في الذكرى الثانية لتوقيعه.. كيف أصبح مستقبل اتفاق سلام جوبا على المحك؟

“انقلاب 25 أكتوبر ومشاركة بعض قادة الحركات في تخطيطه وتنفيذه، وضع الاتفاق في أزمة سياسية يستحيل معها إيجاد مخرج أو تنفيذ أي مستوى من مستوياته. بل ويجعل وضعية ممثلي الحركات المسلحة في السلطة بعد الانقلاب وضعية غير قانونية”. يقول عضو مجلس السيادة السابق، وأحد كبار مفاوضي الحكومة الانتقالية في اتفاق سلام جوبا، محمد حسن التعايشي.

في 3 أكتوبر 2020م، وقعت الحكومة الانتقالية وفصائل الجبهة الثورية المسلحة، اتفاق سلام جوبا، في جنوب السودان، والذي تضمن 5 مسارات، بما في ذلك مناطق لم تشهد نزاعات مسلحة.

وحازت الفصائل المسلحة المتمركزة في إقليمي دارفور والنيل الأزرق، غرب وجنوب شرقي البلاد، بموجب هذا الاتفاق، على نسبة 25 في المائة من السلطة المركزية والإقليمية ومقاعد افتراضية في المجلس التشريعي الانتقالي الذي لم يتشكل، حتى انقلاب 25 أكتوبر 2021م.

خلفيات ما قبل التوقيع

قبيل توقيع اتفاق سلام جوبا بيومين، وتحديداً في 1 أكتوبر 2020م، غادر غالبية مسؤولي الحكومة الانتقالية، الخرطوم إلى مدينة جوبا، للاحتفال بتوقيع الاتفاق، الذي شهدته قيادات إقليمية ودولية، على أمل إنهاء واحدة من الحروبات الأهلية المعقدة التي عرفتها البلاد، بدايةً من إقليم دارفور في 2003م، وجنوبي كردفان والنيل الأزرق (المنطقتين) في 2011م.

ومع أن البلاد، شهدت تاريخياً توقيع عشرات اتفاقيات السلام، على مرّ الحقب ما بعد الاستقلال، بين الحكومة وفصائل مسلحة، غالبيتها فشل ولو بعد حين، إلا أن قطاعاً واسعاً من السودانيين، أبدى أمله في أن يضع اتفاق السلام هذه المرة نهايةَ لحقبة الحروب الأهلية التي ظلت تضرب البلاد منذ عام 1955م، وأودت بحياة الملايين.

الأمل الرئيسي الذي ساور السودانيين، كون الاتفاق، يأتي في ظل صفحة جديدة بعد إطاحة النظام البائد، الذي تسبب في تلك الحروب، وذلك رغم القلق والمخاوف والتحفظات، من أن الاتفاق، ضُمنت فيه مناطق لم تشهد نزاعات مسلحة، وعدم شموله لفصائل مسلحة رئيسية بكل من دارفور وجنوبي النيل الأزرق وكردفان (المنطقتين).

اتفاق بدون سلام

عقب توقيع اتفاق الوثيقة الدستورية بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري المحلول، الذي نجم عنه تشكيل مجلس السيادة الانتقالي في أغسطس 2019م، والحكومة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، تم الإعلان عن أنه في غضون  فترة 6 أشهر سيتم توقيع سلام نهائي وشامل، مع الفصائل المسلحة، باعتبار أن السلام يتصدر أولويات مهام الفترة الانتقالية العشرة التي كان حمدوك اتخذها برنامجاً لحكومته.

لكن، منذ توقيع اتفاق السلام في 3 أكتوبر 2020م، بمدينة جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان، قتل مئات المدنيين وحرقت منازل ودمرت مزارع ونزح عشرات الآلاف مجدداً في دارفور خلال هجمات متواترة لمليشيات مسلحة، فيما تلقي سلطة الأمر الواقع باللائمة دائماً على مجهولين.

ومع تواتر أعمال العنف هناك، تم تشكيل قوات مشتركة لحماية المدنيين في دارفور قبل عدة أشهر مكونة من ألفي جندي، فيما كان اتفاق السلام قد نص على تشكيل قوة مشتركة قوامها 12 ألف جندي من قوات الفصائل المسلحة والقوات الحكومة السودانية.

يتساءل المتحدث الرسمي باسم منسقية النازحين واللاجئين، آدم رجال، ما إذا كانت مطالب وتطلعات النازحين، قد تحققت بعد مرور سنتين على توقيع اتفاق سلام جوبا. يجيب رجال بنفسه، ويقول لـ(بيم ريبورتس): “بالطبع لم يتحقق أي مطلب من مطالب النازحين، أو حقوقهم، بل بالعكس زادت المعاناة والانتهاكات والجرائم، خاصة بعد انقلاب 25 أكتوبر”.

