفاقية جوبا لسلام السودان هو مأزق سياسي وأخلاقي أكثر من كونه قانونيًا.”

واصل التعايشي انتقاداته، قائلاً “هناك مأزق أخلاقي أيضًا، حيث وضع بعض قادة الحركات أنفسهم في أول ظاهرة سياسية يتمرد فيها قادة ثورة مظالم على الحكومة والوضع الدستوري الذي تشكل بموجب اتفاق هم أحد أركانه”، قبل أن يشدد على أن العودة إلى الوضع الانتقالي الديمقراطي بقيادة مدنية؛ هو الطريق الوحيد لتنفيذ الاتفاق وإكمال نواقصه.

لكن، يبدو أن حديث التعايشي جاء متأخراً، مقارنة بالواقع، فبعد سنتين من توقيع الاتفاق وسنة على انقلاب 25 أكتوبر، ارتفع صوت المطالبات، بإلغاء الاتفاق، وفي أفضل الأحوال، تعديله مثّلما، دعا إلى ذلك رئيس الحركة الشعبية ـ شمال التيار الثوري ياسر عرمان، وهو أحد كبار مفاوضي فصائل الجبهة الثورية البارزين. أيضاً نص الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب، الذي صدر قبل عدة أيام ووقعت عليه أكثر من 50 لجنة وكياناً، على إلغاء اتفاق سلام جوبا.
في الوقت الذي تشدد فيه أطراف اتفاق السلام من فصائل الجبهة الثورية المسلحة، على عدم المساس بالاتفاق، تعديلاً أو إلغاءً، معتبرة أن ذلك يقود إلى عودة الحرب مجدداً.
“أي كلام أو دعوة لإلغاء الاتفاقية يعتبر بمثابة إعلان حرب أهلية شاملة في كل أرجاء السودان”، يقول المتحدث الرسمي باسم حركة جيش تحرير السودان ـ قيادة مناوي، الصادق علي النور.

ويضيف النور في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، أن “دعوات إلغاء أو تعديل الاتفاقية يظل في إطار دعوات أصحاب المصالح الذاتية، ولكن حتى الآن لم نسمع من الأطراف التي وقعت الاتفاقية بأن طالبت بإلغاء أو تعديل، لذلك نقول لأصحاب المصالح الذاتية عليهم أن يبحثوا عن مصالحهم بعيداً عن الاتفاقية”.

“هل المشكلة في الاتفاقية أم هنالك أزمة اتفاق سياسي في البلاد التي أدت إلى ما نحن فيه”، يوجه النور سؤاله للداعين إلى إلغاء الاتفاقية. ومع ذلك، يقر النور أنه حتى وبعد مرور عامين على توقيعها لم يتحقق من الاتفاقية ولو نسبة خمسة في المائة.

“ما تحقق هو حصول الموقعين على مناصب في الدولة، ولكن لم يتحقق سلام واستقرار على الأرض، بل زادت معاناة المواطنين ومعدلات الجرائم والانتهاكات والقتل خارج نطاق القانون”. يقول محمد عبد الرحمن الناير المتحدث الرسمي باسم حركة جيش تحرير السودان، قيادة عبد الواحد النور.

يضيف الناير لـ(بيم ريبورتس): “للأسف لقد تمخض جبل اتفاق جوبا، فولد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، بدلاً من أن يكون رافداً وداعماً للثورة وشعاراتها”.

وتابع: “هذا الاتفاق قام على منهج خاطئ ولا يمكن التعويل عليه في تحقيق سلام واستقرار بالسودان، وما بني على خطأ فهو خطأ.. أي اتفاق لا يخاطب جذور الأزمة التاريخية ويحقق التغيير وإعادة هيكلة جميع مؤسسات الدولة وفق أسس قومية جديدة لن يحقق السلام الشامل والعادل والمستدام بالسودان”.

“في إقليم دارفور زادت التفلتات الأمنية وبات المواطن في خطر داهم من المليشيات والمتفلتين الذين باتوا يستهدفون حتى منسوبي الحكومة، كما حدث قبل أيام في قلب مدينة الفاشر عندما اعتدوا على ضابط برتبة عميد يتبع للترتيبات الأمنية، فضربوه بالعصي ونهبوا سيارته عياناً بياناً وأمام مرأى حكومة إقليم دارفور وولاية شمال دارفور اللتين عجزتا عن توفير الأمن حتى لمنسوبيها، ناهيك عن المواطن البسيط”، يوضح عبد الرحمن.

ويقول “هذا هو حصاد سنتين عجاف من اتفاق المغانم الذي تم توقيعه في جوبا، وحينها قلنا إن هذا الاتفاق لن يحق السلام والاستقرار بالسودان ولا بالإقاليم المنكوبة بالحرب، لجهة أنه اتفاق معيب شكلاً ومضموناً، وصمم لمخاطبة قضايا الأشخاص ونزواتهم السلطوية وليس مخاطبة قضايا الوطن”.

فيما يعود التعايشي ويشير، إلى أن اتفاقات السلام التي تُوقع بين جماعات غير رسمية وحكومات تمثل الدولة، تتمتع بوضع قانوني سواء عبر القانون الدولي أو ضمن إطار القانون المحلي للدولة. حيث يوسع القانون الدولي الحديث بشكل عام ليشمل حماية اتفاقات السلام بين الدولة والجهة الفاعلة من غير الدولة. لقد حظيت الاتفاقية بتأييد دولي كبير من الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الأفريقي، ودول الترويكا والجامعة العربية، لكنه يربط ذلك بالعودة إلى المسار الديمقراطي بقيادة مدنية.

خلافات متصاعدة

مع وصول قادة فصائل الجبهة الثورية المسلحة، إلى العاصمة السودانية الخرطوم في 15 فبراير 2020م، وانضمامهم إلى هياكل السلطة الانتقالية (مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين)، في فبراير 2021م، بدا لوهلة، أن صفحة جديدة من الحياة السياسية قد تشهدها البلاد، خصوصاً فيما يتعلق بالأوضاع في إقليمي النيل الأزرق ودارفور، بالإضافة إلى ولاية جنوب كردفان.

ولكن، على عكس ما كان مأمولاً منها، بدأت الحكومة الانتقالية الثانية، التي أعاد تشكيلها حمدوك، وضمت أحزاباً سياسية وأطراف السلام، تأخذ طابعاً صراعياً سياسياً، ليس بدءاً بمقاعد المجلس التشريعي الانتقالي الافتراضية، أو انتهاء بتنامي العداء السياسي بين الحرية والتغيير وفصائل الجبهة الثورية المسلحة، والذي توّج باعتصام القصر الجمهوري في 16 أكتوبر 2021م، حتى وقوع الانقلاب بعد 9 أيام.

وصلت الخلافات بين الطرفين إلى الذروة، مع إطلاق قوى الحرية والتغيير، لإعلان سياسي بحضور حمدوك في الثامن من سبتمبر 2021م بقاعة الصداقة بالخرطوم، رأت مجموعة من الفصائل المسلحة، أن ما تم عمل إقصائي ضدها، لتصدر بدورها ميثاقاً سياسياً لاحقاً.

مرّ عام الاتفاق الأول، من أكتوبر 2020 إلى أكتوبر 2021، أي حتى وقوع الانقلاب، في خضم صراعات سياسية، في الوقت الذي لم يتم إحراز أي تقدم في اتفاق السلام، خاصة اتفاق الترتيبات الأمنية، ولم يعد أي من النازحين واللاجئين في دارفور إلى مناطقهم الأصلية.

تزامن ذلك، مع موجة نزاعات أهلية هي الأعنف منذ سنوات في دارفور، قتل فيها مئات الأشخاص برصاص مسلحين دون أن يتم تقديم المجرمين للعدالة.

في العام الثاني لاتفاق سلام جوبا، أي بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، تفاقمت الأزمة السياسية في البلاد، وبدلاً من أن تمضي عملية السلام قدماً، باتت البلاد تقف على حافة المجهول، في خضم صراع سياسي حاد وسيولة أمنية متنامية.