ورأى رجال، أن اتفاق سلام جوبا يمثل امتداداً لاتفاقيات السلام التي كان يعقدها نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، باعتباره سلاماً جزئياً. قبل أن يدعو إلى توحد السودانيين على كيفية إسقاط انقلاب 25 أكتوبر، ومن ثم إقامة سلطة مدنية لديها برنامج وشرعية من الشعب السوداني، لوضع لبنة أساسية لبناء السودان على أسس جديدة وقومية تمثل جميع السودانيين، بعيداً عن أي انتماءات، حسبما قال.

اتفاق سلام جوبا، الذي حوى 8 برتوكولات رئيسية و273 بنداً، لا يواجه معضلة عدم التنفيذ وحسب، وإنما يواجه تساؤلات حول مشروعيته نفسها.

“كل نص من نصوص الاتفاق يستوجب التزامًا صارمًا بالفترة الانتقالية ودستور الفترة الانتقالية، مثلما تربط الاتفاقية بين قضايا الانتقال الديمقراطي وقضايا السلام”. يوضح التعايشي في تصريح صحفي نشره بصفحته الرسمية على فيسبوك بمناسبة اليوم العالمي للسلام.

بين سبتمبر 2019، وأكتوبر 2020م، تنقل التعايشي كثيراً بين عاصمتي السودّانين، الخرطوم وجوبا، حيث كان ضمن قيادة الوفد الحكومي التفاوضي مع فصائل الجبهة الثورية المسلحة.

يقول التعايشي “يجب أن نؤكد أن السلام كعملية وكقيمة ليس هو التزامًا نصيًا فحسب، بل هو اتساق وإيمان نظري وسياسي وأخلاقي”. مضيفاً “أن المأزق الذي يواجه اتفاقية جوبا لسلام السودان هو مأزق سياسي وأخلاقي أكثر من كونه قانونيًا.”

واصل التعايشي انتقاداته، قائلاً “هناك مأزق أخلاقي أيضًا، حيث وضع بعض قادة الحركات أنفسهم في أول ظاهرة سياسية يتمرد فيها قادة ثورة مظالم على الحكومة والوضع الدستوري الذي تشكل بموجب اتفاق هم أحد أركانه”، قبل أن يشدد على أن العودة إلى الوضع الانتقالي الديمقراطي بقيادة مدنية؛ هو الطريق الوحيد لتنفيذ الاتفاق وإكمال نواقصه.

لكن، يبدو أن حديث التعايشي جاء متأخراً، مقارنة بالواقع، فبعد سنتين من توقيع الاتفاق وسنة على انقلاب 25 أكتوبر، ارتفع صوت المطالبات، بإلغاء الاتفاق، وفي أفضل الأحوال، تعديله مثّلما، دعا إلى ذلك رئيس الحركة الشعبية ـ شمال التيار الثوري ياسر عرمان، وهو أحد كبار مفاوضي فصائل الجبهة الثورية البارزين. أيضاً نص الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب، الذي صدر قبل عدة أيام ووقعت عليه أكثر من 50 لجنة وكياناً، على إلغاء اتفاق سلام جوبا.
في الوقت الذي تشدد فيه أطراف اتفاق السلام من فصائل الجبهة الثورية المسلحة، على عدم المساس بالاتفاق، تعديلاً أو إلغاءً، معتبرة أن ذلك يقود إلى عودة الحرب مجدداً.
“أي كلام أو دعوة لإلغاء الاتفاقية يعتبر بمثابة إعلان حرب أهلية شاملة في كل أرجاء السودان”، يقول المتحدث الرسمي باسم حركة جيش تحرير السودان ـ قيادة مناوي، الصادق علي النور.

ويضيف النور في حديثه لـ(بيم ريبورتس)، أن “دعوات إلغاء أو تعديل الاتفاقية يظل في إطار دعوات أصحاب المصالح الذاتية، ولكن حتى الآن لم نسمع من الأطراف التي وقعت الاتفاقية بأن طالبت بإلغاء أو تعديل، لذلك نقول لأصحاب المصالح الذاتية عليهم أن يبحثوا عن مصالحهم بعيداً عن الاتفاقية”.

“هل المشكلة في الاتفاقية أم هنالك أزمة اتفاق سياسي في البلاد التي أدت إلى ما نحن فيه”، يوجه النور سؤاله للداعين إلى إلغاء الاتفاقية. ومع ذلك، يقر النور أنه حتى وبعد مرور عامين على توقيعها لم يتحقق من الاتفاقية ولو نسبة خمسة في المائة.

“ما تحقق هو حصول الموقعين على مناصب في الدولة، ولكن لم يتحقق سلام واستقرار على الأرض، بل زادت معاناة المواطنين ومعدلات الجرائم والانتهاكات والقتل خارج نطاق القانون”. يقول محمد عبد الرحمن الناير المتحدث الرسمي باسم حركة جيش تحرير السودان، قيادة عبد الواحد النور.

يضيف الناير لـ(بيم ريبورتس): “للأسف لقد تمخض جبل اتفاق جوبا، فولد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، بدلاً من أن يكون رافداً وداعماً للثورة وشعاراتها”.

وتابع: “هذا الاتفاق قام على منهج خاطئ ولا يمكن التعويل عليه في تحقيق سلام واستقرار بالسودان، وما بني على خطأ فهو خطأ.. أي اتفاق لا يخاطب جذور الأزمة التاريخية ويحقق التغيير وإعادة هيكلة جميع مؤسسات الدولة وفق أسس قومية جديدة لن يحقق السلام الشامل والعادل والمستدام بالسودان”.

“في إقليم دارفور زادت التفلتات الأمنية وبات المواطن في خطر داهم من المليشيات والمتفلتين الذين باتوا يستهدفون حتى منسوبي الحكومة، كما حدث قبل أيام في قلب مدينة الفاشر عندما اعتدوا على ضابط برتبة عميد يتبع للترتيبات الأمنية، فضربوه بالعصي ونهبوا سيارته عياناً بياناً وأمام مرأى حكومة إقليم دارفور وولاية شمال دارفور اللتين عجزتا عن توفير الأمن حتى لمنسوبيها، ناهيك عن المواطن البسيط”، يوضح عبد الرحمن.

ويقول “هذا هو حصاد سنتين عجاف من اتفاق المغانم الذي تم توقيعه في جوبا، وحينها قلنا إن هذا الاتفاق لن يحق السلام والاستقرار بالسودان ولا بالإقاليم المنكوبة بالحرب، لجهة أنه اتفاق معيب شكلاً ومضموناً، وصمم لمخاطبة قضايا الأشخاص ونزواتهم السلطوية وليس مخاطبة قضايا الوطن”.

فيما يعود التعايشي ويشير، إلى أن اتفاقات السلام التي تُوقع بين جماعات غير رسمية وحكومات تمثل الدولة، تتمتع بوضع قانوني سواء عبر القانون الدولي أو ضمن إطار القانون المحلي للدولة. حيث يوسع القانون الدولي الحديث بشكل عام ليشمل حماية اتفاقات السلام بين الدولة والجهة الفاعلة من غير الدولة. لقد حظيت الاتفاقية بتأييد دولي كبير من الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الأفريقي، ودول الترويكا والجامعة العربية، لكنه يربط ذلك بالعودة إلى المسار الديمقراطي بقيادة مدنية.

خلافات متصاعدة

مع وصول قادة فصائل الجبهة الثورية المسلحة، إلى العاصمة السودانية الخرطوم في 15 فبراير 2020م، وانضمامهم إلى هياكل السلطة الانتقالية (مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين)، في فبراير 2021م، بدا لوهلة، أن صفحة جديدة من الحياة السياسية قد تشهدها البلاد، خصوصاً فيما يتعلق بالأوضاع في إقليمي النيل الأزرق ودارفور، بالإضافة إلى ولاية جنوب كردفان.

ولكن، على عكس ما كان مأمولاً منها، بدأت الحكومة الانتقالية الثانية، التي أعاد تشكيلها حمدوك، وضمت أحزاباً سياسية وأطراف السلام، تأخذ طابعاً صراعياً سياسياً، ليس بدءاً بمقاعد المجلس التشريعي الانتقالي الافتراضية، أو انتهاء بتنامي العداء السياسي بين الحرية والتغيير وفصائل الجبهة الثورية المسلحة، والذي توّج باعتصام القصر الجمهوري في 16 أكتوبر 2021م، حتى وقوع الانقلاب بعد 9 أيام.

وصلت الخلافات بين الطرفين إلى الذروة، مع إطلاق قوى الحرية والتغيير، لإعلان سياسي بحضور حمدوك في الثامن من سبتمبر 2021م بقاعة الصداقة بالخرطوم، رأت مجموعة من الفصائل المسلحة، أن ما تم عمل إقصائي ضدها، لتصدر بدورها ميثاقاً سياسياً لاحقاً.

مرّ عام الاتفاق الأول، من أكتوبر 2020 إلى أكتوبر 2021، أي حتى وقوع الانقلاب، في خضم صراعات سياسية، في الوقت الذي لم يتم إحراز أي تقدم في اتفاق السلام، خاصة اتفاق الترتيبات الأمنية، ولم يعد أي من النازحين واللاجئين في دارفور إلى مناطقهم الأصلية.

تزامن ذلك، مع موجة نزاعات أهلية هي الأعنف منذ سنوات في دارفور، قتل فيها مئات الأشخاص برصاص مسلحين دون أن يتم تقديم المجرمين للعدالة.

في العام الثاني لاتفاق سلام جوبا، أي بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م، تفاقمت الأزمة السياسية في البلاد، وبدلاً من أن تمضي عملية السلام قدماً، باتت البلاد تقف على حافة المجهول، في خضم صراع سياسي حاد وسيولة أمنية متنامية.

مشاركة التقرير

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp

اشترك في نشرتنا الإخبارية الدورية

مزيد من المواضيع