خط زمني توثيقي لإتفاقيات السلام في السودان منذ العام 1965 إلى 2020م

على مدى نحو 6 عقود، بدءاً من عام 1965م، عقد السودانيون 34 اتفاقية سلام ومؤتمراً، في محاولة لإنهاء انقساماتهم السياسية وحروباتهم الأهلية التي انطلقت شرارتها في الثامن عشر من أغسطس 1955م.
كان اتفاق سلام جوبا الموقع في 3 يونيو2020م، آخر محاولات السودانيين لإنهاء حروباتهم الأهلية الدامية.

توضح الخريطة الزمنية التي أعدتها (بيم ريبورتس)، أطراف الاتفاقيات وتاريخها ومكان توقيعها.

ما الذي تحقق لسكان دارفور بعد عام ونصف على توقيع اتفاق جوبا للسلام ؟

“ما نريده كضحايا هو تحقيق العدالة والإنصاف لنا وأسرنا، ومحاسبة كل مرتكبي الجرائم في دارفور ومنع حدوث أي جرائم جديدة”، بهذه العبارات المحتشدة بالوضوح، يتحدث آدم رجال، الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، في إفادته حول آمال وتطلعات سكان مخيمات النزوح، الذين شردتهم سنوات الدم والحرب والرصاص، التي غيرت وجه دارفور مرة وللأبد.

وشهد إقليم دارفور حرباً  مستمرة، اشتعل أوارها لأول مرة في العام 2003 أودت بحياة أكثر من 300 ألف شخص، فيما تسببت في تهجير أكثر من مليوني شخص إلى مناطق أخرى داخل السودان تكتظ بآلامهم مخيمات النزوح، وخارجه كلاجئين في الدول المجاورة.

وانتظم ضحايا الحرب الذين لاذوا بمخيمات النزوح في تنظيمات أهلية محلية، من ضمنها المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، التي يتحدث بإسمها آدم رجال، ويشارك بفاعلية في  جميع ما يختص بشؤون النازحين والمشردين داخلياً من سكان دارفور.

وعلى الرغم من علو صوت المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، لما تمثله من صوت لأصحاب المصلحة الفعليين في أي اتفاق سلام في ذلك الجزء من البلاد الذي يعاني ويلات الحرب وآثارها المدمرة، إلا أن مشاورات اتفاق سلام جوبا، الموقع بين الحكومة الانتقالية (وقتها) والحركات المسلحة بدارفور، لم تستصحب أصوات النازحين ولا ممثليهم الفعليين على الأرض.

يقول الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، آدم رجال في إفادته لـ(بيم ريبورتس) :”لم تتم مشاورتنا في اتفاقية سلام جوبا، و اعترضنا عليها منذ المفاوضات، بل تم تمثيل النازحين بالوكالة وليس بإرادتهم، وبذلك فإن اتفاقية جوبا مثلها واتفاقيات أبوجا ونيفاشا، فهي لا تلبي طموحات وتوقعات الضحايا، ولا توقف نزيف الدماء، وهي ببساطة اتفاقية للوصول إلى السلطة والمال”.

رفض واسع للاتفاقية في أوساط النازحين

وتأكيداً لما ذهب إليه آدم رجال في حديثه لـ(بيم ريبورتس) حول رفض النازحين لاتفاقية جوبا، فقد تزامنت مع توقيع الاتفاقية موجات متصاعدة من الاحتجاجات الشعبية الواسعة بمخيمات النزوح وغالبية مناطق دارفور،  وشهد الإقليم المضطرب، إبان الاشهُر التي سبقت توقيع الاتفاق، رفضاً واسع النطاق من قبل النازحين في عديد من مخيمات النزوح بدارفور، ونظّم آلاف النازحين مواكب و مسيرات احتجاجية رافضة لاتفاق جوبا، ورفعت تلك المواكب لافتات توضح أن اتفاق جوبا لا يمثل النازحين وقضاياهم.

فتحت ثورة ديسمبر المجيدة لشعوب السودان نوافذاً للآمال، ولسكان مخيمات النزوح بدارفور وعوداً و أحلاماً بالسلام والعدالة، وتحقيق آمالهم في العودة إلى قراهم وإنهاء سنوات الحرب وتحقيق الأمن والاستقرار. وكان الحديث عن اتفاق للسلام بين بين الحكومة الانتقالية (حينها) والحركات المسلحة يفتح مساحات جديدة من الأمل للنازحين، ولكن جاء الاتفاق مخيباً لآمال قاطني مخيمات النزوح ومشردي الحروب والاقتتال، وفقاً لإفادة آدم.

اتفاق متعثر ونتائج مخيبة

بعد جلسات متعددة من المفاوضات، استمرت نحو 10 أشهر، جرى التوقيع على اتفاقية جوبا للسلام في 3 أكتوبر 2020م، بدولة جنوب السودان بين الحكومة الانتقالية حينها وعدد من الحركات المسلحة، وبالإضافة لمناقشة قضايا قومية فإن الاتفاق اشتمل على عدد من الاتفاقيات الثنائية بناء على التوزيع الجغرافي وهي ما عرفت بالـ مسارات. يتكون الاتفاق من 10 أبواب ستة من هذه الأبواب عن الاتفاقات الثنائية والمسارات المختلفة، وهي تغطي قضايا واسعة مثل تقاسم السلطة، والعدالة الانتقالية، وقضايا المزارعين والرحل، وقضية الثروة، إلى جانب قضايا النازحين واللاجئين، والتعويضات وجبر الضرر؛ بالإضافة إلى مصفوفة زمنية لتنفيذ بنود الاتفاق. 

استمرار تدهور الأوضاع

في ديسمبر 2019، وأثناء سير مفاوضات السلام في جوبا، اشتعلت الصراعات في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، وعلى خلفية هذه الأحداث علّق تحالف الجبهة الثورية المفاوض باسم مسار دارفور سير المفاوضات، وطالب بضرورة التحقيق في الجرائم المرتكبة في حق المواطنين.

لاحقاً استؤنفت عملية التفاوض لتصل بعد شهور إلى اتفاق كانت من ضمن بنوده حماية المدنيين في دارفور، وبصورة خاصة النازحين، وإنشاء مفوضية لإعادة إعمار دارفور خلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد توقيع الاتفاقية، بالإضافة إلى إنشاء مفوضية الأراضي، ودعم المشاريع الاستراتيجية، خاصة في مجال الزراعة.

وبدلاً من السعي نحو تحقيق أهداف الاتفاق الرامية إلى حماية المدنيين بدارفور وتوفير الأمن لهم، كانت المفارقة أن شهدت دارفور مزيداً من التدمير وحرق القرى، وعسكرة الحياة المدنية عبر انتشار المليشيات المسلحة، وفي مجال الزراعة فقد فشل الموسم الزراعي بسبب تدهور الوضع الأمني وعدم تمكن المزارعين من فلاحة أراضيهم، بالإضافة إلى انتشار حوادث السرقة والنهب تحت تهديد السلاح، كان أبرزها حادثة نهب مقر برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، في مدينة الفاشر، بواسطة مجموعات مسلحة.

علاوة على ذلك، فقد تصاعدت موجات النزوح والتشرد الداخلي، وتشير العديد من الإحصائيات إلى أن اقليم دارفور قد شهد نزوح أكثر من 230 ألف شخص، في فترة أقل من أربعة أشهر فقط في الفترة ما بين يناير وأبريل من العام 2021م، بزيادة أربعة أضعاف لعدد النازحين للعام 2020م بأكمله، إذ شهد نزوح 53 ألفاً خلال كل العام .

وتؤكد مؤشرات تدهور الأوضاع بدارفور، خلال وعقب توقيع اتفاق سلام جوبا، ما ذهب إليه الناطق باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، آدم رجال، في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، إذ يقول “الاتفاقية تسببت في أوضاع أمنية مزرية جداً في دارفور”، ويصفها بأنها “ولدت ميتة”، وذلك للرفض الذي قوبلت به، علاوة على تفاقم الأوضاع بعد توقيعها.

تفاقم سوء الأوضاع على الأرض بإقليم دارفور عقب توقيع اتفاق جوبا للسلام، تدعمها العديد من الشواهد والمؤشرات، لا سيما تصاعد حدة العنف والاقتتال، و حوادث النهب، والإفلات من العقاب، وغياب سيادة القانون، كما تدعمها أقوال الشهود، وفي هذا الصدد يقول المحامي والناشط الحقوقي عبد الباسط الحاج لـ(بيم ريبورتس) : “ظل الحال كما كان عليه قبل الاتفاق و ربما ساءت الأحوال في أوقات أخري و تضاعفت مؤشرات العنف بشكل واضح”.

ويضيف الحاج أن أوضاع النازحين أصبحت أخطر كما ازداد عدد النازحين مرات عديدة خاصة في غرب دارفور وجنوب دارفور نتيجة لحالات العنف و بسبب المليشيات القبلية المسلحة. لم تسجل حالات عودة طوعية لأن أوضاع النازحين سيئة حتى داخل المخيمات و بالتالي انعدام الأمن سبب كافي لبقاء الوضع كما كان عليه قبل الاتفاق.

اتفاق السلام في ظل الانقلاب

سبق انقلاب 25 أكتوبر 2021 العديد من الخطوات التمهيدية للانقلاب ، التي قادتها مجموعة منشقة من تحالف (الحرية والتغيير)، نظمّت اعتصاماً أمام القصر الرئاسي بالخرطوم، استمر حتى قبيل يوم واحد من الانقلاب، وكانت أحد مطالب ذلك الاعتصام هو حل الحكومة الانتقالية حينها. وكان من الداعين لهذا الاعتصام والمشاركين فيه كل من مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة جيش تحرير السودان، وجبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة ووزير المالية في الحكومة المطالب بحلها، والذي رحب بالانقلاب ووصفه بـ”الخطوات الضرورية”.

من جهة ثانية، لم تشارك الحركات الأخرى الموقعة على اتفاق جوبا بصورة معلنة، بل أن بعض قادتها رفضوا الانقلاب بعد وقوعه، لكنهم تراجعوا عن ذلك وشاركوا في مجلس السيادة الذي أعاد تشكيله البرهان بعد الانقلاب والذي كان من ضمن قراراته التمسك باتفاق سلام جوبا، وبذلك استمر جبريل إبراهيم كوزير مالية، وأضيف كل من الهادي إدريس والطاهر حجر لمجلس السيادة الجديد.

انحياز قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، كان بمثابة مسمار على نعش الاتفاق، وكذا بيّن مدى مفارقة قادة الحركات لواقع سكان الإقليم، ففي أعقاب الانقلاب مباشرة انتظمت الشوارع السودانية بلا استثناء في مواكب منددة بالانقلاب ورافضة لتدخل الجيش في السياسة، وكانت شوارع دارفور الحاضر الابرز، إذ نظم النازحين وغيرهم من سكان الإقليم مواكب منددة بالانقلاب، كما نظمت مظاهرات لاحقة رافضاً لزيارة قائد الانقلاب إلى مدينة الفاشر.

وتعيد هذه الأحداث التساؤل عن إذا ما غير اتفاق جوبا من  تمثيل الحركات الموقعة عليه لقضايا ومواطني دارفور، وفي هذا السياق يقول  المحامي والناشط الحقوقي عبد الباسط الحاج بالقول: لا أعتقد أن الإتفاق قد غير الصورة التمثيلية للحركات في دارفور ذلك لأن أغلب المواطنين في دارفور يتعاملون مع هذه الحركات بأنها كانت تسعى إلي تحقيق مكاسبها الشخصية ومصالح منسوبيها القياديين فقط دون الالتزام بالحقوق الأساسية للمواطنين.

ويضيف الحاج:”من جانب آخر فإن أطراف العملية السلمية كان يجب عليهم تحقيق ما تيسر لهم من مطلوبات حل الأزمة في دارفور مثل ضمان إيقاف الحرب وإنهاء مظاهر الميليشيات المسلحة القبلية و حماية الموسم الزراعي ، وهو ما لم يحدث قطعاً.

فبعد ثورة شعبية انتظمت كل أرجاء البلاد، كان رجاء السودانيين عامة، وسكان دارفور بصورة خاصة في انتظار سلام ينهي سنوات الحرب الطويلة وآثارها التي يشهدها الإقليم، إلا أن واقع الحال واصوات الناس هناك تقول إن الحرب لم تضع أوزارها بعد.